من الاغتيال إلى بناء قوة عسكرية في الخارج: 4 سيناريوهات ممكنة لمستقبل بريغوجين و"فاغنر"

27 يونيو 2023
ترك بريغوجين وراءه أعداء كثيرين في روسيا (Getty)
+ الخط -

الكثير مما حدث ليلة الرابع والعشرين من فبراير/شباط يؤشر إلى أن تمرّد "فاغنر" لن يكون مجرّد زوبعة في فنجان. لقد قتلت المليشيا، في طريقها نحو موسكو، 13 طيّارًا روسيًّا في غضون ساعات، واحتلّت، بدخولها روستوف، عصب القيادة والسيطرة الرئيسي الذي يدير العمليات في أوكرانيا، ودعت جنود الجيش، في ما يشبه لغة الانقلابات، إلى الانضمام إليها في "مسيرة العدالة"، وعصى رجالها أوامر رأس النظام، ووليّهم المباشر مؤسّس المجموعة والرئيس الدستوريّ، حينما أمرهم بإلقاء السلاح؛ وفي المحصّلة، ارتكبوا الجريمة الأشدّ تغليظًا في قاموس الدول السيادي، وهي "الخيانة العظمى"، بوصف الرئيس الروسي نفسه، و"التمرّد المسلّح"، في منصوص التهمة الجنائية التي رفعت ضدهم.

هل يمكن إذًا أن تمرّ محاولة انقلاب صريحة بدون محاسبة؛ وعلى نظام كان الروس يتوجّسون من انتقاده في سرّهم؟ وكيف ستردع الدولة، في حال غضّت الطرف عنه، من قد تراوده هذه الفكرة مستقبلًا؟ لا يفضي هذان السؤالان تحديدًا إلى إجابات مفتوحة: إمّا أن تكون فورة فاغنر مقدّمة لتصدّعات أكبر داخل روسيا ومنظومتها الحاكمة وجيشها، وإما أن تكون بداية النهاية لظاهرة يفغيني بريغوجين، ومعه ربّما شركته العسكرية سيئة الصيت. ضمن هذين الاحتمالين وخارجهما، نطرح هنا السيناريوهات التي يمكن مقاربتها حاليًّا لمستقبل "فاغنر" وزعيمها، والقرائن المعزّزة والمضادة لكل واحد منها:

النجاة في المنفى: التقاعد أو تسخير "فاغنر" لبيلاروسيا

رغم كلّ ما صدّرناه، لا يمكن استبعاد هذا السيناريو، وإن كان لا يبدو مرجّحًا لكثيرين. في الأساس، قد يكون انفلات بريغوجين في تلك الليلة لهذه الغاية تحديدًا؛ وهو الذي، منذ اللحظة التي باشر فيها توبيخه المعلن لوزير الدفاع وجيشه، اقترف مخالفة جنائية، وصار تحت طائلة "قانون المسؤولية الجنائية لتشويه سمعة الجيش الروسي" الذي يعاقب بالسجن لمدة تصل إلى 7 سنوات. لكنه ذهب أبعد من ذلك، حينما اعتقل كولونيل في الخطوط الأمامية للجيش، أثناء انسحابه من باخموت في مايو/أيار الماضي، وأخضعه لتحقيق أمام الكاميرات. بعد ذلك، دخل في مساجلة مع رئيس الشيشان، وأضاف شخصية قوية أخرى إلى قائمة الأعداء؛ وربما كان في صدارتها أيضًا رئيس البلاد نفسه، منذ أومأ إليه بوصم "الجد السعيد الأحمق"، ثم رفض أيضًا الإذعان لأمره بتوقيع عقود مع وزارة الدفاع.

في لحظة ما، ربما شعر بريغوجين بأن الحبل سينعقد على رقبته إذا لم يتحرك مبكّرًا، وهذا ما ينسجم مع ما نقلته مصادر استخبارية أميركية، لشبكة "سي أن أن"، عن أن زعيم "فاغنر" كان يحشد لتحرّكه منذ فترة؛ وما ينسجم أيضًا مع ما أفصح عنه بريغوجين نفسه بالأمس، حينما قال إنه ثار لـ"إنقاذ فاغنر".

