استمع إلى الملخص
- سقوط نظام الأسد جاء نتيجة لتراكمات سياسية وعسكرية، حيث تدهورت علاقاته مع حلفائه التقليديين مثل إيران وحزب الله، مما يعكس الشقاق بين أطراف محور المقاومة.
- سقوط الأسد كان فرحة للسوريين وأحرار العالم، ويجب أن يكون حافزًا لإعادة بناء سورية، مع التركيز على النسيج الاجتماعي والعدالة الاجتماعية.
ما أن دخل اتّفاق وقف إطلاق النار بين الاحتلال الصهيوني وحزب الله، في الرابعة فجرًا من صباح يوم 27 نوفمبر/تشرين الثاني، حيز التنفيذ، حتّى أعلنت فصائلٌ معارضةٌ سوريةٌ عدّة، بقيادة هيئة تحرير الشام، عن معركة "ردع العدوان"، انطلاقًا من إدلب السورية، حيث معقل الهيئة الرئيسي. بعد ذلك بأحد عشر يومًا هرب بشار الأسد باتجاه العاصمة الروسية موسكو، لتسيطر الفصائل على العاصمة دمشق، وكلّ المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة الرئيس الهارب.
على ما يبدو لم يكن اختيار اللحظة اعتباطيًا أو مصادفةً، إذ أعدت فصائل المعارضة العدة على مدى أعوامٍ، وحشدت لبدء العملية العسكرية منذ أشهرٍ، كلّ هذه المؤشرات كانت واضحةٌ للنظام السوري السابق، الذي في خضم حرب الإبادة الجماعية على الفلسطينيين في قطاع غزّة، والضربات الإسرائيلية المتكررة في العمق السوري، إضافةً إلى توغل الجيش الإسرائيلي كيلومتراتٍ عدّةٍ في المنطقة المنزوعة السلاح وخلفها، لم يُبدِ أيّ ردة فعلٍ تجاهها، بل على العكس، تشير العديد من التقارير إلى تقديمه تطمينات للاحتلال الصهيوني، عن طريق النظام الإماراتي، وفي الوقت نفسه حشد النظام قواته في المناطق الشمالية الغربية، واستمر، بدعمٍ من الروس، بقصف المدنيين في المناطق التي تخضع لسيطرة المعارضة.
في خضم الحرب على قطاع غزّة، وتمددها إلى لبنان، كان الشاغل الرئيسي للرئيس الفار، بشار الأسد هو كيفية بقائه في السلطة، وهو الذي ظن نفسه؛ بعد ثلاثة عشر عامًا من بداية الثورة السورية؛ سيد من يلعب على التوازنات الدولية، وأفضل من يستطيع السير على خطٍ رفيعٍ، ويعرف كيف يحافظ على شعرة معاوية بينه وبين مختلف القوى الدولية والإقليمية. إلّا أنّه وخلال أكثر من عامٍ، وفي سبيل تحسين علاقته مع بعض الأنظمة العربية، وفي مقدمتهم النظامين السعودي والإماراتي، وبهدف إيصال رسالةٍ للاحتلال الصهيوني، شد الشعرة أكثر من اللازم، فانقطعت بينه وبين أقرب حلفائه (النظام الإيراني)، هذا ما بدا واضحًا خلال عملية ردع العدوان، إذ لم تملك إيران وميليشياتها في سورية أيّ رغبة بالدفاع عن الحليف السابق نظام الأسد.
سقط الأسد، وهذا السقوط فرحةً للسوريين ولكل أحرار العالم، ما دفع الغزيين لمشاركة السوريين فرحهم، رغم المجازر اليومية المستمرة
نتيجة ذلك، وبعد أنّ خرجت معظم ميليشيات إيران من سورية، بطلبٍ من بشار الأسد قبل هجوم المعارضة السورية المسلّحة، بات الأسد، الحليف الوثيق للنظام الإيراني، عبئًا على هذا النظام، أي على النظام الإيراني، ومستنفذًا له بشريًا وماليًا، فلو استثمرت إيران الخمسين مليار دولار، حسب تصريحات مسؤولين إيرانيين، في عجلة الاقتصاد الإيراني لكان أنجع لها أخلاقيًا واقتصاديًا، بل وربّما سياسيًا.
