نحو مرحلة منظمة التحرير الثالثة

28 يوليو 2024
استشهاد قائد قسامي وقائدين من شهداء الأقصى في مخيم طولكرم (وهاج بني مفلح/فرانس برس)
+ الخط -

على عكس ما يفترض أو يرى بعضهم، أعادت حرب غزّة الاعتبار إلى منظّمة التحرير، وطنًا معنويًا وجسمًا وإطارًا قياديًا مرجعيًا أعلى للشعب الفلسطيني، لكن بالتأكيد بقيادةٍ مختلفةٍ عن الحالية الفاقدة للمشروعية والميثاقية، والعاجزة والفاشلة، التي لم تفهم، ولا تريد أن تفهم، أنّها بمثابة قيادةٍ انتقاليةٍ، تشبه تمامًا تلك التي أدارها النزيه يحيى حمودة نهاية ستينيات القرن الماضي.

تأسست منظّمة التحرير الأولى في منتصف ستينيات القرن الماضي، برئاسة أحمد الشقيري، وكانت قيادتها مدنيةً وديموقراطيةً، من دون إغفال البعد الفدائي والعسكري، ومع هذا الجانب المهم وضِعت اللبنات الراسخة والصلبة للمؤسسات الفلسطينية الصامدة منذ أكثر من ستة عقودٍ، على كلّ المستويات المنظوماتية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية، المجلس الوطني، اللجنة التنفيذية، الصندوق القومي، وجيش التحرير، إضافةً إلى تكريس الجوهر الوطني الفلسطيني الممتزج جديًا مع القومي العربي، وكما ينبغي، لكن من دون الوصاية أو الارتهان، رغم الدعم والاحتضان الرسمي العربي والواسع في حينها.

استمرت المنظمة الأولى خمس سنواتٍ، لكن ميراثها وإرثها لا يزال خالدًا وأهمّه بالطبع، إضافةً إلى ما سبق، مناقبية وشجاعة الشقيري، وتنحيه بعد نكبة يونيو/حزيران 1967، لإفساح المجال أمام الجيل الشاب "الفدائي" لقيادة الصراع مع الاحتلال، ومعركة التحرير عامةً.

يجب ممارسة أكبر قدرٍ ممكنٍ من الضغط، المكثف والمتناسق على جبهاتٍ ومستوياتٍ عدّة، سياسيةً وإعلاميةً وشعبيةً، كي تبصر المنظّمة الثالثة النور

ثمّ أبصرت منظّمة التحرير الثانية النور نهاية الستينيات، بقيادة الشهيد ياسر عرفات، وفصائل المقاومة، في ما عرفت بمرحلة الفدائيين، ورغم التشديد، أو للدقة الهوس، على تغليب البعد الفلسطيني على العربي، إثر تغيير الميثاق من القومي إلى الوطني، مع مواصلة مسار المنظّمة الأولى نفسه، مع تغليب العمل الفدائي، ومن دون إهمال الجوانب الأخرى الدبلوماسية والسياسية والشعبية.

تمثّل إرث المنظّمة الثانية باعتبارها وطن الفلسطينيين المعنوي، وتكريسها حقيقة أن القضية الفلسطينية ليست قضية لاجئين فقط، على أهمّية ذلك، إنّما هي قضيةٌ سياسيةٌ وحركة تحررٍ وطنيٍ بامتيازٍ.

تبنت المنظّمة الثانية فكرة الدولة الديموقراطية الواحدة، قبل قبولها بقرارات مجلس الأمن الدولي 242 و338 و181، وإعلان الدولة الفلسطينية في الجزائر، وفق ما بات يعرف بـ"حلّ الدولتين".

كان تغيير الميثاق من القومي إلى الوطني، بمثابة زرعٍ لبذور التخلي العربي الرسمي، لا الشعبي، عن القضية الفلسطينية، وتحويل الصراع من عربيٍ- إسرائيليٍ، كما هو أصلاً، إلى فلسطينيٍ- إسرائيليٍ، وهو ما تكرس فعلًا بعد ذلك عبر اتّفاق أوسلو 1993، وتأسيس السلطة الفلسطينية 1994، وإعطاء الانطباع وكأن الصراع كلّه في طريقه للحلّ.

انتهت مرحلة المنظمة الثانية نظرياً بعد الخروج من بيروت 1982، وعملياً مع أوسلو، والانتفاضة الثانية 2000، ورحيل الشهيد المؤسس أبو عمار 2004، وهي المعطيات التي خلقت ما يشبه المرحلة الانتقالية نحو المنظّمة الثالثة، لكن للأسف لم تصل الأمور إلى خواتيمها السعيدة مع تشبث الحرس القديم/ الحالي بالقيادة، وعدم امتلاكه الشجاعة والمناقبية والبصيرة للتنحي، ثمّ كان الاقتتال الأهلي والانقسام الفلسطيني 2007، الذي أبعد كثيرًا فرصة التوافق والعمل الجماعي لبناء المنظّمة الثالثة.