استقرار بريغوجين في بيلاروسيا، مع ضمان أمنه، هو أصلًا فحوى الوساطة التي قادها الرئيس أليكساندر لوكاشينكو. هذا الأخير هو أيضًا صديق شخصي لبريغوجين منذ 20 عامًا، وقبل ذلك، رئيس دولة ذات سيادة، ووساطته تحمل الصبغة الدولية. بمعنى آخر، إذا سلّمت بيلاروسيا جارتها ضيفها المتمرّد، وهو في حالة لجوء سياسي، فإنها ستضرّ بصورتها كوسيط محتمل، وهي التي رعت، في بداية الحرب، المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا.

في وسع بريغوجين، وهو الذي يملك طائرة خاصة ويختًا بمليون دولار، أن يتقاعد من العسكرة والسياسة، ويعيش حياة بلا مشاغل في بيلاروسيا. لكنه من ناحية أخرى يدرك، وهو القادم من مطبخ الدسائس للسياسة الروسية، أن له أعداء كثيرين في موسكو، ولذلك كان الحديث، في البيان الذي صدر من مينسكن، عن "ضمانات أمنية". قد تشمل تلك الضمانات نقل حامية من "فاغنر" إلى مينسك، وفي سيناريو آخر متصور، تقديم خدماتها للدولة البيلاروسية. هذا ما يذهب إليه، مثلًا، المدوّن العسكري الروسي مايكل ناك، الذي يرى أن المجموعة ستواصل من هناك عملياتها في أفريقيا أيضًا، فيما يعتقد الخبير العسكري أوليغ ستاريكوف، متحدّثًا لموقع "فوكاس" الأوكراني، أن لوكاشينكو سيستفيد من المليشيا في قمع معارضيه. حتى قبل الأحداث الأخيرة بأشهر، وتحديدًا في 26 يونيو/حزيران الماضي، نشر موقع "نيماغا" الروسي خبرًا عن معسكرات يجري بناؤها في بيلاروسيا لتستوعب 8000 مقاتل من "فاغنر" على الأقل. في حال صحّ هذا الافتراض، فذلك معناه أن روسيا ستواصل الاستفادة، وإن بشكل غير مباشر، من بريغوجين ومرتزقته؛ لأن هذه الحرب كشفت عن تبعية مطلقة من بيلاروسيا لنظام بوتين.

قيادة تمرّد من الخارج

لكن تبعية بيلاروسيا قد تكون أيضًا الحجة المضادة للسيناريو المذكور آنفًا. خلال هذه الحرب، بدت بيلاروسيا أرضًا مفتوحة بالنسبة للروس مع حرية كبيرة للحركة؛ وعلى ذلك، فقد يبيّت الطرفان خطة للتخلص منه، بالذات لأن من تمرّد في السابق قد يعيد الكرّة مستقبلًا، وفي أي مكان. قد يدفع هذا الأمر، في حال حدوثه، بريغوجين للبحث عن طوق نجاة آخر، ولعلّه لن يجد صعوبة كبيرة في إيجاده، بالنظر إلى وجود مستفيدين كثيرين من إنهاك روسيا في صراعاتها الداخلية.