في المقابل، كان موقف جماعة أنصار الله (الحوثيين) في اليمن فكان أكثر وضوحًا من موقف الإيرانيين، وحمل في طياته شماتةً واضحةً، وكأن لسان حالهم يقول: هذه عقوبة من فضّل السعوديين علينا، إذ كتب "نصر الدين عامر" رئيس الهيئة الإعلامية لجماعة أنصار الله، على حسابه الرسمي على منصة إكس (توتير سابقًا): "لمن يسأل عن سلامة سفارتنا في سورية وطاقمها.. سفارتنا في سورية أغلقها بشار مقابل فتح السفارة السعودية". ثمّ أضاف: "غادر السفير التابع لحكومتنا رفقة طاقم السفارة، وعادوا إلى صنعاء منذ ذلك الحين، تقريبًا في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2023"، هذا التصريح ما هو إلّا إحدى دلائل الشقاق الحاصل بين بشار الأسد وباقي أطراف محور الممانعة، أو المحور الإيراني.
كما كان توتر العلاقات بين حزب الله اللبناني وبشار الأسد واضحًا في خطاب حسن نصر الله، أمين حزب الله الراحل، بعد اغتيال فؤاد شكر، إذ قال حسن بطريقةٍ لا تخلو من الاستهزاء بالأسد ونظامه "لن نقول نحتفظ بحقّ الرد في الزمان والمكان المناسبين، بل نقول سنردّ حتمًا وبيننا الأيام والليالي والميدان"
من وجهة نظر كاتب المقالة، ليس لعملية "طوفان الأقصى"، التي شنتها حركة حماس ضدّ الاحتلال الصهيوني، علاقةٌ مباشرةُ مع "ردع العدوان"، إلّا أنّها أعادت خلط الأوراق في المنطقة ككل، فغيرت العديد من المسارات، التي لم تقتصر على مسار التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني، بل تجاوزته إلى المسار الإيراني، الذي سعى إلى تحسين العلاقات مع الولايات المتّحدة، الذي كان واضحًا باتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والكيان الصهيوني، بعدما تنازل الأول عن حقوقٍ لا يمكن فهم أسباب التنازل عنها إلّا ضمن سياق تحسين العلاقات الإيرانية الأميركية. إضافةً إلى العديد من المؤشرات الأخرى التي دفعت الولايات المتّحدة إلى الإفراج عن ستة مليارات دولار من الأموال الإيرانية المجمدة. كما كانت الكاشف، المقصود عملية "طوفان الأقصى"، لما يسمى "محور المقاومة"، وسياسية وحدة الساحات (وحدة الساحات للدفاع عن طهران فقط)، فأظهرت أن الأسد هو الحلقة التي لا يمكن الوثوق بها، والمستعد دائمًا لتغيير الولاءات.
إن خلط الأوراق الذي فرضه "طوفان الأقصى"، إضافةً إلى تزايد بؤر الصراع حول العالم، الحرب الروسية الأوكرانية إحداها، أضعف القوى الدولية والإقليمية، ما فتح مجالًا أمام مناورة فصائل المعارضة السورية وتحركها. كما أن حالة التعفن التي وصل إليها نظام الأسد وإدارته، أعجزت حلفاءه وداعميه عن بث الروح به وبنظامه ولو لبرهةٍ من الزمن بغرض المد بعمر نظامه قليلًا. لذلك يبدو اختيار لحظة بدء "ردع العدوان" مقصودًا، ويحمل العديد من الأبعاد، منها البعد الأخلاقي، فلم يعد من المنطق اتهام فصائل المعارضة السورية بأنها أحد الأسباب التي دفعت حزب الله إلى القبول باتّفاق وقف إطلاق النار مع الاحتلال الصهيوني، ولربّما كانت أولى الرسائل، ضمن جملة الرسائل التطمينية، التي انهمرت منذ بدء العملية وإلى اليوم؛ "إننا لسنا خنجرًا بالظهر".
في سياق حديث التطمينات، تحاول الهيئة إرسال رسائل تطمينية إلى الجميع، خارج سورية وداخلها، كما كان تعدد الرسائل وتناقضها ملفتًا، من رفع العلم الفلسطيني إلى جانب علم الثورة السورية على قلعة حلب، ومن ثم اللقاء الحصري لأحمد الشرع مع قناة سي أن أن "CNN" الأميركية (التي لا ينسى دورها التضليلي في حرب غزّة، ومن ثمّ امتد دورها إلى دمشق من خلال فيديو أقلّ ما يقال عنه إنه فضيحةٌ لمسرحيةٍ فاشلةٍ، حين ادعت مراسلتهم تحرير أحد المعتقلين من سجون النظام السابق، ليتبين لاحقاً أن الممثل، المعتقل المزعوم، أحد عناصر المخابرات السورية)، وصولاً إلى تطمينات موجهةً للاحتلال الصهيوني، مفادها رغبة سورية في العيش بسلامٍ.
