لا يمكن فصل حروب العصابات الدموية الجارية في سيتي سولاي، في ضواحي العاصمة الهايتية بورتو برنس الأخيرة، عن تاريخ البلاد غير المستقر، والنابع من دخول مكتشف أميركا، الإيطالي كريستوفر كولومبوس، إليها في رحلته الأولى إلى "العالم الجديد"، في 6 ديسمبر/كانون الأول عام 1492، مروراً بالانقلابات المتتالية التي شهدها تاريخ البلاد، ووصولاً إلى وقوعها في بيئة صعبة مناخياً، بسبب كثافة الأعاصير الموسمية التي تضربها، ووجودها على رأس الصفيحة التكتونية الكاريبية، التي تجعل من الزلازل حدثاً "اعتيادياً" فيها.
وأعلنت الأمم المتحدة، مساء أول من أمس الاثنين، أن "الحصيلة الإجمالية للقتلى والجرحى والمفقودين من جراء أعمال عنف بين عصابات في سيتي سولاي بين 8 يوليو/تموز الحالي و17 منه، تخطّت 471 شخصاً".
وأشارت إلى تقارير عن "حوادث خطيرة من العنف الجنسي ضد النساء والفتيات وكذلك الفتيان الذين يتم تجنيدهم من قبل العصابات".
حُل الجيش في عام 1995 بسبب تاريخه الطويل في الانقلابات
وجاء في البيان: "فرّ حوالي 3000 شخص من منازلهم، بما في ذلك مئات الأطفال غير المصحوبين بذويهم، في حين تم تدمير أو إحراق 140 منزلاً على الأقل".
ونقل البيان عن منسّقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في هايتي أولريكا ريتشاردسون قولها، إن "الاحتياجات الإنسانية في سيتي سولاي هائلة وتتزايد بسبب الفقر ونقص الخدمات الأساسية، بما في ذلك الأمن، والارتفاع الأخير في موجة العنف".
وأكدت ريتشاردسون التزام الأمم المتحدة يمواصلة تقديم المساعدة في سيتي سولاي، لكنها شدّدت على وجوب "إيجاد نهج أكثر استدامة وشمولية للتنمية المتوسطة وطويلة الأجل".
واتسع نطاق أعمال العنف التي تمارسها عصابات وسط إفلات كبير من العقاب، إلى ما بعد الأحياء الفقيرة للعاصمة الهايتية، وقد نفّذت سلسلة عمليات خطف.
وفي يونيو/حزيران الماضي، سُجّلت 155 عملية خطف، مقارنة بـ118 في مايو/أيار الماضي، وفق تقرير مركز التحليل والبحث في مجال حقوق الإنسان. ولم يصدر رئيس الوزراء أرييل هنري أي تعليق إلى الآن بشأن أعمال العنف المتفشية في سيتي سولاي.
أسباب الاضطرابات
وتُعدّ الأحداث الأخيرة محطة جديدة في سلسلة الأزمات، بما فيها السياسية، التي تضرب هايتي منذ الانتخابات التي أجريت في عام 2016، وقد فاقمها اغتيال الرئيس جوفينيل مويز في مقر إقامته في 7 يوليو 2021.
ومنذ مقتله تنامى نفوذ العصابات، التي لم يكن بعيداً عنها، بسبب تحالفه مع بعضها. حتى أن مقتل مويز يبقى غامضاً، على الرغم من الإشارة إلى أدوار أميركية وكولومبية فيه.
ونشأت العصابات بسبب التاريخ المضطرب لهايتي، وأيضاً بسبب تفكيك الجيش في عام 1995 على يد الرئيس الأسبق، الكاهن الكاثوليكي جان ـ برتران أريستيد، على خلفية الانقلابات العديدة التي انخرطت فيها المؤسسة العسكرية منذ نحو قرنين.
حتى أن بعض العصابات، لا تعتبر نفسها عصابة بل "حزباً سياسياً يقاتل لتحقيق أهدافه". ومن هذه "العصابات"، عصابة يقودها الشرطي السابق، جيمي "باربيكيو" شيريزييه، الذي أقفل محطات توزيع الوقود، مسبباً بأزمة طاقة خانقة. وساهم ذلك في نمو الفساد، المتأصل أساساً، بصورة كبيرة في البلاد.
وتحدث تقرير لوكالة "الأناضول" عن ارتباط العصابات بدول عدة. ومع أن مويز سعى لإعادة تفعيل الجيش في عام 2017، لكن عديده بلغ 500 جندي فقط، بينما تضم العصابات بين 20 و30 ألف عنصر، في بلاد يسكنها 11 مليون شخص.
كما أن عدد عناصر الشرطة في هايتي يبلغ نحو 15 ألف عنصر، لكن سلاحها قديم، بينما تملك العصابات أسلحة متطورة.
لكن المسألة غير مرتبطة بهذا الحيّز الزمني الصغير، فلمعرفة اضطرابات هايتي، التي تتشارك جزيرة هيسبانيولا مع دولة الدومينيكان، يجب العودة إلى الوراء.
فبعد نزول كولومبوس في الجزيرة، برفقة بحّارة إسبان، بحكم حصوله على تمويل من مدريد، بدأ عهد الاستعمار الإسباني لجزيرة هيسبانيولا.