في الواقع، كانت "فاغنر" مجرّد واحدة من نحو 40 فرقة عسكرية غير نظامية تقاتل ضمن الأراضي الروسية، بعضها بأيديولوجيات قومية متطرفة، وأحيانًا نازية؛ ومنها أيضًا من منح بريغوجين منصة دائمة على قنواته في "تليغرام"، مثل قوات دونباس الشعبية. القائد السابق لهذه المليشيا، إيغور غيركين، كان غداة الانقلاب يدير ندوة في موسكو لحزبه "نادي الوطنيين الغاضبين"، ويواصل انتقاداته اللاذعة للكرملين والجيش على ضعف الأداء في الحرب. هذا الشخص طالب بشكل صريح، في السابق، بنقل صلاحيات بوتين الرئاسية إلى "أطراف أخرى" إن لم يسيطر على الأمور في جبهة أوكرانيا. حاصل الحديث أن تمرّد بريغوجين الأخير أضاء على إشكالية المليشياوية والإقليمية داخل المفارز الروسية، وهي بمثابة قنبلة قابلة للانفجار عند أي مفترق. كذلك، فإن صور الجماهير إذ تهتف باسمه وباسم مليشيا "فاغنر" في الشوارع، وحرصه على مبادلتها التحية قبل المغادرة، كشفا، من ناحية، عن مشاعر إحباط مضمرة في الشارع الروسي إزاء الحرب والقيادة؛ ومن ناحية أخرى، أن بريغوجين ما زال يبحث عن شعبية ومريدين.

طُرح هذا الأمر في الحيّز العام، وإن استفهامًا، حينما سأل مراسل "أسوشييتد برس" المتحدثَ باسم الحكومة النمساوية، الاثنين، إن كانت بلاده ستمنح لجوءًا سياسيًّا لبريغوجين؛ ليردّ بأن هذا الأخير محظور في دول الاتحاد الأوروبي، وأن الفكرة غير قائمة. لكن في أوكرانيا، يقاتل شخص آخر محظور في أوروبا لسجلّه العنيف، هو دينيس نيكيتين، على رأس "فيلق المتطوعين الروس"، إلى جانب الجيش الأوكراني؛ وقد ظهر جنوده في بيلغورود الروسية بعربات "هامفي" أميركية. للغرب -الولايات المتحدة تحديدًا- سوابق تشهد أيضًا على أنها لا تفكّر كثيرًا حينما يتعلق الأمر بإيذاء الروس، و"القاعدة" وفلولها مثال على ذلك.

في حالة انضمام مقاتلي "فاغنر" إلى الجيش، فقد تجد الدولة الروسية، على الأغلب، فرصة لـ"غسل يدها" منهم في ساحة المعركة

توازيًا مع ذلك، أظهر بريغوجين بعض "القابلية" لذلك، حينما اتصل بالأوكرانيين في خضم الحملة على باخموت بعرضٍ لتبادل المصالح، كما كشفت وثائق "ديسكورد". لم تكن تلك الوثائق محض تسريبات صحافية، وإنما معلومات أمنية خام كان يفترض أن تبقى داخل مجتمع الاستخبارات الأميركية.

لكن ما قد يثبّط هذا السيناريو أن بريغوجين، الساعي وراء صورة "البطل"، سيظهر بمظهر الخائن لدى عموم الروس. أيضًا، وبخلاف المتطوعين الروس ذوي السجل الإجرامي الشخصي، فإن زعيم "فاغنر" مجرم حرب عابر للحدود، وإحراق مدينة بحجم باخموت بعض ما اقترف.

تفكيك "فاغنر"

المرسوم الذي صدر عن وزارة الدفاع الروسية منتصف هذا الشهر، والقاضي بتوقيع مقاتلي "فاغنر" عقودًا مع وزارة الدفاع، يعني تقنيًّا أن المليشيا لن تعود قائمة في صورة الشركة العسكرية الخاصة. شرط الانضواء في وزارة الدفاع كان مضمّنًا أيضًا في إعلان الوساطة، ثم أكد عليه الرئيس الروسي في خطابه بالأمس. أما رئيس اللجنة التشريعية في مجلس الدوما الروسي، بافيل كارشينينكوف، فكان أكثر تفصيلًا، حينما أكد أن السجناء، وهم من أهم الموارد البشرية لـ"فاغنر"، "لن يتاح لهم توقيع عقود إلا مع وزارة الدفاع، وفاغنر لن يكون بوسعها بعد الآن تجنيد أشخاص في الخارج أو السجون"، مبيّنًا أن ذلك يعني "أن فاغنر خسرت بالفعل جزءًا من قدرتها التشغيلية، لأنها أصبحت شركة بلا موظفين".

