يثير قرار النيابة العسكرية ملاحقة عضو مجلس الشعب (البرلمان) التونسي، راشد الخياري، وإصدار بطاقة جلب بحقه، على خلفية تسريبات وتسجيلات صوتية يتهم فيها الرئيس قيس سعيد بتلقي أموال خارجية خلال حملته الرئاسية وبـ"الخيانة"، جدلاً غير مسبوق حول محاكمة مدنيين عسكرياً من جهة، واستغلال النواب للحصانة البرلمانية من جهة أخرى. وأبدى كثر رفضهم محاكمة المدنيين عسكرياً، على اعتبار أن القضاء العسكري مختص بقضايا العسكريين فقط، محذّرين من خطورة توظيف المحكمة العسكرية سياسياً، وهو ما عبّر عنه بوضوح وزير الخارجية الأسبق، رفيق عبد السلام، الذي اعتبر أن "استخدام المحاكمات العسكرية لتصفية الخصوم السياسيين هو عنوان رئيسي من عناوين الديكتاتورية، فما من حاكم مستبد في عصرنا إلا واستخدم المحاكمات الاستثنائية لتركيز حكمه المطلق". وأكد في تدوينة على صفحته في "فيسبوك" أن "هذه معركة الصف الديمقراطي بكل أطيافه ومكوناته، في مواجهة معسكر الاستبداد والحكم الفردي المتخلف والمُهلك".
في المقابل أيّد البعض محاكمة الخياري وأحقية القضاء العسكري في ملاحقته، بذريعة توجيهه اتهامات لرئيس الدولة، بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة العسكرية من جهة، ولخطورة القضايا المثارة التي تمس الأمن القومي والسيادة، كالتخابر والخيانة العظمى، من جهة أخرى. وتصاعدت وتيرة الجدل السياسي والدستوري حول الحصانة البرلمانية للنواب وسوء استغلالها من قبل البرلمانيين، وإمكانية إيقاف النواب ومحاكمتهم من دون رفع الحصانة عنهم، خصوصاً في ظل الخلاف الدائر بين النواب وسعيد، الذي تخضع الأسلاك التابعة لوزارة الدفاع والنيابة العسكرية لإشرافه.
استخدام المحاكمات العسكرية لتصفية الخصوم السياسيين هو عنوان رئيسي من عناوين الديكتاتورية
وتُعدّ ملاحقة الخياري من القضاء العسكري أول قضية من نوعها ضد برلماني مباشر لمهامه ومتمتع بالحصانة النيابية، غير أنه سبق للقضاء العسكري أن وجّه تهماً وأصدر أحكاماً ضد المدون ياسين العياري قبل أن يصبح نائباً. وشهدت تونس مباشرة بعد الثورة في عامي 2010 و2011 محاكمات لمدنيين، منهم أصهار ورجال الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي ومسؤولون في النظام السابق، ووُجّهت تهم التآمر والخيانة إلى مسؤولين أمنيين ورجال أعمال برزوا في عهد الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي ورئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد، غير أن محكمة التعقيب قضت بعدم اختصاص القضاء العسكري وسحبت منه القضايا.
مع العلم أن الخياري متوارٍ عن الأنظار منذ إصدار النيابة العامة العسكرية بطاقة الجلب، إذ لم يمثل عند دعوته للتحقيق معه يوم الثلاثاء الماضي، وسط اعتقاد بأنه اتخذ هذا القرار خشية إيقافه. لكن ما زاد الأمور غموضاً هو نشره تدوينة على صفحته في "فيسبوك"، أول من أمس الخميس، جاء فيها: "لكل من يسألنا عن مصير النائب راشد الخياري، نودّ أن نعلم الجميع: لا أحد يعلم مصيره ولا ندري إن كان معتقلاً أو حراً، ولم نعلم أي شيء عنه حتى اللحظة".
وكان القضاء العسكري فتح يوم الثلاثاء الماضي تحقيقاً في الاتهامات التي أطلقها الخياري في فيديو نشره على صفحته الرسمية في "فيسبوك"، ذكر فيه أن سعيد تلقى دعماً وتمويلاً خارجياً من جهات أميركية، لتعزيز حظوظ وصوله إلى قصر قرطاج في رئاسيات 2019. وأشار إلى أنه تسلّم أموالاً أجنبية عن طريق حوالات بريدية، تفوق 5 ملايين دولار. وأشار الخياري إلى امتلاكه وثائق تثبت ذلك، متهماً رئيس الجمهورية بـ"الخيانة" و"التخابر مع المخابرات الأميركية". وذكر أن هذه الجهات الأميركية سلمته الأدلة والوثائق بعد أن غيّر سعيد ولاءه من الأميركيين إلى الفرنسيين. لكن السفارة الأميركية بتونس نفت في بيان ادّعاءات الخياري، مشدّدة على أن "حكومة الولايات المتحدة لم تقدم أي تمويل لدعم حملة الرئيس قيس سعيد الانتخابية". واعتبرت أن "الولايات المتحدة تؤكد في هذا الصدد احترامها الكامل لنزاهة الديمقراطية التونسية واستقلاليتها".
