من جنوب أفريقيا إلى إسرائيل... أركان الفصل العنصري الثلاثة

07 فبراير 2023
يطوّق جدار الفصل مدناً فلسطينية ويعزلها (كريس ماكغراث/Getty)
+ الخط -

بالنسبة لمواطن جنوب أفريقي مثلي، يمكن أن تكون زيارة فلسطين (بما في ذلك الجزء الإسرائيلي منها) تجربة صادمة؛ تذكير بماضٍ يتسم بالتمييز و"التنمية المنفصلة" ونهب للأراضي وعنف وسيطرة الدولة الشديدين. اكتشفت أن إسرائيل تشبه إلى حد كبير نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا. بل بشكل أسوأ، أسوأ بكثير.

حتى في جنوب أفريقيا، لم أرَ قط جنوداً يقومون بدوريات منتظمة على شواطئنا، كما شاهدت ذلك أثناء نزهة على شاطئ "هادئ" في تل أبيب، في آخر مرة سمحت لي السلطات الإسرائيلية بدخول فلسطين في 2010.

في عام 2011، عندما حاولت العودة إلى هناك لإجراء بحث، جرى احتجازي في المطار لمدة 12 ساعة تقريباً قبل ترحيلي بقسوة "لأسباب أمنية". تجربة عايشها مواطنون آخرون من جنوب أفريقيا قبلي.

دينيس غولدبرغ الذي حوكم مع نيلسون مانديلا في محاكمة ريفونيا (1963-1964) وأُطلق سراحه بعد 22 عاماً في السجن، اختار نفيه لأول مرة إلى إسرائيل. عند وصوله إلى هناك، صرح غولدبرغ بأن إسرائيل هي النظير الشرق أوسطي للفصل العنصري في جنوب أفريقيا. ثم غادر ليعيش في بريطانيا. وقد دعم، حتى وفاته في 2020، حملة حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات ضد إسرائيل (BDS).

رسمت شخصيات أخرى نفس الصورة المُتَوَازِية، مثل الرئيس السابق كغاليما موتلانثي، أو كبير الأساقفة ديزموند توتو، وهو شخصية بارزة في الكفاح ضد الفصل العنصري: "لقد تأثرت بشدة أثناء زيارتي للأراضي المقدسة؛ لقد ذكرتني كثيراً بما حدث لنا، نحن السود، في جنوب أفريقيا".

اعتُمد أخيراً مصطلح الأبارتهايد لوصف الواقع الإسرائيلي من قبل منظمة العفو الدولية، و"هيومن رايتس ووتش"، والمنظمة الإسرائيلية غير الحكومية "بتسيلم"، والعديد من المنظمات الفلسطينية. لكن بالنسبة للجنوب أفريقيين، للأبارتهايد الإسرائيلي طابع شخصي وعاطفي وواقعي أكثر من القانون الدولي؛ لأن هذه الكلمة، على الرغم من كل شيء، نحن من اخترعها.

امتيازات اليهود عن غير اليهود

لكن التشابه ينتهي عندما يسير الجنوب أفريقي على طول جدار الفصل العنصري، كما فعلتُ في زيارتي الأخيرة. إنه جدار يعبر القرى، وساحات الناس، ويفصل المزارعين عن حقولهم، أو يطوق مدينة مثل قلقيلية ويعزلها عن بقية العالم.

كان الفصل العنصري في جنوب أفريقيا يعني أن البيض يتمتعون بامتيازات عن السود؛ في السياق الفلسطيني والإسرائيلي، يعني هذا أن اليهود يتمتعون بامتيازات عن غير اليهود.

جدار الفصل العنصري يعبر القرى، وساحات الناس، ويفصل المزارعين عن حقولهم، أو يطوق مدينة مثل قلقيلية ويعزلها

جرى بناء الأبارتهايد في جنوب أفريقيا على ثلاث ركائز. تتمثل الأولى في الترسيم الرسمي للسكان في مجموعات عرقية من خلال قانون تسجيل السكان (1950). جرى تصنيفي، على سبيل المثال، "هندياً" في المرتبة الثانية في التسلسل الهرمي العرقي: يأتي أولاً "البيض" (يُطلق عليهم أحياناً "الأوروبيون")، ثم "الهنود" و"الملونون" و"الأفارقة".

