"هم المطلوبون لنا، فنحن نحكم بما أنزل الله.. ليعودوا إلى الإسلام ويصبحوا إخوتنا" قال هذه العبارة أبو محمد مصطفى، من قادة تنظيم "جند الشام"، في أحد زواريب/ أزقة مخيّم عين الحلوة، وهو يخوض اشتباكات ضدّ "الأمن الوطني الفلسطيني" عام 2017، حين سألته مراسلة إحدى محطّات التلفزة اللبنانية، في تقريرها الميداني، "لماذا لا تسلمون أنفسكم إلى الدولة، وأنّتم مطلوبون لها؟".
عاد أبو محمد مصطفى إلى الظهور مجددًا، باسم تنظيمٍ آخر هو " الشباب المسلم"، وقد قتل في معارك مخيّم عين الحلوة، التي اندلعت في الآونة الأخيرة؛ في 30 يوليو/تموز، واستمرت لأيّامٍ عدّةٍ، وهو تنظيم يحكم حيّين داخل المخيم؛ هما الطوارئ وحطين، على طريقة الإمارات الإسلامية المتطرّفة، ووفق رؤيته "لما أنزل الله"، ويكاد ينفرد مخيّم عين الحلوة بمثل هذه الحالات، من بين اثني عشر مخيمًا فلسطينيًا في لبنان.
خطابٌ تكفيريٌ لا يعلن أهدافًا كثيرةً في المخيّمات، سوى "مجاهدة الكفار والمرتدين"، ولا يقدم رؤيةً تخص القضية الفلسطينية، خارج عموميات الخطاب "الإسلامي" الجهادي الأممي المتطرف، كما لم يعتد أهالي المخيّمات سماع هذا الخطاب سوى في نشرات الأخبار، وبعضهم تعرف إليه في خضم تجاربٍ فرديةٍ كانوا قد تورطوا بها، مع تنظيماتٍ متطرّفةٍ كـ "داعش" وتنظيم القاعدة وجبهة النصرة، في كلٍّ من العراق وسورية خلال العقدين الأخيرين، وآخرون منذ "الجهاد العربي" في أفغانستان في ثمانينيات القرن المنصرم، حين بدأ ذلك الخطاب يظهر وينشط عالميًا، بدعمٍ وتسييرٍ من قبل دولٍ وأجهزة مخابراتٍ، باتت قصتها معروفةً للجميع.
لا يبدو تورط فلسطينيين في "السلفية الجهادية المتطرفة"، خارج سياق تورط كثيرين من شبان البيئات المهمشة والمسحوقة في العالم العربي
وبالعودة إلى تاريخ الرؤى المتطرّفة وتنظيماتها داخل مخيّمات الفلسطينيين، نجد أنّها بدأت منذ "نكسة" اجتياح بيروت، التي لفّتها إبان الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، وخروج "الكفاح المسلّح" الفلسطيني، والدمار الذي طاول البنى المؤسسية والفكرية الوطنية، التي بنيت على مدار عقود من الوجود الفلسطيني في الشتات اللبناني، بفعل استهداف الاحتلال وما تلاه، ونذكر هنا حرب المخيمات في الثمانينيات التي خاضتها حركة "أمل" ضدّ حركة "فتح."
إنّ فشل الحالة الفلسطينية في ترميم نفسها، بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، واستقرار الأوضاع، كان عاملًا حاسمًا، إذ بدت المؤسسات الوطنية غارقةً في الفساد، ويعتريها الترهّل، كما فشلت في إعادة استيعاب الشباب، وتحوّلت تدريجيًا إلى ما يشبه "الدكاكين الزبائنية"، التي تخدم شرائح مستفيدةً ومحددةً، في ظلّ واقعٍ من البطالة والفقر والفراغ، ازداد عمقًا عقب ما يعتبره كثيرٌ من الفلسطينيين " انحرافاتٌ وطنيةٌ"، تمظهرت في مسار "أوسلو" في بداية التسعينيات بعد عقودٍ من النضال، ما أحبط الفلسطينيين، ودفع شبابًا كثر إلى ولوج انفاقٍ مظلمةٍ.
فراغٌ وطنيٌ وسياسيٌ وفكريٌ واسعٌ، يتحكّم بمساحاتٍ معزولةٍ لا تتعدى بضعة كيلومتراتٍ، خارجةٍ عن سلطة الدولة اللبنانية الأمنية والسياسية، ولا تعامل دولاتيا معها، سوى مقارباتٍ أمنيةٍ، تعتمد عزلها؛ بالمعنى الحرفي للكلمة، مخيّم عين الحلوة مثالٌ بارزٌ وواضحٌ على طريقة التعاطي الأمني مع الفلسطينيين، إذ يحيط بالمخيّم جدارٌ عازلٌ تتوسطه أبراج مراقبةٍ، وتُضبَط حركة الدخول والخروج منه وإليه عبر أربعة مداخل، هي عبارةٌ عن حواجز عسكريةٍ للجيش اللبناني، لا ينفذ أحدٌ منها، دون التحقق من هويته ومن ما يحمل في يديه وجيوبه.