إن البراغماتية التي يظهرها أحمد الشرع، الجولاني سابقًا، خلال هذه الفترة تذكر للأسف ببراغماتية سلفه الفار بشار الأسد، لكن وللموضوعية من غير المنصف للتحليل المنطقي، رغم المؤشرات الظاهرة، إصدار أحكامٍ سريعةٍ بحقّه، وذلك نتيجة قصر الفترة الزمنية منذ هروب الأسد، على عكس سلفه الذي حكم سورية 24 عامًا، بأمر أبيه الذي حكمها 30 عامًا.
لم يكتف الاحتلال الصهيوني باحتلال الجولان منذ أكثر من 57 عامًا، بل انتهز الفرصة وتوسع ليحتل كامل جبل الشيخ، وأجزاءٍ واسعةٍ من ريف دمشق والقنيطرة
امتد حكم الأسدين الأب والابن لـ54 عامًا، ذاق خلالها السوريون ويلات الظلم والإفقار والتقسيم، ولعل تكشف خبايا المعتقلات في سورية كان أحد الأدلة الدامغة، ليس على معاناة السوريين فحسب، بل الفلسطينيين أيضًا، بعدما تاجر نظام الأسد بقضيتهم سنواتٍ طويلةً، امتدت على طول فترة حكم الأب والابن. فلا يمكن للفلسطينيين نسيان دور الأسد القذر في أيلول الأسود، ومن ثمّ دعمه القوى اليمنية اللبنانية، على حساب القوى الوطنية ومنظّمة التحرير الفلسطينية، وهل يمكن أن تمحى مجزرة تل الزعتر من الذاكرة الفلسطينية بسهولةٍ؟
قد يحاجج بعضهم، ربّما عن جهلٍ بالحقائق؛ أنّ نظام الأسد قد عامل الفلسطينيين في سورية معاملة السوري على أقلّ تقديرٍ، ما جعل الفلسطيني يتمتع بوضعٍ مميزٍ مقارنةً بدول اللجوء الأخرى.
هذه المعاملة مثبتةٌ بالقانون رقم 260 لعام 1956 الذي سنه البرلمان السوري في حينه، وصادق عليه رئيس الجمهورية شكري القوتلي، مع العلم أن هذا القانون لا يشمل كلّ الفلسطينيين المقيمين في سورية، إنّما اقتصر على من لجأوا إليها قبل تاريخ صدوره، لذلك هناك جزءٌ ليس بالقليل من الفلسطينيين المقيمين في سورية لا يشملهم القانون. كما أن نظام الأسد قيد القانون مرات عدّةٍ عن طريق اللوائح التنظيمية، وكان آخرها قرار مجلس الوزراء رقم 1011 لعام 2023، الذي نص على تعديلٍ هو: (يقصد بعبارة – غير السوري – أيّ شخصٍ طبيعيٍ أو اعتباريٍ لا يحمل جنسية الجمهورية العربية السورية)، أي تقييد القانون 260 الذي اعتبر الفلسطيني بحكم السوري.
بعيدًا عن نصوص القانون، مثّل الفلسطينيون المقيمون في سورية جزءًا من المجتمع السوري، وحالهم حال هذا المجتمع، لذا انقسم الفلسطينيون إلى مؤيدٍ ومحايدٍ ومعارضٍ، انقسامٌ انعكس على الفصائل الفلسطينية أيضًا، ونالت المخيّمات الفلسطينية حصتها من قصفٍ وحصارٍ وتدميرٍ، وعانى الفلسطينيون من التهجير والاعتقال والقتل.
