أطلقت هايتي، في منطقة الكاريبي، خلال الأيام الماضية، جرس الإنذار مجدداً، مع عودة وباء الكوليرا إلى هذا البلد، على وقع الأزمة الأمنية والاقتصادية الخانقة التي يواجهها منذ مدة، ولا سيما بعد حادثة اغتيال رئيس هايتي جوفينيل مويس، في يوليو/تموز 2021، وتولي أرييل هنري رئاسة حكومة تصريف الأعمال منذ ذلك الحين.
ومع ارتفاع أعداد الإصابات والوفيات بالوباء، الذي كانت البلاد قد شارفت على إعلان خلوها منه، عادت أنظار المجتمع الدولي للتوجه إلى هايتي، المستعمرة الفرنسية السابقة، التي تعيش منذ مقتل مويس، أزمة سياسية فاقمها استغلال العصابات لحادثة الاغتيال لتوسيع نفوذها، وتعزيز قبضتها على البلاد.
وإذا كانت أعمال العنف والقتل والخطف قد ازدادت باطراد منذ اغتيال الرئيس الهايتي العام الماضي، فإنها بلغت مستوى غير مسبوق، في شهر سبتمبر/أيلول الماضي، إثر قرار رئيس حكومة تصريف الأعمال، رفع سعر المحروقات. ودفع ذلك تحالفاً من العصابات النافذة في هايتي، إلى السيطرة الشهر الماضي، على محطة "فارو" للمحروقات، وهي محطة استراتيجية في العاصمة بور أو برنس، وخروج تظاهرات شعبية موازية ضد حكم هنري، الذي تراه شريحة واسعة من المواطنين امتداداً لنظام الفساد السياسي.
سيطرت العصابات على محطة رئيسية للوقود في بور أو برنس
ومع النقص الحاد في المحروقات الذي أصاب البلاد، والذي أثّر في تأمين المياه النظيفة، سجّل الوضع الصحي في هايتي تدهوراً سريعاً، ما جعل أيضاً الدول المجاورة تدق ناقوس الخطر من تدفق المهاجرين، ولا سيما مع تسجيل هذا البلد الكاريبي حالات جديدة من وباء الكوليرا.
حكومة هايتي تطلب الدعم العسكري الدولي
ولمواجهة تدهور الوضع الأمني، في ظلّ عجزها عن توفير عديد من الشرطة مدرب على مواجهة العصابات المحترفة، اتجهت حكومة تصريف الأعمال في هايتي إلى طلب الدعم العسكري الدولي، من دون أن تكون كثيراً محبّذة لعودة القبعات الزرق (القوات الأممية)، التي يلقي سكّان البلاد عليها باللوم في تفشي الكوليرا سابقاً، حين حصد هذا الوباء حياة أكثر من 10 آلاف مواطن بين 2010 و2019. كذلك طلبت حكومة هايتي من الولايات المتحدة، التي يرى سكان الدولة الكاريبية الفقيرة أنها تواصل دعم حكومة أرييل هنري، تأمين كوريدور (ممر) مائي لإيصال المحروقات إلى البلاد، في ظلّ استمرار العصابات بالسيطرة على محطة فارو.
ويبدو أن واشنطن تدرس هذا الطلب، فيما شهد محيط البيت الأبيض يوم الأحد الماضي، تظاهرة نظّمها ناشطون من هايتي، دعوا فيها الرئيس جو بايدن إلى وقف دعمه لحكومة بلادهم. وحمل المتظاهرون لافتات كُتب عليها: "دعوا الهايتيين يقرّرون مصير بلدهم". وقالت النائبة في مجلس النواب الأميركي، ماكسين واترز، في بيان، إن "الكثير من الهايتيين مقتنعون بأن الولايات المتحدة تدعم بشكل نشط بقاء هنري في السلطة"، مشددة على أن "القمع في هايتي يجب أن يتوقف".
من جهته، فضّل أرييل هنري، اعتماد سياسة الهروب إلى الأمام، وسط الأزمة، إذ طلب الأسبوع الماضي، رسمياً، مساعدة خارجية عسكرية، لمواجهة العصابات، مؤكداً أنه يعتزم إجراء انتخابات جديدة في البلاد، بأسرع وقت ممكن. لكن معظم الهايتيين يعتقدون أنّه من المستحيل إجراء انتخابات في أي وقت قريب، في ظلّ تفلت العنف الناجم عن استباحة العصابات لمقدرات البلاد وأمنها.