قضيت اثنتي عشرة سنة من دراستي في مدرسة "هندية". لم يكن التعليم "الهندي" جيداً مثل تعليم البيض، لكنه كان أفضل من التعليم الأفريقي. لست متأكداً إذا ما كان من المفترض أن أتعلمه؛ بالنسبة للطلاب الأفارقة، كان الأمر واضحاً.

في خطاب ألقاه في يونيو/حزيران 1954، أعلن رئيس الوزراء الجنوب أفريقي، هندريك فيرورد، الذي يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه مهندس الفصل العنصري، أنه لا يوجد "مكان" للأفريقي "بغض النظر عن أشكال معينة من العمل... فما فائدة تدريس الرياضيات لطفل بانتو إذا كان لا يستطيع استخدامها عملياً؟".

حرية الإقامة والتنقل

أجبرت الركيزة الثانية مجموعات مختلفة على الإقامة في مناطق جغرافية مختلفة، وقيّدت حركة الأشخاص بين تلك المناطق. كان ذلك هو أساس "الفصل العنصري الكبير" الذي أنشأ "الأوطان" (أطلق عليها لاحقاً بشكل غير رسمي "البانتوستانات") لأبناء جنوب أفريقيا "الأفارقة". وكان الهدف منها حرمان السكان الأفارقة من المواطنة والجنسية في "جمهورية جنوب أفريقيا" ونقل جنسيتهم إلى البانتوستانات، حتى وإن لم يقيموا هناك أو لم يقيموا فيها قط. غير أنه لم يكن ممكناً نسب "الهنود" و"الملونين" إلى بانتوستان.

فقررت حينها حكومة الأبارتهايد تعييننا كشركاء صغار، إلى درجة تنظيم انتخابات برلمانية لهذه المجموعات، مما أدى إلى برلمان ثلاثي المجالس. قاطع معظمنا، من المصنفين كـ"ملونين" و"هنود"، هذه الانتخابات، والتي غالباً ما أدت إلى نسبة مشاركة بحوالي 2 في المائة.

الرهان المركزي للمكون الأمني

تتمثل الركيزة الثالثة في "الأمن". تشمل أدوات القمع، الاعتقال الإداري والتعذيب والرقابة والحظر والقتل خارج نطاق القضاء في جنوب أفريقيا وخارجها. لم يكن الجهاز القمعي يستهدف النشطاء فحسب، بل أيضاً كل الذين يخالفون القوانين المتعلقة بتصاريح المرور، ويمارسون حريتهم في التعبير، وضد الذين يتزوجون أو لهم علاقات جنسية خارج الانقسام "العرقي".

كان من غير القانوني بالنسبة لي الزواج من امرأة أفريقية، أو البقاء في مقاطعة ''أورانج فري ستيت'' لأكثر من 24 ساعة، أو العيش في مقاطعة ترانسفال. عاشت عائلتي في جوهانسبرغ لمدة ثلاث سنوات، حتى بلغت السادسة من العمر. ثم اضطررنا للعودة إلى ديربان، لأنه لم تكن هناك مدرسة في جوهانسبرغ تقبل تسجيلي كون والدي من "هنود" الناتال.

يقوم الفصل العنصري الإسرائيلي، داخل دولة إسرائيل نفسها، وفي الأراضي المحتلة، الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية، على الركائز الثلاثة نفسها إلى حد ما.

تقسم الركيزة الأولى الأشخاص إلى مجموعات مختلفة، يهود وغير يهود من خلال قانون العودة لعام 1950 (العام نفسه الذي أقرت فيه جنوب أفريقيا قانون تسجيل السكان للغرض نفسه). وهو قانون يحدد من هو اليهودي، ويمنح اليهود من جميع أنحاء العالم الحق في الهجرة إلى إسرائيل أو الأراضي الفلسطينية المحتلة.

في إسرائيل نظام مؤسسي يمنح امتيازاً للمواطنين اليهود على المواطنين غير اليهود

والنتيجة هي نظام مؤسسي يمنح امتيازاً للمواطنين اليهود في إسرائيل على المواطنين غير اليهود. في الأراضي المحتلة، على عكس نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، الذي نقل مواطنة "الأفارقة" إلى كيانات سياسية وهمية جديدة، يُحرم الفلسطينيون من أي وضع.