ومساء أول من أمس الخميس وجّه قاضي التحقيق الأول لدى المحكمة العسكرية الدائمة بالعاصمة إلى الخياري تهم "القيام بما من شأنه أن يضعف في الجيش روح النظام العسكري والطاعة للرؤساء أو الاحترام الواجب لهم، وانتقاد أعمال القيادة العامة أو المسؤولين عن أعمال الجيش بصورة تمس بكرامتهم". ومن التهم أيضاً "تعمّد المشاركة في عمل يرمي إلى تحطيم معنويات الجيش أو الأمة، بقصد الإضرار بالدفاع الوطني والتآمر على أمن الدولة الداخلي المقصود به تبديل هيئة الدولة، أو حمل السكان على مهاجمة بعضهم بعضاً بالسلاح، وربط اتصالات مع أعوان دولة أجنبية الغرض منها الإضرار بحالة البلاد التونسية من الناحية العسكرية".
وأشرف رئيس مجلس نواب الشعب راشد الغنوشي مساء الخميس على "اجتماع استثنائي لمكتب البرلمان بخصوص الأخبار التي تفيد بإصدار بطاقة جلب للنائب راشد الخياري من قبل النيابة العسكرية". وتقرّرت بحسب بلاغ رسمي دعوة الخياري إلى "تقديم إفادة كتابية حول ملابسات هذا الموضوع ورفعها لمكتب المجلس في أقرب الآجال قصد النظر فيها واتخاذ الإجراء اللازم".
الخياري متوار منذ فترة ونشر تدوينة له على "فيسبوك" تزيد من غموض اختفائه
واعتبر النائب السابق سمير بن عمر، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "قضية راشد الخياري سياسية بامتياز، إذ عمد رئيس جمهورية لتحريك القضاء العسكري لتصفية أحد خصومه، مستغلاً صفته وصلاحياته". وشدّد على أن "هذا الأسلوب الفاشي في ملاحقة المعارضين وتصفية الخصوم خارج عن سياق الثورة التي أعطت التونسيين حرية انتقاد الرئيس. وهذا الأسلوب لم يعتمده حتى بن علي في زمن الاستبداد". وأضاف أن "تحريك القضاء العسكري ضد الخياري في قضية تتعلق بحرية تعبير ليست الأولى، إذ يوجد عدد من القضايا ضد عدد من المدونين نيابة عن الرئيس"، متحفظاً عن ذكر أسمائهم.
وشدّد بن عمر على أن "القضاء العسكري غير مختص في محاكمة المدنيين بحسب نص دستور الثورة"، معتبراً أن "القضاء العسكري لا تتوفر فيه ضمانات المحاكمة العادلة. وتتضمن تركيبته خمسة قضاة، أحدهم مدني وأربعة عسكريين. وهم موظفون خاضعون لسلطة وزير الدفاع الخاضع بدوره لسلطة رئيس الجمهورية، ويأتمر بأمره". وقال "كأن قيس سعيد بصدد إجراء محاكمة مباشرة". وأكد أن تلفيق هذا الكم من التهم والسرعة في توجيهها وإصدار بطاقة جلب تكشف الجانب السياسي للقضية، مشيراً إلى أن "التهم الموجهة لا علاقة لها بفحوى التسجيل والتصريحات التي أطلقها الخياري".
وأضاف أنه "من الأولى دعوة الخياري بصفته شاهداً أمام القضاء المدني وتقديم إفادته وأدلّته، وإن ثبت عكس ما ادّعى، يتم توجيه تهم إليه واعتباره متهماً، وليس توجيه تهم له بشكل مباشر قبل سماعه". ولفت إلى أنه "من حق رئيس الجمهورية أن يقاضي من يشاء بسبب المس من كرامته، ولكن في القضاء المدني، باعتبار أن المعني شخص مدني، ولكن إصرار الرئيس على التوجه للقضاء العسكري يُعدّ استغلالاً لسلطته وللمؤسسة العسكرية الراجعة له بالنظر للتنكيل لخصومه". واعتبر بن عمر أن "كل الناس أصبحوا يفتون في الدستور والقانون الجنائي"، مؤكداً أنه "لا وجود لحالة تلبّس في حق الخياري والكلمة الأخيرة حول ملاحقة النائب الذي يتمتع بالحصانة هي للبرلمان، الذي يمكنه أن يأخذ موقفاً ويعتبر أن هذه المحاكمة سياسية ويمنع هذا التتبع".