يلقي سكّان هايتي باللوم على القوات الأممية في تفشي الكوليرا بالبلاد سابقاً
وقال سفير هايتي لدى الولايات المتحدة، بوكيت إدموند، يوم الجمعة الماضي، على هامش الجمعية العامة لمنظمة الدول الأميركية في ليما: "أستطيع أن أؤكد أننا طلبنا المساعدة من شركائنا الدوليين"، مضيفاً: "هذه قضية أمنية لا تستطيع شرطتنا الوطنية التعامل معها بمفردها". وأكد أن المساعدة طلبت رسمياً الخميس، وأن هايتي تنتظر "المجتمع الدولي والشركاء الدوليين ليقرروا الشكل الذي ستتخذه". من جهتها، قالت الولايات المتحدة السبت، إنها تدرس طلب هايتي.
الولايات المتحدة وكندا أول المدعوين
ولا تبدو السلطة في هايتي محبذة لعودة "القبعات الزرق"، وهو ما عبّر عنه صراحة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، نهاية الأسبوع الماضي، حين قدّم إلى مجلس الأمن الدولي، في رسالة، مقترحاً بمجموعة خيارات للتعامل مع أزمة هايتي. ومن المرتقب أن ينظر المجلس في الأزمة في 21 أكتوبر/تشرين الأول الحالي. واقترح غوتيريس تشكيل "قوة تدخل سريع" لمساعدة شرطة هايتي، من دون أن يقترح نشر هذه القوة من قبل الأمم المتحدة.
وكتب ستيفان دوجاريك، المتحدث باسم غوتيريس، في بيان، أن "الأمين العام يحض المجتمع الدولي، بما في ذلك أعضاء مجلس الأمن، على النظر بشكل طارئ في مطلب حكومة هايتي بالنشر الفوري لقوة دولية متخصصة للتعامل مع الأزمة الإنسانية". وأضاف أن غوتيريس "يبقى قلقاً جداً بشأن الوضع في هايتي التي تواجه تفشي الكوليرا في سياق تدهور أمني دراماتيكي أصاب البلاد بالشلل".
وأول من أمس الاثنين، طلب سفير هايتي في واشنطن، صراحة، من الولايات المتحدة وكندا تولي زمام المبادرة في تشكيل القوة المسلحة لمواجهة العصابات في بلاده. وقال إدموند، بحسب ما نقلت عنه "فرانس برس": "نتمنى أن نرى جيراننا مثل الولايات المتحدة وكندا يأخذون زمام المبادرة ويتحركون بسرعة". وأضاف: "هناك تهديد كبير حقاً لرئيس الوزراء. إذا لم يُفعَل أي شيء بسرعة، فهناك خطر تعرض رئيس دولة آخر للقتل في هايتي"، مشيراً إلى اغتيال جوفينيل مويس في 2021.
ولم تعرض أي دولة حتى الآن توفير أفراد لهذه القوة المسلحة. لكن الهايتيين نزلوا أول من أمس إلى الشارع، للتظاهر ضد طلب حكومتهم الدعم الخارجي. وتخللت التظاهرة العنف، بينما استخدمت الشرطة الغاز المسيل للدموع لتفريق متظاهرين قاموا بعمليات نهب. وتحدثت وكالة "فرانس برس" عن سقوط قتيل وعدد من الإصابات.
وقال متظاهر للوكالة: "نحتاج بالتأكيد لتطوير بلدنا، لكننا لا نحتاج إلى قوات" على الأرض، متّهماً المجتمع الدولي بـ"التدخل بشؤون هايتي الداخلية"، ومشيراً إلى أن الحكومة "لا تملك شرعية طلب المساعدة العسكرية". وخرجت احتجاجات أيضاً في عدة مدن أخرى في أنحاء البلاد.
وتُعَدّ هايتي البلد الأفقر في الأميركيتين. وأعلنت وزارة الصحة الاثنين تأكيد 32 إصابة بالكوليرا و16 وفاة، بينما سجّلت 224 إصابة محتملة في الفترة من 1 أكتوبر حتى التاسع منه.
(رويترز، فرانس برس، أسوشييتد برس)