في إسرائيل نفسها، يعلن "القانون الأساسي: إسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي"، الذي تم تبنيه في 19 يوليو/ تموز 2018، أن إسرائيل هي "دولة يهودية"، على الرغم من أن أكثر من 20 في المائة من سكانها ليسوا يهوداً، كما أنه يكرس الفكرة، المخالفة لمفهوم جميع الديمقراطيات، بأن هناك فرقاً بين المواطنة والجنسية.

لا يمكننا تصور وضع تعلن فيه جنوب أفريقيا أن الأشخاص البيض في كل العالم يتمتعون بالجنسية الجنوب أفريقية، في حين أن السود (بمن فيهم من هم مصنفون على أنهم "ملونون" و"هنود") يمكن أن يكونوا مواطنين لكنهم لا يتمتعون بالجنسية.

التمييز في الحياة اليومية

يشمل التمييز في إسرائيل قيوداً على الخدمات الاجتماعية، وعلى ما يمكن تدريسه وتعليمه في المدارس، وفي أنواع معينة من الوظائف. يعد قانون المواطنة والدخول إلى إسرائيل لعام 2003 الذي يحظر لمّ شمل العائلات الفلسطينية مثالاً آخر على التشريعات التمييزية.

يُحرم الفلسطينيون في الأراضي المحتلة من حق مغادرة بلادهم والعودة إليها، ومن حرية التنقل والإقامة، وحق الوصول إلى الأرض. وينطبق ذلك أيضاً على الفلسطينيين في القدس الشرقية الذين لهم وضع مختلف.

ومما يبرز التفاوت في المعاملة بين المجموعتين، تطبيق قوانين أكثر صرامة ومحاكم مختلفة للفلسطينيين في الأراضي المحتلة مقارنة بالمستوطنين اليهود، والقيود التي تفرضها نظم التصاريح وبطاقات الهوية، ومن خلال الحصول على المياه في الأراضي المحتلة: تمنح معظم المياه للمستوطنين بجزء بسيط من السعر المفروض على الفلسطينيين.

في إسرائيل ذاتها، تُدعم الركيزة الثانية، وهي الفصل، بقانون أملاك الغائبين الذي يضمن سرقة الأراضي على نطاق واسع. تنقسم اليوم أراضي إسرائيل إلى أراض قومية، 93 في المائة من الأراضي، وأراض خاصة، 7 في المائة. تشمل الأراضي القومية أراضي الدولة وأراضي الصندوق القومي اليهودي، وهي مخصصة للاستخدام الحصري لليهود.

يضمن قانون أملاك الغائبين في إسرائيل سرقة الأراضي على نطاق واسع

لا يمكن للفلسطينيين الإسرائيليين امتلاك سوى الأراضي الخاصة. وبالتالي، فإن 20 في المائة من السكان يمكنهم فقط استخدام جزء من هذه 7 في المائة من الأراضي. ليس لدى إسرائيل قانون مماثل لقانون جنوب أفريقيا الذي كان يفرض على المجموعات "العرقية" المختلفة العيش في مناطقها الخاصة. لكن قرارات المحاكم الإسرائيلية كان لها التأثير نفسه، إذ منعت العائلات الفلسطينية من العيش في المناطق اليهودية. بل إن القانون الإسرائيلي يمنع تجنس أزواج مواطنيها الفلسطينيين، مما يجبر العديد من العائلات الفلسطينية على المغادرة.

تفتيت الأراضي المحتلة

في الأراضي المحتلة، تُترجم الركيزة الثانية بالتفتيت. يتعلق الأمر على الخصوص بسرقة إسرائيلية واسعة النطاق للأراضي الفلسطينية بطرق مختلفة، بما في ذلك من خلال الجدار الفاصل العنصري؛ والإغلاق المحكم على غزة، وفصل القدس الشرقية عن باقي الضفة الغربية؛ وتقسيم الضفة الغربية إلى شبكة من المستوطنات المتصلة لليهود الإسرائيليين، وجيوب فلسطينية محاصرة وغير متجاورة.

لا يُسمح لليهود الإسرائيليين بدخول هذه البانتوستانات، تماماً كما لم يكن يُسمح للبيض بدخول البلدات (تاون شيب) الأفريقية. لكنهم يتمتعون بحرية التنقل في بقية الأراضي الفلسطينية. بينما كنت عالقاً في ازدحام مروري في سيارة أجرة مع سائق فلسطيني، شاهدت سيارات تتحرك بهدوء على بُعد بضع عشرات من الأمتار، على طرق مخصصة للمستوطنين اليهود. حتى دولة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا لم تنشئ طرقاً منفصلة لمجموعات عرقية مختلفة.

