وصل الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى البيت الأبيض بميزتين لم تتوافرا معاً لمن سبقوه، أُولاهما ترتبط بخبرته المفترض أن تكون واسعة في الشؤون الخارجية بحكم خدمته الطويلة في مجلس الشيوخ (36 سنة) وفي البيت الأبيض كنائب رئيس لفترة 8 سنوات، والثانية تمرّسه خلال هذه المدة في لعبة المساومات وحبك التوافقات بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الكونغرس لتمرير المشاريع وسنّ القوانين. مع ذلك كانت خسائره فادحة في المجالين طوال سبتمبر/أيلول الماضي، وكانت "الترامبية" المستفيد الأكبر منها.
في الشق الخارجي، نسخ بايدن تقريباً طريقة سلفه دونالد ترامب في الانسحاب من أفغانستان، كما في التعامل مع الحليف الفرنسي في صفقة الغواصات الأسترالية. وكان ما كان من انتكاسات لإدارته في الملفين.
أما في الشق الداخلي، فقد كانت خسارته أكبر. عجزه عن حمل الديمقراطيين على تمرير أجندته في الكونغرس، وهم يشكلون الأغلبية في مجلسيه، كشف عن تجاهل في صفوف حزبه لرئاسته. أقلية منهم، 2 في مجلس الشيوخ وحوالى عشرة في مجلس النواب، وقفت بوجه المشروع ورفضت أجندة الرئيس بزعم أنها مكلفة و"اشتراكية التوجه".
وعلى أساس هذا التذرع لجأوا إلى المماطلة وشراء الوقت واللعب على المطالب المفتوحة والتعجيز على طريقة تشكيل الحكومة اللبنانية، وبما أدّى إلى نسف ثلاثة مواعيد للتصويت في مجلس النواب خلال الأسبوع الماضي. حتى زيارة بايدن للكونغرس يوم الجمعة الماضي واجتماعه بهذا الفريق، انتهت إلى غير جدوى وتأجل التصويت إلى إشعار آخر "قد يكون بعد أسابيع".
خطورة النكسة لأجندة الرئيس أنها جاءت من داخل بيته الديمقراطي. لكن الأخطر فيها أن لها أبعاداً سياسية سلبية قد تكون من نوع "كسر العظم" في المدى غير البعيد، وبالتحديد في انتخابات الرئاسة لعام 2024. فالشق الاجتماعي من مشروع البنية التحتية بكلفة 3.5 تريليونات دولار من شأنه تصحيح الكثير من الخلل والتفاوت الطبقي الذي استفحل في العقدين الأخيرين وباعتراف جهات عديدة في الحقلين العام والخاص التي كثرت تحذيراتها في السنوات الأخيرة من اتساع الفجوة بين الشرائح ومن ضمور الطبقة الوسطى التي تشكل العمود الفقري للاقتصاد الأميركي، وبالتالي للاستقرار واستمرار السلم الأهلي. اختلال هذه المعادلة أدى في اعتقاد باحثين ومحللين، إلى تنامي النفور والرفض، بل العداء للسلطات والمؤسسات من باب اعتبارها "فوقية" وغير معنية بأوضاع العامة من المواطنين الذين يعيش منهم "40% على الراتب بين أول الشهر وآخره"، ومن بينهم أكثر من 40 مليون نسمة ليس لديها تأمين صحي.
ويشكل الأميركيون البيض من ذوي الدخل المحدود وغير خريجي الجامعات، وخاصة العنصريين، العمود الرئيسي لأنصار الرئيس السابق ترامب. خلخلة هذا العمود تكون من خلال تحسين أوضاع هذه الشريحة وغيرها، وتمكينها من "استرداد الشعور بالكرامة والإنصاف". وهذا ما يؤدي إليه تمرير هذا المشروع الاجتماعي، حسب المروجين لأجندة بايدن. فهذه الأجندة بشموليتها وطابعها التحويلي في توزيع الثروة باعتبارها تسدّ ثغرات صحية وضريبية وتربوية وتعليمية وخدماتية غير مسبوقة، من شأنها تنفيس النقمة ونزعة العنف في صفوف الرافضين الذي يقوي الخطاب الشعبوي على استمالتهم واستخدامهم كرأس حربة في مواجهات انتخابية وسياسية وتصفية حسابات تخشى الجهات الأمنية من انفلاتها في نقطة ما على الطريق.
ويزيد التخوف لدى أكثر من جهة في واشنطن أن ترامب يبدو كمن يمهد لخوض معركة 2024، وبالتالي تجديد اجتذابه لهذه الشرائح الناقمة على الأوضاع، خاصة أن قاعدته الانتخابية المحافظة ما زالت متماسكة. في استطلاع أخير أجراه المركز السياسي في جامعة فيرجينيا، يذهب 52% من مؤيديه إلى حد المطالبة بالانفصال، بحجة أن العيش مع الآخرين "لم يعد يطاق".
الرئيس بايدن لم ينجح حتى الآن في رأب الصدع في حزبه الديمقراطي. الواضح أن مَونته ضعيفة على جماعته. ولهذا تجمّد مشروعه المفصلي وحتى وقت لاحق. هو الآن يراهن على الوقت كما على قيامه بحملة في الولايات لتسويق برنامجه الذي صارت رئاسته مرهونة به. واحتمال النجاح في مسعاه كبير، لأن ما يطرحه يحظى بتأييد واسع. وقد يتوسع أكثر على اعتبار أن يطاول معظم جوانب حياة ومصالح الأغلبية من الأميركيين. لكن للفريق المعترض من النواب والشيوخ الديمقراطيين، حساباته وأولوياته الانتخابية، خاصة الذين يمثلون منهم مناطق منفتحة على ترامب وخطابه ومطالبته بمحاسبة خصومه. وعليه، ليس من السهل أن يتزحزح هؤلاء، حتى ولو أن الرئيس أبدى على ما تردد استعداده على التراجع بالاضطرار عن 3,5 تريليونات دولار إلى 2 تريليون أو اقل. ومثل هذه الخطوة الاضطرارية دليل آخر على وقوع الإدارة مرة أخرى في سوء التقدير، وقد تكون متأخرة كما تأخر الرئيس في النزول إلى ساحة المعركة في الكونغرس.