طالت المرحلة الانتقالية لعقدين تقريباً، وشهدت في بدايتها، بعد رحيل أبو عمار، توقيع وثيقة القاهرة مارس/آذار 2005، التي حُدّثت في مايو/أيّار 2011، ومع الوقت تحوّلت المصالحة إلى عمليةٍ وإطارٍ موازي لعملية التسوية، وتناسبت عكسيًا معها، لكن تجسدت المفارقة في عدم تقدم الأوّلى ونجاحها حين انهارت الثانية كلّيًا، تقريبًا منذ 10 سنواتٍ، مع انتهاء آخر المساعي الأميركية الجدية بقيادة الرئيس باراك أوباما، ووزير خارجيته جون كيري عام 2014.

أبصرت منظّمة التحرير الثانية النور نهاية الستينيات، بقيادة الشهيد ياسر عرفات، وفصائل المقاومة، في ما عرفت بمرحلة الفدائيين

بالعودة إلى جوهر المقال، وعلى عكس ما يعتقد بعضهم، أكد "طوفان الأقصى"، وبالسياق حرب غزة، على أهمّية منظّمة التحرير بحد ذاتها، وطنًا معنويًا للفلسطينيين، وإطارًا قياديًا مرجعيًا أعلى للشعب بكامل أماكن تواجده، ومع إعادة القضية إلى الواجهة الإقليمية والدولية، وقرب انتهاء الحرب ببعدها العسكري، كما عرفناها خلال الشهور العشر الماضية، لكن مع تواصلها على مستوياتٍ متعددةٍ، مع الانتباه والتذكير بمقولة كارل فان كلاوزفيتز الخالدة، باعتبار الحرب نفسها استمرارًا للسياسة بوسائل أخرى، ومع توقفها يفترض أن تستمر السياسة بوسائل دبلوماسيةٍ وإعلاميةٍ وقضائيةٍ وشعبيةٍ واسعةٍ ومتعددةٍ جداً.

لعل أهمّ ما يجب فعله بهذا الخصوص بذل كلّ الجهود لضمان عدم العودة لمنطق وقاعدة، وواقع ما قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بمعنى ضرورة إنهاء حصار غزّة، والانقسام مع الضفّة الغربية، وابتلاع السلطة للمنظّمة، الوطن المعنوي لنا جميعًا. هنا لا بدّ من التأكيد، كما دائمًا على أنّ مشكلتنا كانت، ولا تزال، مع النظام الحاكم المتحكم فيها، وقيادتها المتنفذة المفتقدة للشرعية والميثاقية، لا مع المنظّمة بحدّ ذاتها.

وعليه يجب ممارسة أكبر قدرٍ ممكنٍ من الضغط، المكثف والمتناسق على جبهاتٍ ومستوياتٍ عدّة، سياسيةً وإعلاميةً وشعبيةً، كي تبصر المنظّمة الثالثة النور، مع الاقتناع أنّ المهمة الأساس والأثقل ملقاةٌ على عاتق الفصائل، التي لها حصة ونصيب الأسد في المنظّمة ومؤسساتها، وهم أصحاب القرار والسلطة فيها، بدرجاتٍ متفاوتةٍ طبعًا، من دون تجاهل المجتمع المدني، وتياره العريض، خاصّةً المستقلين من أصحاب التجارب التنظيمية، والتجربة والخبرة، والمستعدين للمساهمة في عملية البناء والنهوض، علمًا أنّ الغالبية العظمى منهم يقيمون في الخارج، الشتات القديم والجديد، ويضم طاقاتٍ هائلةً، مستعدةً للقيام بواجبها الوطني.

كذلك، لا بدّ للعملية أن تنطلق من القاعدة والأسس الديموقراطية الضرورية، لتمكين الشعب الفلسطيني من فرض إرادته عبر انتخاباتٍ نزيهةٍ وشفافةٍ، وفق النظام النسبي الكامل، داخل فلسطين، قطاع غزّة والضفّة الغربية بما فيها القدس، وخارجها، حيثما أمكن، مع استكمال بناء المؤسسات الوطنية، بتعييناتٍ توافقيةٍ وفق المزاج الديموقراطي، كما يعبر عنه الشعب الفلسطيني بانتخاباتٍ حرةٍ نزيهةٍ بالداخل، مع اعتبار المزاج الفلسطيني العام واحدًا، حتى لو كانت هناك تغيراتٌ أو تبايناتٌ لهذا الحدّ أو ذاك، لكن العقل الجمعي واحدٌ في تمسكه بالأهداف والآمال الوطنية، المتمثّلة في الاستقلال والعودة وتقرير المصير.

في الأخير، لا بدّ من التشديد، كما دائمًا، على حقيقة أن خوض حرب التحرير، على الجبهات كافّة، يستلزم بالضرورة قيادةً موحدةً متمثّلةً في منظّمة التحرير، تأخذ على عاتقها بلورة استراتيجيةٍ وطنيةٍ، وبرنامجٍ سياسيٍ توافقيٍ، وتحديد الوسائل والسبل الكفيلة بالاستفادة من إمكانيات الشعب الفلسطيني وطاقاته الهائلة في الداخل والشتات.

المساهمون