موجة كورونا الثانية: فشل إدارة القضاء في مصر

29 ديسمبر 2020
ستكتفي الهيئات القضائية بالإجراءات الاحترازية (خالد دسوقي/فرانس برس)
+ الخط -

مع تأخر الحكومة المصرية في اتخاذ إجراءات الغلق الجزئي، ووقف بعض الأنشطة والأعمال، لمواجهة الانتشار المتزايد لفيروس كورونا، تبدو الأعمال القانونية والقضائية في المحاكم ومقار الشهر العقاري، ومكاتب الخبرة والنيابات، ولجان الفحص والطعن الضريبي على مستوى الجمهورية، من الأنشطة الأكثر تعريضاً للعاملين بها للإصابة والوفاة. 
يأتي ذلك نتيجة الإدارة السلبية للأزمة، وغياب روح المبادرة عن وزارة العدل، وباقي الجهات المختصة، بتوزيع القضايا والجلسات، بزعم أن التوقيت ليس مناسباً لاتخاذ إجراءات فعالة، بسبب عدم عودة مرفق العدالة إلى حيويته الطبيعية في أعقاب فترة الوقف الجزئي لبعض أعماله خلال الموجة الأولى من الجائحة. 
وبحسب مصادر قضائية في وزارة العدل ومحكمة النقض ومجلس الدولة ومحكمة استئناف القاهرة وهيئة قضايا الدولة وعدد من المحاكم الابتدائية على مستوى الجمهورية، تحدثت لـ"العربي الجديد"، فإن عدد المصابين من القضاة، وأعضاء الهيئات القضائية، خلال الشهر الحالي "لم يسبق له مثيل" منذ بدء جائحة كورونا، ما أدى إلى تعطل انعقاد أكثر من 26 دائرة في المحافظات على مدار الشهر. كما ظهرت أكثر من 50 إصابة بين موظفي الشهر العقاري، لكن الوزارة اكتفت بإعطائهم إجازات مرضية، من دون وقف العمل في أي مكتب.

تنوي هيئات قضائية، مثل محكمة النقض والنيابة العامة، تخفيض عدد الموظفين العاملين بالدوائر والنيابات إلى النصف

وبناء على اتصالات مستمرة بين الهيئات ووزارتي العدل والصحة تم تخصيص نسبة من الأسرّة في مستشفيات العزل، بالقاهرة والجيزة والإسكندرية وأسيوط، للقضاة، فضلاً عن التعاقد مع خمس مستشفيات خاصة لعلاج المصابين، الراغبين في دفع التكاليف، وأسرهم. وأضافت المصادر أن وزارة العدل اكتفت بالإشعار إلى رؤساء الهيئات القضائية والمحاكم بتفويضهم في تقليص عدد الموظفين وتغيير مواعيد الدوائر المتزامنة، لكن من دون الامتداد لتقسيم العمل بين الصباح والمساء. وتحت ضغط واقع تأخر الفصل في أكثر من 80 في المائة من الدعاوى التي رفعت في العامين القضائيين السابقين، فإن الهيئات القضائية ستكتفي في الفترة الحالية بالتشديد على اتخاذ الإجراءات الاحترازية، والتلويح بفرض الغرامات الفورية على المحامين والموظفين الذين يمارسون عملهم من دون ارتداء الكمامات، ولكن هذا لا يغني بالطبع عن التباعد الاجتماعي.

وبحسب المصادر، فإن بعض قيادات نقابة المحامين في المحافظات تحدثت مع رؤساء المحاكم الابتدائية عن ضرورة اتخاذ إجراءات لتسهيل عمل المحامين من دون الحضور، كالقبول بالتوكيلات المُجمعة، وتفويض محامٍ في عمل بعض زملائه بالتبادل، بالإضافة إلى تغيير مواعيد انعقاد الجلسات لتصبح صباحية ومسائية. لكن وزارة العدل لم تفوض إلى رؤساء المحاكم اتخاذ تلك القرارات. وأوضحت المصادر أن الموجة الثانية من الجائحة تمثل خطراً داهماً على المنظومة بالكامل، بصورة أكبر من الموجة الأولى، لسبب أساسي يتمثل في كثافة اللجوء للمحاكم المختلفة والنيابات ومقار الشهر العقاري في الوقت الحالي أكثر من فترة الموجة الأولى. ويأتي ذلك لأسباب عدة، منها تراكم القضايا الشخصية والأسرية ودعاوى المواريث والإعلانات الشرعية، التي كانت تؤجل لفترات طويلة بالموجة الأولى، وحاجة المواطنين الماسة إلى توثيق عقود ملكيتهم في الشهر العقاري حالياً، تنفيذاً للتعديلات التشريعية الجديدة التي صدرت الصيف الماضي بهذا الشأن، لمواكبة الزيادة الهائلة في طلبات التصالح في مخالفات البناء بتوجيهات رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي، وكذلك الزيادة المطّردة لحالات نزع الملكية لإقامة مشاريع المنفعة العامة التي تنفذها القوات المسلحة بشكل أساسي، والتي يتطلب التعويض فيها تقنين الأوضاع وتوثيقها خلال مدة محددة.
وذكرت المصادر أنه بسبب هذه الحاجة الماسة إلى جهات القضاء والتوثيق في الفترة الحالية، تمتنع وزارة العدل حتى الآن عن اتخاذ خطوات حاسمة. لكن الواقع العملي يؤكد أن هذا الموقف يعكس توجهات النظام الحاكم ككل، فلا فرق جوهرياً بين التعامل السلبي مع المحاكم وتركها مجالاً لنشر العدوى، وبين امتناع وزيري التعليم العالي والتربية والتعليم عن اتخاذ قرارات حاسمة لمصلحة الطلاب وذويهم، وإصرارهما على استكمال العام الدراسي باستخدام أدوات التعليم عن بعد التي أثبتت فشلها في العام الدراسي الماضي.