بدوره، نشر النائب عبد اللطيف العلوي تدوينة على حسابه في "فيسبوك"، وصف فيها التهم الموجّهة للخياري من القضاء العسكري بـ"المسقطة المحشوّة حشواً، وكأنها صيغت فقط بغرض التشفّي والانتقام والتوريط إلى أبعد ما يمكن". وأضاف العلوي "أنا لست ضد محاكمة الخياري أو أيّ شخص آخر يرمي غيره بلا دليل (إذا ثبت أنّه بلا دليل)، ولكني ضد المحاكمات الانتقامية الظالمة، وضد تلفيق التهم وضد الزج بالمدنيين في محاكمات عسكرية خاصة، وضد خرق الإجراءات التي ينصّ عليها الدستور في الفصلين 68 و69 والمتعلقة بإجراءات نزع الحصانة". واعتبر أنه "ننظر إلى دولة القانون، وغيرنا ينظر إلى وجوه الأشخاص وأسمائهم وانتماءاتهم. وما تفعله اليوم بخصمك، قد ينقلب عليك غداً أو على أبنائك. نحن نريد تحكيم القانون ولا شيء سواه، وهم يريدون الغرائز والشهوات العدوانية المتوحشة، شهوات الانتقام والتنكيل بالخصوم خارج إطار القانون".
من جهته، قال المختص في القانون الدستوري رابح الخرايفي في حديثٍ لـ"العربي الجديد" إن "القضاء العسكري مختص لسببين في محاكمة الخياري. السبب الأول هو أن رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، والرئيس لديه الصفة العسكرية. والسبب الثاني هو أنه تمّ المسّ والطعن من سمعة الجيش، والمرجع هنا هو مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية والمرسوم المعدل لبعض فصولها في عام 2011، والمجلة العسكرية في الباب المتعلق بالاعتداء على أمن الدولة الداخلي". وأشار إلى أن "المحكمة العسكرية مختصة في النزاعات والقضايا التي يكون أحد أطرافها أو كلاهما عسكرياً، من خلال الاعتداء أو المس من المعنويات وغيرها. وقد اعتدى النائب على القائد الأعلى للقوات العسكرية ومسّ من سمعة الجيش".
القضاء العسكري غير مختص في محاكمة المدنيين بحسب نص دستور الثورة
وقال الخرايفي إن النيابة العامة العسكرية تتعهّد من تلقاء نفسها، وباشرت عملية البحث، وهو من صميم اختصاصها ولا تنتظر رفع دعوة من قبل القائد الأعلى للقوات المسلحة، فالنيابة تتعهد تلقائياً من دون أمر إلا في حالة تقاعسها فيأمرها رئيس النيابة وهو الوزير. والقضاء العسكري هو قضاء دستوري ومختص، وليس قضاءً خاصاً واستثنائياً، بمعنى أن القضاء العسكري تتوفر فيه جميع الضمانات للمحاكمة العادلة من خلال مرافقته لمحام للدفاع والتقاضي على درجات، ابتدائياً واستئنافاً وتعقيباً، والحق في المحاكمة العلنية والقيام بالحق الشخصي حسبما تكفله تعديلات 2011.
وأضاف أن ادعاء النائب بأن القضاء العسكري غير مختص، هو من قبيل الجهل القانوني، إذ يتوفر بصريح النص الاختصاص، كما أن أركان جميع الجريمة متوفرة والشرطة العسكرية، وأيضاً المدنية والعدلية، مطالبة بإيقاف النائب بعد إدراجه في قائمة الجلب بالقوة.
وحول الحصانة النيابية اعتبر الخرايفي أنه "لا يمكن الاعتداد بها في حالة التلبّس، إذ يمكن إيقاف الخياري وإعلام رئيس البرلمان بذلك، حسبما ينص عليه الدستور. ويمكن لرئيس البرلمان أن يتدخل ويطلب الإفراج عنه، أو أن يصمت. وفي هذه الحالة فإن رئيس البرلمان راشد الغنوشي في وضع لا يحسد عليه، فإذا طلب الإفراج عن الخياري سيُقحم نفسه في تبعات هذه الجريمة وسيُتهم بالتواطؤ معه ومع ما نشره، وإذا صمت فإن القانون سيأخذ مجراه وستصدر بطاقة إيداع بالسجن في حق النائب". ووصف الاتهامات التي أطلقها الخياري بـ"الخطيرة جداً وتمس بالأمن القومي وتتهم رئيس الدولة، القائد الأعلى للقوات المسلحة بالخيانة، فضلاً عن اتهامه دولاً خارجية".
في المقابل، لخّص أستاذ القانون الدستوري سليم اللغماني الجدل الدستوري حول إمكانية محاكمة المدنيين من القضاء العسكري، على حسابه في "فيسبوك"، بأنه لا يمكن ذلك دستورياً، وفقاً للبند 110 في الباب الخامس في فصل السلطة القضائية من الدستور. وينصّ هذا البند على أنه "تُحدّث أصناف المحاكم بقانون، ويمنع إحداث محاكم استثنائية، أو سنّ إجراءات استثنائية من شأنها المساس بمبادئ المحاكمة العادلة. إن المحاكم العسكرية محاكم متخصصة في الجرائم العسكرية. ويضبط القانون اختصاصها وتركيبتها وتنظيمها والإجراءات المتبعة أمامها والنظام الأساسي لقضاتها". ولكن يمكن محاكمة المدنيين عسكرياً وفقاً للبند 149 من الباب العاشر الخاص بالأحكام الانتقالية، الذي ينص على أن "تواصل المحكمة العسكرية ممارسة الصلاحيات الموكولة لها بالقوانين السارية المفعول إلى حين تنقيحها بما يتماشى مع أحكام الفصل 110".