واقعٌ معيشيٌ وحقوقيٌ وأمنيٌ، جعل مخيم عين الحلوة؛ وقبله مخيم نهر البارد شمال لبنان، مواقع مغريةٍ للعناصر السلفية الجهادية، التي وجدت فيه موطئ قدمٍ آمنا، بعيدًا عن أعين الدولةً، بل يذهب مراقبون كثر إلى اعتبار أنّ الدولة اللبنانية قد غضت النظر عن دخول عناصر متطرّفةً إلى المخيم، بغية تحويل المخيم إلى "مكبٍ" لعناصر لبنانيةٍ غير مرغوب فيها، كانت قد فشلت في ملاحقتها، ونذكر هنا اللبناني شادي المولوي، أحد مؤسسي تنظيم "جند الشام"، الذي لاحقته السلطات في طرابلس شمالًا، ليتسلل لاحقًا إلى عين الحلوة جنوبًا من بين جدرانها الأمنية، ثم غادر منه إلى سورية، بطريقةٍ غامضةٍ، عقب معارك مع حركة فتح عام 2017. ولا ننسى توجه فلول حركة "أحمد الأسير" إلى المخيّم، عقب أحداث صيدا 2013.
فلسطينيًا، ولدت في فترة الاجتياح وما بعدها، بعض الحوامل لتلك الأفكار والرؤى، بعضها في إطار التصدّي للغزو الإسرائيلي عام 1982، متأثرًا بخطاب الحركات الإسلامية "المقاومة"، التي نمت عقب ثورة الخميني في إيران، وتلقت دعمًا منها، ولم تتحوّل في يوم من الأيّام إلى حالةٍ جماهيريةٍ، نذكر هنا "الحركة الإسلامية المجاهدة"، التي تزعمها الفلسطيني إبراهيم غنيم، الذي توفي عام 2021، ولم يترك خلفه سوى نشطاء في عددٍ قليلٍ من المساجد، ومراكز تحفيظ القرآن.
إلى جانب ذلك؛ شهد مخيّم عين الحلوة خاصةً، ولادة تنظيماتٍ إسلاميةٍ كانت امتدادًا لحالاتٍ إسلاميةٍ أمميةٍ ولبنانيةٍ، ونذكر هنا تنظيم "عصبة الأنصار"، التابع لتنظيم "القاعدة"، الذي أسسه هشام شريدي في حي الصفصاف، وهو ضابطٌ منشقٌ عن حركة فتح عام 1987، وتبنّى "الجهادية الأممية"، التي شكّلت روح العصر، ما بعد الغزو السوفييتي لأفغانستان.
خطابٌ تكفيريٌ لا يعلن أهدافًا كثيرةً في المخيّمات، سوى "مجاهدة الكفار والمرتدين"، ولا يقدم رؤيةً تخص القضية الفلسطينية
ولدينا أيضًا "أنصار الله"، الذي تأسس عام 1990، ولا يخفي تبعيته المباشرة لـ "حزب الله" اللبناني، وكلّها صارعت للسيطرة على أحياءٍ ومربعاتٍ أمنيةٍ داخل مخيّم عين الحلوة، على حساب مواقع حركة فتح خاصّةً، ومنظّمة التحرير عامةً خلال العقد المنصرم، تخللتها اغتيالاتٌ متبادلةٌ وجولاتٌ من المعارك الطاحنة داخل مخيّمي عين الحلوة والمية ومية في صيدا.
لعل الحالة الأبرز والأكثر عنفًا، والتي استدعت حربًا شاملةً؛ هي الأولى من نوعها للجيش اللبناني تجاه مخيّمٍ فلسطينيٍ، كانت في مخيّم نهر البارد عام 2007، حين احتلّت عناصر من تنظيمٍ عرف باسم " فتح الإسلام"؛ بقيادة شاكر العبسي، المنشق عن تنظيم "فتح الانتفاضة"، الذي ترعاه مخابرات النظام السوري، مخيّم نهر البارد، وأدت الحرب حينها إلى تدمير المخيّم، وتشريد سكانه، والدخول في مسار إعادة الإعمار، الذي لم ينتهِ حتّى اللحظة.
لا يبدو تورط فلسطينيين في "السلفية الجهادية المتطرفة"، خارج سياق تورط كثيرين من شبان البيئات المهمشة والمسحوقة في العالم العربي، ممن يعيشون مفاعيل هزائم متراكمةٍ ومركبةٍ، ربّما وفّر لهم الخطاب والفعل المتطرف القائم على الإحالات "الربّانية" نوعًا من "الهوية التعويضيّة"، فضلًا عن عوامل الاستلاب الحقوقي، التي يعيشها اللاجئون في لبنان، من حرمانهم حقوق العمل والتملك وممارسة فعالياتهم الحياتية خارج المخيّمات، وظروف تهميشٍ استثنائيةٍ، وتعاطٍ أمنيٍ ليس بريئًا من عملية إنتاج ومكاثرة تلك الحالات المتطرّفة.
إلّا أنّ متون ذلك الخطاب، لم تكن في يومٍ من الأيّام محمولةً على البنية الاجتماعية والسياسية والفكرية لمخيّمات الفلسطينيين في لبنان وغيره، والتي أسست قوامها أحزاب وحركاتٌ وطنيةٌ يساريةٌ وقوميةٌ ومحافظةٌ معتدلةٌ، وشكلت الإطار الوطني الفلسطيني على المستوى الهيكلي والذهني، مستندةً إلى تحليل طبيعة القضية الفلسطينية، بوصفها نضالًا تحرريًا ضدّ استعمارٍ استيطانيٍ.