وفي عام 1697، تقاسمت إسبانيا مع فرنسا جزيرة هيسبانيولا، فحصلت مدريد على ثلثي الجزيرة المعروفة باسم الدومينيكان، وفرنسا على الثلث الباقي، المعروف بهايتي.
وبعد اندلاع الثورة الفرنسية في عام 1789، وصلت أصداؤها إلى هايتي، فانتفض السكان الأصليون ضد الحكم الفرنسي في عام 1791، واستمر القتال، مع ارتكاب الفرنسيين المجازر بحق السكان، حتى نيل هايتي استقلالها في عام 1804، وأسماها ثائرها جان ـ جاك ديسالين باسمها، والذي يعني "أرض الجبال العالية" بلغة شعب تاينو، الشعوب الأصلية للعديد من دول أميركا الوسطى.
نصّب ديسالين نفسه "إمبراطوراً مدى الحياة" لهايتي، البالغة مساحتها 27750 كيلومتراً مربعاً، وعمل على إبادة كل السكان البيض من أصول فرنسية، لكنه أعفى عن جنود بولنديين ومستعمرين ألمان ومجموعة من الأطباء الأوروبيين.
وخشية من تمدد الانتفاضة الهايتية إلى الولايات المتحدة، وتحفّز العبيد على المطالبة بحريّتهم، رفض الرئيس الأميركي توماس جيفرسون الاعتراف بالجمهورية الجديدة.
وبعد وفاة ديسالين في 1806، انقسمت البلاد إلى جزءين: حكم ملكي بقيادة هنري كريستوف (هنري الأول) شمالي البلاد، وحكم جمهوري بقيادة ألكساندر بيتيون، في الجنوب، حول بورتو برنس.
يتعامل السياسيون والعديد من الدول مع العصابات في هايتي
وبعد انتحار كريستوف في عام 1820، وحّد جان ـ بيار بوييه، خلف بيتيون، هايتي، ثم شن هجوماً على الدومينيكان، ليوحّد جزيرة هيسبانيولا بين عامي 1821 و1844، حين نجح الثوار الدومينيكانيون في تحرير بلادهم.
وبين عامي 1849 و1859، أعلن فوستان سولوكي نفسه امبراطوراً للبلاد، ممضياً وقته في محاربة الدومينيكانيين، حتى هزيمته وخلعه من السلطة.
وبعد ذلك، غرقت البلاد في عنف متناسل وانقلابات متلاحقة، حتى بدأت ألمانيا والولايات المتحدة بإبداء اهتمامهما بإنشاء مرافئ في هايتي، لكونها ثالث أكبر بلاد أميركا الوسطى ونقطة استراتيجية جيوبوليتيكاً.
الاحتلال الأميركي
استمر التجاذب الأميركي ـ الألماني في هايتي، حتى ديسمبر 1914، حين قررت واشنطن سحب أموالها من المصرف المركزي الهايتي، ثم اجتاحت البلاد وحكمتها بين عامي 1915 و1934.
وبعد الانسحاب عادت البلاد إلى خلافاتها الداخلية، التي أوصلت عائلة دوفالييه إلى السلطة: الأب فرانسوا، المعروف بـ"بابا دوك"، والابن جان كلود.
فحكم الأول هايتي بين عامي 1957 و1971، والثاني بين عامي 1971 و1986. وفي عهد دوفالييه الأب، تمّ إضعاف الجيش، مع إنشائه مليشيا "تونتون ماكوت"، التي استخدمها لتصفية معارضيه السياسيين.
وواصل ابنه مسار والده، لدرجة أن ما بين 40 و60 ألف هايتي قُتلوا في العهدين. وغادر الابن البلاد في عام 1986 إلى فرنسا، بعد تظاهرات عمّتها، وفي ظلّ ضغوط أميركية.
سقطت عائلة دوفالييه، لكن مليشيا "تونتون ماكوت" استمرت بالعمل، مانعة إجراء انتخابات كانت مقررة في عام 1987، قبل إرجائها إلى عام 1988.
ولم يشارك فيها سوى 4 في المائة من الهايتيين، الذين انتخبوا ليزلي مانيغا رئيساً، لكنه تمّت الإطاحة به بانقلاب في يونيو 1988، قبل وقوع انقلاب آخر في سبتمبر/أيلول 1988.
وفي عام 1990 بدأ عهد الكاهن جان ـ برتران أريستيد برئاسة هايتي، إلا أنه تمت الإطاحة به في عام 1991.
وفي عام 1994، نشرت الولايات المتحدة 20 ألف جندي في البلاد، التي أعادت أريستيد إلى السلطة، مجرياً إصلاحات لتفعيل الاقتصاد، وأنهى الجيش فعلياً، منعاً من حصول انقلاب ضده. وهو ما سمح بتطور المليشيات إلى عصابات.
وفي عام 2004 اندلعت احتجاجات جديدة في هايتي، مطيحة بأريستيد، الذي اتهم الأميركيين بتدبير انقلاب ضده.
ودفعت هذه التطورات إلى إرسال الأمم المتحدة "بعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في هايتي" (مينوستاه)، استبدلتها في عام 2017 بـ"بعثة الأمم المتحدة لدعم العدالة في هايتي" (مينوجوسته).
(العربي الجديد، الأناضول، فرانس برس)