قبل أيام من بلوغ الغزو الروسي لأوكرانيا نصف عام، اليوم الأربعاء، نشرت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية تقريراً طويلاً بعنوان "الطريق إلى الحرب"، أكد ما كان قد ذهب إليه محلّلون وخبراء كثر سابقاً عن الأهداف الروسية الحقيقية من الغزو، وأن موسكو لا ترغب بالتفاوض، بل بتدمير أوكرانيا وإلغائها عن الخريطة.
ويؤكد متابعون للتحركات العسكرية الروسية، ومن بينهم كبير باحثي المركز الدنماركي للدراسات الدولية، فليمنغ سبيدسبويل، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن ما نشرته "واشنطن بوست" كان جرى تداوله في 24 فبراير/ شباط الماضي، تاريخ بدء الغزو، عن الخطة الروسية، وأن الحرب التي تصر موسكو على تسميتها "عملية عسكرية خاصة" كانت "ستدوم بضعة أيام، تحاصر فيها القوات الروسية كييف ويندفع الجيش الروسي بقوة داخل العمق الأوكراني"، على أن يبقى غرب أوكرانيا المنطقة الوحيدة التي تسمى مستقبلاً "أوكرانيا"، وعاصمتها لفيف.
ويعني عدم تحقق ذلك، ببساطة، أن حلف شمال الأطلسي (الناتو) سرعان ما كثّف دوره لإعاقة "العملية العسكرية الخاصة"، من دون أن يفوت الفرصة التي أتيحت له للتوسع ومحاصرة روسيا، متجاهلاً "خطوطها الحمراء". وعلى الرغم من أن الحلف الغربي تجنب الظهور في صورة المواجهة المباشرة مع روسيا، إلا أن موسكو تدرك جيداً أن ما تواجهه من تحديات في الغزو ليس فقط بفضل إصرار الأوكرانيين على المواجهة، بل بسبب الحجم الهائل للتسليح والمساعدات الاستخبارية الغربية لكييف، والمستمر بعد 6 أشهر، متوقعة استمرار هذا الدعم طالما استمرت الحرب.
روسيا، بالنسبة لعموم أوروبا، لم تعد الشريك الموثوق
ولم تثن الخلافات بين أقطاب الحلف الغربي، على الضفة الأوروبية للأطلسي، حيال شكل وحجم الدعم السياسي والعسكري لأوكرانيا أغلبية دول الأطلسي عن اعتبار دعم أوكرانيا بمثابة بناء حائط صدّ في وجه موسكو. ويبدي المتخوفون أيضاً من خطط موسكو المستقبلية حيال دولهم الاستعداد لدفع المزيد من الأثمان.
"الأطلسي" على أبواب روسيا
دفع انخراط الناتو، ولو بصورة غير مباشرة، بالحرب، وإحباطه مخطط موسكو حول الحرب "الخاطفة"، الكرملين للاعتراف بأنه يواجه عملياً حلف شمال الأطلسي، ما جعل التلويح بالسلاح النووي يُقرأ غربياً، باعتباره تعبيراً عن "إحباطات روسية"، من قدرة الحلف على تخطي الخطوط الحمراء الروسية.
ساق قادة الكرملين شعار "الغرب خدع روسيا"، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لشرح ما تعنيه خطوطهم الحمراء في وجه توسع "الناتو". وأكدت وقائع الحرب في أوكرانيا مصاعب روسيا غير المسبوقة منذ انهيار جدار برلين قبل نحو 30 عاماً، وتحديداً بسبب الحلف. ومن أبرزها أن روسيا تواجه اليوم جيشاً أوكرانياً مختلفاً عمّا كان عليه في 2014 (تاريخ ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم). فإعادة هيكلة الجيش الأوكراني استمرت منذ ذلك العام، وبانخراط مباشر من "الناتو"، لتحويل جيش كان يرتدي أفراده "سراويل وأحذية رياضية"، كما يذكر مدربوهم الغربيون، إلى جيش قادر بعد نحو 8 سنوات على الانخراط والصمود في مواجهة ضخمة مع الروس.
وكانت مخازن ومصانع سلاح حلف الأطلسي قد باشرت بمساعدة كييف قبل الغزو، وخصوصاً مدّها بالصواريخ المضادة للدروع، التي أدت دوراً رئيسياً إلى جانب المسيّرات، في إرهاق الجيش الروسي، ومنعه من الاستيلاء سريعاً على كييف. وبعد مرور 6 أشهر على الحرب، لا يبدو أن الدعم الأطلسي في تراجع.
الأهم في مآلات الغزو حتى اليوم أن روسيا أصبحت في مواجهة صعبة على مستوى الأمن القومي. فحلف شمال الأطلسي الذي أراد له الكرملين الانكماش بات اليوم غير بعيد عن تطويق روسيا غرباً وشمالاً. تجاوز جارة الروس، فنلندا، جنباً إلى جنب مع السويد، الخطوط الحمراء، والقفز عن كل التهديدات الروسية، لتستكمل إسكندنافيا توسعة الحلف أمام ناظري الكرملين، يؤشر إلى جرأة دول الجوار التي لم تكن معهودة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945.
