اختار رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، المعروف بقدراته البلاغية العالية في توجيه رسائل قصيرة تؤجج مشاعر الإسرائيليين، عدم الابتهال لـ"رب إسرائيل" كي يثأر لدماء المستوطنين الثلاثة، الذين اكتشفت جثثهم، أمس الاثنين، في وقت دعت فيه صحف إسرائيلية عدة، وبلهجة دموية، إلى شن عمليات انتقام واسعة ضد حركة "حماس" والشعب الفلسطيني.
واقتبس نتنياهو، أمس الاثنين، عبارة للشاعر الإسرائيلي، نحمان بيالك، حين قال: "الثأر لدماء فتى صغير ليس من وحي الشيطان"، قبل أن يتوّعد "حماس".
كانت هذه الرسالة، مع ما رافقها من ترجيح الصحافيين الإسرائيليين لقيام المستوطنين بعمليات انتقام واسعة، كافية لتحريك عمليات الانتقام هذه، على الرغم من التقارير التي تحدثت عن انتشار قوات جيش الاحتلال في أنحاء الضفة للحيلولة دونها.
وشهدت الضفة الغربية عمليات انتقام، بوتيرة كبيرة، في أواسط الثمانينيات، وبتشجيع من الصحافيين الإسرائيليين أنفسهم، وعلى رأسهم، آنذاك، والد وزير المالية الحالي في حكومة إسرائيل، يائير لبيد، الذي ذهب إلى حد الدعوة لزرع سيارات مفخخة في مدن الضفة: قلقيلية، ونابلس، ورام الله.
لا بد من العودة إلى "السياق التاريخي" لحملات انتقام المستوطنين، مع معاودتهم ممارستها، أمس الاثنين، تحت سمع وبصر قوات الاحتلال، إن لم يكن تحت حراستها، كما كان الحال في أيام الانتفاضة الأولى، بعيد اتفاق أوسلو ومقتل رئيس الحكومة السابق، اسحق رابين، إبان الانتخابات لرئاسة الحكومة، التي جاءت بنتنياهو رئيساً للحكومة للمرة الأولى في العام 1995 ـ تحت شعار "بيبي جيد لليهود".
اليوم، يطالب صحافيو إسرائيل، باستثناء صحافيي "هآرتس"، وقلة في "يديعوت أحرونوت"، من أمثال ناحوم برنيع، فضلاً عن الرؤوس الحامية الإسرائيلية، ليس فقط برأس "حماس" وعناصرها، وإنما أيضاً بحرق كل ما هو أخضر في الضفة الغربية، على غرار ما كتب يوآف ليمور في صحيفة "إسرائيل هيوم"، المقربة من نتنياهو، والتي بزت صحف إسرائيل كلها، في إطلاق دعوات الثأر وطلبات الانتقام.
وطالب صحافيو "إسرائيل هيوم"، وعلى رأسهم الصحافي المخضرم، دان مرغليت، الذي كان محسوباً على الوسط، بـ"ضرب كل ما له علاقة بحماس: المنشآت، القواعد التنظيمية، البنى التحتية، ومطاردة أقارب العناصر وعائلاتهم، عبر حرب ضروس تشنّ الآن وليس غداً". ودعا الى "تذكر ثأر إسرائيل من منفذي عملية ميونخ، وإصرار رئيسة حكومة إسرائيل، يومها، غولدا مائير، على وجوب قتل كل من له علاقة بالعملية".
وجاءت عناوين الصحيفة، وكأنها مقتبسة من صحف إيطاليا الفاشية، في ثلاثينيات القرن الماضي، مع دعوة المحلل العسكري للصحيفة، يوآف ليمور، إلى "مطاردة حماس، بجناحيها العسكري والمدني دون تمييز، وشن حرب لا هوادة فيها على الحركة". واعتبر أنه "ليس في حوزة إسرائيل وسائل كافية، بعد حملات الاعتقال، والضربات التي وجهتها للحركة".
أما الصحافي درور إيدار، فدعا، في مقالة بعنوان "القضاء على رسل الموت"، إلى العمل، بكل القوة المتاحة، ضد من سماهم "رسل الموت" ومساعديهم، والبنى العسكرية والمدنية لهم، ومصادر تمويلهم، وعائلاتهم، و"كل من يعرف ويهز رأسه صامتاً، سينبتون من جديد، نحاربهم من جديد وهكذا دواليك".
ومن خلال صحيفة "يديعوت أحرونوت"، خرج مستشار نتنياهو السابق، يوعاز هندل، ليزيد على اقتباس رئيس الحكومة، بالقول "الشيطان لم يخلق الثأر لمقتل صبي، لكنه خلق ألم الأمهات هنا مرات كثيرة".
ودعا إلى "انتقام مدروس ومخطط، انتقام يصدر من العقل وليس من البطن". ولفت الى أن "الدم يأتي بالدم ومع ذلك لا مفرّ، ما لن يحدث الآن سيحدث لاحقاً، يجب تحقيق هذا الردع وتقديمه وهو لا يزال ساخناً".
في المقابل، وضع ناحوم برنيع، في "هآرتس"، نفسه في الجهة الثانية من المتراس، غير أن هذا لا يعني عدم مطالبته بـ"الانتقام والثأر"، لكنه طالب بردّ "حكيم وعقلاني، يعود على إسرائيل بالفائدة، ولا يمثل خضوعاً لمشاعر الانتقام".
وأشار الى أن "على إسرائيل مواصلة ضرب حماس بكل قوة، وأن تفعل ذلك بحكمة وبعقلانية، لكن رئيس الحكومة ووزراء حكومته لا يريدون أن يظهروا أمام الإسرائيليين جبناء أو حمقى، تم التغرير بهم من قبل العدو".
وأكد أنه "مع إدراكه للاعتبارات والضغوط التي تواجهها الحكومة، إلا أنني آمل أنهم يفكرون قبل كل شيء بسبل مواجهة العدو الخارجي، فهذا مهم لاستعادة الردع، وللأمن، ولمستقبل العلاقات مع السلطة الفلسطينية".
ودعا إلى "إعادة اعتقال الأسرى المحررين"، مشدداً على ضرورة الفصل والتمييز بين "حماس" والسلطة، وبين السكان المدنيين، معتبراً أن "القيام بخطوات عقابية جارفة، سيدفع بسكان الضفة الغربية إلى أحضان حماس".
في المقابل، اعتبر المحلل العسكري في "هآرتس"، أمير أورن، أن "مقتل المستوطنين الثلاثة، وعملية الاختطاف التي سبقتها، كانت بالأساس بفعل سياسة حكومة نتنياهو، الذي، وفق أورن، خضع للإرهاب، عندما أقر صفقة شاليط (وفاء الأحرار)، ودلّ حماس على الطريق التي عليها المضي فيها لضرب إسرائيل".
ورأى أن "تراجع نتنياهو عن استحقاق الدفعة الرابعة من الأسرى القدامى، دفع الفلسطينيين إلى طلب الخلاص والمساعدة من حماس، وحظي طلبهم بوعد قطعته الحركة، تم ترجمته على أرض الواقع بعملية الاختطاف التي جرت في الـ12 من الشهر الجاري".