ضبط نظام الأسد، "المقاتل الكبير والمقاوم" بحسب وصف الخامنئي، الحدود مع الجولان السوري المحتل، ومنع وصول السوريين والفلسطينيين إلى القنيطرة، والعديد من قرى ريف دمشق، إلّا من خلال تصريحٍ وموافقةٍ أمنيةٍ، فكانت الحدود الأكثر هدوءًا بالنسبة للكيان الصهيوني، حتّى أنّها كانت أهدأ من الحدود مع مصر والأردن، المطبعتين مع الاحتلال. هذا الهدوء، إضافةً إلى طبيعة الجولان وتضاريسه، جعله من أهمّ المناطق السياحية الواقعة تحت سيطرة الاحتلال. كما أنّ قصف الاحتلال الصهيوني لكامل ترسانة الأسلحة السورية بعد هروب الأسد، ما هو إلّا دلالةٌ على خروج هذه الترسانة من الأيدي الأمينة، التي وثق بها الاحتلال سابقًا، أي خروجها عن سيطرة الأسد ونظامه.
لم يكن بقاء عائلة الأسد في الحكم 54 عامًا نتيجة قمع الشعب السوري وتقسيمه عموديًا إلى إثنياتٍ وطوائف وملل يغذون الصراعات في ما بينهم فقط، إنّما كان نتيجة تحويل سورية إلى دولةٍ تابعةٍ أيضًا، سواء للدول الإمبريالية، أو لتلك الدول التي تدعي محاربة الإمبريالية. ولم يكتف هذا النظام بتلك التبعية، بل جر على سورية احتلالاتٍ مباشرةٍ، ما زالت ترزح سورية إلى اليوم تحت رحمتها (مثل أميركا وإسرائيل وروسيا وتركيا وإيران قبل هروب الأسد).
كلّ هذه القوى كانت مستفيدة من وجود الأسد، لذلك دافعوا عن وجوده حين انتفض الشعب السوري مطالبًا برحيله، رغم ادعاء بعضهم صداقته مع الشعب السوري، صداقةٌ لا يمكن تصديقها بعد ما اختبرناه منهم، سواء في سورية أو غيرها من البلدان.
إن البراغماتية التي يظهرها أحمد الشرع، الجولاني سابقًا، خلال هذه الفترة تذكر للأسف ببراغماتية سلفه الفار بشار الأسد
سقط الأسد، وهذا السقوط فرحةً للسوريين ولكل أحرار العالم، ما دفع الغزيين لمشاركة السوريين فرحهم، رغم المجازر اليومية المستمرة. سقوطٌ دفع ثمنه الشعب السوري من لحمه ودمه وعمره. سقوطٌ يجب أن يكون حافزًا لإعادة بناء سورية، والأولوية اليوم لإعادة بناء النسيج الاجتماعي، وإلغاء الصراعات لنصل إلى مجتمعٍ متماسكٍ تضمن العدالة الاجتماعية تماسكه هذا، مجتمعٍ سوريٍ منسجمٍ يعيش بعضه مع بعض بدلاً من مجتمعاتٍ متصارعةٍ تعيش بعضها بجانب بعض. من حق الشعب السوري النهوض وبناء دولةٍ قويةٍ تكون قادرةً على الحفاظ على كرامة كلّ مواطنيها، وعلى سيادة سورية، فلا داعٍ للتذكير أن أبناء الجولان، سواء المهجرين منهم أو الصامدين على أرضهم، سوريون، والدفاع عنهم واجبٌ، ويتطلّب استرداد الأراضي المحتلة ممن نغص الفرحة السورية بسقوط الطاغية، ولم يترك جزءًا من سورية لم يقصفه ويستبيحه، مدمرًا كلّ الأسلحة التي خزنها الأسد سابقًا حتّى استخدمها ضدّ الشعب السوري فقط، كما استخدمها سابقًا أيضًا ضدّ الشعب الفلسطيني واللبناني في لبنان.
لم يكتف الاحتلال الصهيوني باحتلال الجولان منذ أكثر من 57 عامًا، بل انتهز الفرصة وتوسع ليحتل كامل جبل الشيخ، وأجزاءٍ واسعةٍ من ريف دمشق والقنيطرة، حتّى بات على مشارف دمشق، كما هجر السوريين من قراهم خلال الأيّام القليلة الماضية.
إن الشعب السوري ظلم ظلمًا عظيمًا، إذ استشهد منه مئات الآلاف، ومئات الآلاف كانوا يعذبون في المعتقلات، والملايين هجروا وصاروا لاجئين ونازحين. هذا الشعب المقهور وبعز قهره كان الظهر الحامل، والصدر الحاضن للقضية الفلسطينية، والنضال الفلسطيني السوري ضدّ الاحتلال الصهيوني مصلحةٌ مشتركةٌ للشعبين، كما لكل شعوب المنطقة والعالم.