روسيا أصبحت في مواجهة صعبة على مستوى الأمن القومي
ولم يأت توسع حلف شمال الأطلسي منفرداً. فقد شكّل غزو أوكرانيا فرصة لتحرر ألمانيا من عقدة زيادة الإنفاق العسكري وتحديث جيشها، بنحو 100 مليار يورو. وما يثير الانتباه أن منطقتي بحر البلطيق والدائرة القطبية الشمالية باتت أشبه بمناطق حصار لروسيا، وبتدفق عسكري غير مسبوق للآلة العسكرية الأميركية تحت علم الأطلسي، وهو ما تشهده مناطق شمال النرويج وميناء إيسبيرغ الدنماركي، للدفع بمزيد من القوات نحو البلطيق والشمال القطبي.
وعلى الرغم من تسهيل الغزو لخطط العسكرة أوروبياً، فإن الأزمات الاقتصادية والمالية التي عجّلت بظهورها أزمة بدائل إمدادات الطاقة من روسيا تشكل تحدياً أمام صمود وحدة موقف الأوروبيين. فالتعويل الروسي على الخلافات الأوروبية مستمر، على أمل لجم أو تخفيف انخراط الأطلسي في التصدي لآلته العسكرية في أوكرانيا. والتعويل هنا هو على طبقة سياسية أوروبية، خصوصاً في معسكرات التشدد القومي، كما في المجر وإيطاليا، أو تغير طبقة الحكم في أكثر من بلد أوروبي، أملاً في انفراط تماسك الموقف، وجعل دعم الأطلسي لأوكرانيا يقتصر على بعض دوله، الأكثر توجساً من المشاريع الروسية لما بعد أوكرانيا.
وبالإضافة إلى ترحيب قمة حلف شمال الأطلسي الـ30 التي عقدت في العاصمة الإسبانية مدريد أواخر شهر يونيو/ حزيران الماضي بانضمام السويد وفنلندا للحلف، فقد تبنت القمّة خطة دفاعية جديدة للسنوات العشر المقبلة، تعتبر فيها روسيا "التهديد الأكثر أهمية ومباشرة لأمن الحلفاء". وأعرب قادة دول البلطيق في القمة عن خشيتهم من أن دولهم هي على "اللائحة الروسية" للغزو التالي، ما يجعل تعزيز انتشار الحلف فيها أمراً حيوياً.
وشدّد الحلف منذ الغزو على تعزيز قواته في الدول الأعضاء الثماني المتاخمة لروسيا، ما يعني أن نحو 40 ألف جندي "أطلسي" سينتشرون بصورة دائمة في بلغاريا ورومانيا والمجر وسلوفاكيا وبولندا ودول البلطيق الثلاث (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا). والهدف من كل تلك الزيادات هو الوصول إلى سبعة أضعاف حجم قوة ردّ الفعل التابعة لحلف الناتو (إن آر إف)، بحيث تضم ما يقرب من 300 ألف جندي جاهزين للانتشار في غضون 30 يوماً.
إذاً، فإن روسيا بالنسبة لعموم أوروبا لم تعد الشريك الموثوق، وبالتالي فإن الانخراط الأطلسي في أوكرانيا لا يجري بمعزل عن فكرة المقاومة لمحاولات موسكو فرض ما يسمى بـ"نظام عالمي جديد". وعليه، فمستقبل الحرب في أوكرانيا يخضع تماماً لتغيّر قراءة التحالف الغربي لمستوى خطر روسيا، وتهديد أمن ووجود دوله، وخصوصاً تلك التي تعيش قلق ارتفاع منسوب حديث روسيا عن "حماية الناطقين بالروسية"، كدول البلطيق، التي تشعر بتهديد لا يقل خطورته عن ذلك الذي ظلّت تعيشه أوكرانيا قبل الغزو.
مقارنة بين قمّتين للحلف: السلام تبخر
بمجرد إجراء مقارنة بسيطة بين نصّي قمتي الأطلسي، في لشبونة 2010 ومدريد 2022، يظهر إلى أي مدى أصبحت ضفّة الأطلسي الأوروبية أقل أمناً. في الأولى، تحدث قادة الدول عن أن "السلام اليوم يسود في المنطقة الأوروبية - الأطلسية، وخطر وقوع هجوم تقليدي على أراضي الناتو منخفض". وأضافوا أنه "نجاح تاريخي لسياسة الدفاع القوي والتكامل الأوروبي - الأطلسي والشراكة النشطة التي وجهت الناتو لأكثر من نصف قرن". بل إن التفاؤل دفعهم للحديث عن أن "التعاون بين روسيا والناتو له أهمية استراتيجية". لكن صنّاع القرار على ضفتي الأطلسي في الناتو وجدوا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا أن "لا سلام في منطقة أوروبا الأطلسية".