يشتهر الشعب الفلسطيني ومسيرته النضالية المقاومة بالكوفية الفلسطينية، التي زينت وتزين صورة الفدائي المدافع عن الحقوق الفلسطينية بكل ما يملك من قوة وإمكانات، كما أصبحت الكوفية رمزاً عالمياً عابراً للحدود، يستخدم لإخفاء معالم الوجه، ورمزاً للدفاع عن الحقوق الوطنية، في أكثر من بلدٍ وموضعٍ.
فلسطينياً، كانت الكوفية جزءاً من رداء الفلاح الفلسطيني، تقيه من أشعة الشمس الصيفية، وقسوة الرياح الباردة الشتوية، إلى أن تحولت رمزاً نضالياً في ثورة فلسطين الكبرى 1936- 1939 أثناء الاحتلال البريطاني، حين استخدمها شباب الأرياف من ممارسي العمل الفدائي ليلاً والزراعي نهاراً، بغرض إخفاء معالم وجوههم، تجنباً لاعتقالهم من قبل سلطات الاحتلال.
نجحت هذه الخطة لبرهة قصيرة من الزمن، إلى أن عمدت سلطات الاحتلال البريطاني إلى اعتقال كل شاب يرتدي أو يمتلك الكوفية، حينها كان لابد من إكساب العمل الفدائي شرعيته الشعبية، عبر احتضانه وحمايته من قبل حاضنته الاجتماعية الأوسع، ممثلةً بمجمل شعب فلسطين، وهو ما كان بعد الإعلان عن وجوب استخدام الكوفية من قبل مجمل الشعب الفلسطيني، الأمر الذي تجاوب معه سكان القرى والمدن على حد سواء، المثقفون والسياسيون والعمال والفلاحون، الرجال والنساء.
عندها حمى الشعب الفلسطيني الفدائي من الاعتقال وباتت الكوفية رمزاً نضالياً جامعاً لمجمل شعب فلسطين، تلك الرمزية التي استمد منها رئيس منظمة التحرير الراحل ياسر عرفات جزءاً من شعبيته الواسعة بارتدائه الدائم لها، فالكوفية رمز ثقافي وسياسي فلسطيني تاريخي، له جذور عميقة في تاريخ شعب فلسطين الأصلي، وعليها أن تبقى كذلك بعيداً عن تجاذبات القوى السياسية المتصارعة على السلطة الوهمية.
اليوم يستخدم الفلسطيني الكوفية رمزاً نضالياً سياسياً وثقافياً وميدانياً، لكنه لم يعد يستخدمها، إلا ما ندر، بغرض إخفاء معالم الوجه، فالتطور التقني الهائل مكّن الاحتلال وأذنابه من التعرف إلى هوية المناضل عبر بصمة العين، وبالتالي فإن الكاميرات والحواجز العسكرية المنتشرة على امتداد أرض فلسطين حدت من حرية العمل النضالي، والتنسيق الأمني وأجهزة الرقابة الإلكترونية اخترقت البيوت والشوارع، حتى بات إخفاء هوية المناضل أمراً صعباً وشبه مستحيلٍ.
لكن ورغم كل ذلك، لم يعدم شعب فلسطين وسائل احتضانه الفعل المناضل بجميع أشكاله وأنواعه، كما تجلى في أعقاب عملية نفق الحرية، تلك العملية التي سطرها ستة من الأبطال الأسرى، الذين نجحوا في هزيمة تحصينات سجن الجلبوع الأمنية المشددة، حافرين نفقاً قادهم إلى خارج السجن، رغماً عن الاحتلال وحراساته وتقنياته المتطورة.
لم يحصر شعب فلسطين الأصلي نصرته أبطال عملية نفق الحرية بترديد الأهازيج وتوزيع الحلوة فقط، بل سارع إلى إرباك قوات الاحتلال، عبر مئات الاتصالات المضللة، الساعية إلى تضليل قوات الأمن ونشر أخبار خادعة تمنح الأسرى حريتهم لأطول مدة ممكنة. كذلك سارع سكان الأحياء والبلدات الفلسطينية على امتداد أرض فلسطين التاريخية، إلى تسهيل وصول الأسرى للطعام والشراب والثياب، من خلال وضعها في أماكن ظاهرة يسهل الوصول إليها، دون الحاجة لطلب أيٍ منها.
مرةً أخرى يمنح شعب فلسطيني شرعيته المطلقة للعمل النضالي، فردياً كان أم جماعياً، بعد مبادرة مجموعة من شبان مخيم شعفاط إلى حلاقة شعر رؤوسهم كاملةً، تشبهًا بمنفذ عملية حاجز شعفاط؛ عدي التميمي، الذي استشهد لاحقاً أثناء تنفيذه عمليته الثانية. هدف هؤلاء الشبان من حلاقتهم رؤوسهم تضليل قوات الاحتلال والتشويش على عملياته الأمنية والعسكرية الساعية إلى القبض على منفذ عملية حاجز شعفاط؛ قبل عمليته الثانية، وهي ذات الغاية التي دفعت شعب فلسطين قبل قرابة المئة عام إلى استخدامه الكوفية في حياته اليومية العادية منها والنضالية.
قد لا يتحول الصلع؛ الشعر المحلوق، مستقبلاً إلى رمزٍ نضاليٍ يجاري رمزية الكوفية، لكنه اليوم تعبير شعبي عفوي عن خيار شعب فلسطين السياسي والثقافي والاجتماعي والميداني، كما قد يكون نموذجاً لتطويع أحدث تقنيات وأدوات فن التجميل في حماية وتطوير العمل النضالي، التي استخدمت قبل سنواتٍ خلت من قبل وديع حداد.