لا تشبه الركيزة الثالثة للفصل العنصري الإسرائيلي، بقوانينها وآلياتها "الأمنية" القمعية كثيراً تلك التي كانت قائمة في نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا. بالطبع، تشبه عمليات الإعدام خارج نطاق القضاء (بما في ذلك على الأراضي الأجنبية)، والتعذيب، والاعتقال الإداري ما اختبرناه.

في الأراضي المحتلة، يُستخدم "الأمن" فعلياً لتبرير القيود المفروضة على حرية الرأي والتعبير والتجمّع وتكوين الجمعيات والتنقل للفلسطينيين. لكننا لم نشهد أبداً، حتى في أسوأ أيام الأبارتهايد، طائرات هليكوبتر مقاتلة وطائرات حربية تحلق فوق مناطق سكنية سوداء، أو دبابات تقوم بدوريات في تلك المناطق، تقصف منازلنا وتطلق قذائف وصواريخ على مدارسنا.

في الأراضي المحتلة، يُستخدم "الأمن" فعلياً لتبرير القيود المفروضة على حرية الرأي والتعبير والتجمّع وتكوين الجمعيات والتنقل للفلسطينيين

تبدو الركائز الثلاث أكثر وضوحاً في الخليل، وهو المكان الذي اقترف فيه عنصري صهيوني مجزرة ضد فلسطينيين في مكان عبادة؛ وحيث يعيش المستوطنون، حرفياً، فوق الفلسطينيين ويلقون القمامة على رؤوسهم؛ وحيث تُغلق مداخل منازل الناس، مما يجبرهم على إيجاد طرق أخرى للدخول إلى ممتلكاتهم والخروج منها؛ وحيث يشغل المستوطنون الجزء الأكبر من ساحاتهم؛ وحيث يتعرض الأطفال بانتظام للضرب على أيدي الجنود والمستوطنين؛ وحيث يجري إغلاق شوارع فلسطينية بأكملها -وهي كانت ذات يوم مناطق تجارية نابضة بالحياة- لتُسخّر للاستخدام اليهودي حصرياً.

المسألة الدينية... نقطة مشتركة أخرى

قد لا يبدو أي من هذا مألوفاً لمواطني جنوب أفريقيا الذين عاشوا في ظل نظام الأبارتهايد. هناك اختلاف في الطبيعة بين الاثنين: في إسرائيل، يجري جمع الفصل العنصري والاستعمار في حزمة واحدة. يشير بعض المعلقين إلى اختلاف آخر: قد يلعب الدين دوراً مهماً في السياق الفلسطيني، على عكس الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. وهذا خطأ.

السياسات والقوانين والإجراءات الإسرائيلية التي نشهدها تذهب أبعد من الأبارتهايد الذي عانينا منه في جنوب أفريقيا

جرى تبرير الأبارتهايد في جنوب أفريقيا على أساس الكتاب المقدس، كما هو حال الفصل العنصري الإسرائيلي. كانت تربيتي "الهندية"، وتربية أصدقائي "البانتو"، والتربية "البيضاء" لأحفاد فيرورد جزءاً مما كان يسمى بـ"التنشئة المسيحية الوطنية". كان الدين أداة اضطهاد حاسمة في جنوب أفريقيا، كما هو الحال في فلسطين. يتذكر الجنوب أفريقيون أن إسرائيل كانت واحدة من الدول القليلة التي لم تطبّق العقوبات الدولية ضد بريتوريا.

وقد حافظت إسرائيل على علاقات فعالة في الميدان العسكري، والاستخباراتي، وفي مجال تطوير الأسلحة النووية. ولكن في حين أن أوجه التشابه بين نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وإسرائيل تظل صارخة، بالنسبة للعديد من مواطني جنوب أفريقيا، خصوصاً السود، فإن السياسات والقوانين والإجراءات الإسرائيلية التي نشهدها تذهب أبعد من الأبارتهايد الذي عانينا منه في جنوب أفريقيا.

ينشر بالتزامن مع موقع أوريان 21

https://orientxxi.info/ar