ستشهد الفترة المقبلة توسعاً في إجراءات تجديد الحبس عن بُعد بالفيديو كونفرانس في بعض سجون القاهرة

وحصلت "العربي الجديد" على مستندات توضح نيّة عدد من الهيئات القضائية، مثل محكمة النقض والنيابة العامة، تخفيض عدد الموظفين العاملين بالدوائر والنيابات إلى النصف، ابتداء من أول يناير/كانون الثاني المقبل، وإتاحة العمل من المنزل بالتبادل لأعضاء دوائر المفوضين بمجلس الدولة، وتخفيض عدد الموظفين ببعض إداراته، مع عدم وقف العمل في أي دائرة. علماً بأن سياسة تخفيض الحضور، وتقسيم الأيام بين الموظفين العاملين في جميع الهيئات القضائية والمحاكم الابتدائية، تسبّبت من قبل في ظاهرتين متناقضتين بالتوازي، فمن جهة يضمن هذا استمرار العمل إدارياً وفتح أبواب الجهات أمام المحامين والمتقاضين، ومن ناحية أخرى يؤدي إلى إبطاء العمل وتأخيره، وتأجيل إنجاز مصالح المواطنين، وكل ذلك من دون أن يترجم هذا العمل الإداري في أحوال كثيرة إلى عمل قضائي منتج.

وقال مصدر مطلع في الأمن العام إن الفترة المقبلة ستشهد توسعاً في إجراءات تجديد الحبس عن بُعد بالفيديو كونفرانس في بعض سجون القاهرة- لأسباب تتعلق بتوفير نفقات الانتقال- لكن لم يصدر حتى الآن أي قرار بشأن وقف نقل المحبوسين إلى جهات محاكمتهم بشكل عام، وإن مأموريات نقل المحبوسين احتياطياً إلى النيابات تسير بصورة طبيعية تماماً. وخلال الموجة الأولى، بدأت وزارة العدل التعامل مع الأزمة متأخرة. ففي منتصف مارس/آذار الماضي، أعلن كل من مجلس الدولة ومحكمة النقض، وبعض محاكم الاستئناف، تعليق الجلسات خوفاً من انتشار الفيروس، مع استمرار العمل الإداري الخاص بالمحامين وسكرتارية الدوائر وحتى القضاة، من رفع القضايا وتقديم المستندات إلى إيداع التقارير وكذلك المداولات. ووقفت الوزارة، وهي القائمة على الشؤون الإدارية لجميع الهيئات القضائية والمحاكم الابتدائية، عاجزة عن اتخاذ موقف واضح من مسألة استمرار العمل الإداري، على الرغم من تسببه بطبيعة الحال في حدوث تجمعات واحتكاكات بين المواطنين، على عكس اتجاه الحكومة للتباعد الاجتماعي، وتقليل التجمعات. وعلى هذا الأساس، تم اتخاذ قرارات مثل تعطيل العمل بالقطاعات الخدمية، خاصة بوزارة الداخلية، مثل المرور والأوراق الثبوتية وجوازات السفر، ووقف العمل بالشهر العقاري التابع للوزارة.

واستمر خلال الموجة الأولى عمل الدوائر الخاصة بنظر قرارات تجديد الحبس واستئناف النيابة على إخلاء السبيل، بوتيرة أقل كثيراً من عدد الجلسات المعمول به قبل الجائحة، ما سمح بإبقاء المئات من المحبوسين احتياطياً في السجون في انتظار عقد جلسات المشورة الخاصة بهم. وتقدّم عدد من المحامين المنتمين لتيارات سياسية مختلفة، وبعضهم من الموالين للسلطة، بمناشدات للنيابة العامة لتفعيل سلطتها الاستثنائية في إخلاء سبيل أكبر قدر من المحبوسين احتياطياً، بهدف لمّ شملهم مع أسرهم في هذا الوقت الصعب، خصوصاً مع استحالة سفرهم إلى خارج البلاد، وسهولة تعقبهم في فترة حظر التجول الحالية، وتقليل الحاجة إلى عقد جلسات التحقيق وتجديد الحبس، وتقليص عدد المحبوسين داخل السجون خوفاً من انتشار الوباء وصعوبة التعامل معه خلف الأسوار. لكن النائب العام لم يستجب لتلك المناشدات. كما لم تستجب وزارة الداخلية لمطالبات أخرى بإتاحة وسائل الاتصال الهاتفية للمتهمين المحبوسين والمدانين السجناء للتواصل مع ذويهم ومحاميهم، كحل بديل للتواصل المباشر للمحرومين منه في ظل وقف الزيارات في معظم السجون.

المساهمون