في حالة انضمام مقاتلي "فاغنر" إلى الجيش، فقد تجد الدولة الروسية، على الأغلب، فرصة لـ"غسل يدها" منهم في ساحة المعركة، عبر الزج بهم في نقاط قتال ميّتة. يؤيد هذا الافتراض الخبير العسكري الروسي، أليكساندر كوتشوليف، مذكّرًا، في حديث لموقع "فوكاس" الأوكراني، بأن "فاغنر" نفسها عمدت إلى تصفية قادة عسكريين من المليشيات الانفصالية في دونباس حينما أصبحوا "خارجين عن السيطرة".

السيناريو الآخر المطروح، ضمن هذا النقاش، هو أن يحدث هذا التفكيك بمعزل عن "القتل الصامت" في ميدان المعركة، وعبر قانون رسمي، ثم يصار إلى الاستعاضة عن "فاغنر" بشركات بديلة. يجدر التذكير هنا بأن رئيس الشيشان، رمضان قديروف، سبق وأفصح عن نيّته -في حضرة بريغوجين الذي زاره في غروزني- تأسيس شركته العسكرية الخاصة على غرار "فاغنر". يرى معلّقون أن "كتائب أحمد"، التي شكّلها خلال الحرب، ستكون مرشّحة لأداء هذا الدور. توازيًا، كان رئيس لجنة الدفاع في مجلس الدوما، أندري كارتابولوف، قد ألمح في مقابلة مع قناة "أر أي إيه نوفوستي" الروسية إلى أن فكرة إصدار مشروع قانون بخصوص فاغنر مطروحة، لكنه قال إنه لن يكون جاهزًا قبل خريف هذا العام، إذ يتطلّب "دراسة عميقة".

لن تعدَم موسكو الوسيلة للقتل الصامت، وهي المحمّلة بتاريخ غنيّ في الاغتيالات منذ عهد الاتحاد السوفييتي، وبقدرة "فريدة" على الابتكار؛ من علب الشوكولاتة المفخخة، إلى أعشاب الهملايا السامة

تلك "الدراسة العميقة" مردّها، في الحجّة النقيضة، إلى أن "فاغنر" تظلّ المليشيا الأكثر أهلية لخوض الحروب في البلاد، فهي تضم، بمعزل عن أصحاب السوابق، مقاتلين متقاعدين ذوي خبرة. عدا عن ذلك، فهي تدير مصالح روسيا الحيويّة عبر الحدود، والتي تمتدّ من دعم وكلاء سياسيين وعسكريين محليين، إلى ضخّ المال والذهب من بلدان القارة الأفريقية، وهما موردان مهمّان للدولة الروسية لا سيما في ظل المقاطعة الدولية.

في نهاية المطاف، بريغوجين لم يكن إلا شريكًا مؤسّسًا في "فاغنر"، وفي بطانتها رجال أقوياء كثر لم يجاروه في خرجاته اللاذعة، ومنهم على سبيل المثال الشريك المؤسس الثاني أندري بوغوتوف، وهو ضابط ذو خبرة في الجيش الروسي.

الاغتيال.. على طريقة الوخز بالمظلّة

بالنظر إلى سوابق بوتين مع معارضيه، قد يكون هذا السيناريو الأكثر تفضيلًا لعميل الـ"كي جي بي" السابق. ذلك ما يرجّحه رئيس "سي آي إيه" السابق، دافيد بيترايوس، الذي يعتقد أن بريغوجين بالأساس "فقد أعصابه" ثم أدرك حجم فعلته.

ولن تعدَم موسكو في ذلك الوسيلة، وهي المحمّلة بتاريخ غنيّ من الاغتيالات منذ عهد الاتحاد السوفييتي، وبقدرة "فريدة" على الابتكار؛ من علب الشوكولاتة المفخخة، إلى أعشاب الهملايا السامة، ثم المواد الكيميائية التي لم تستطع أنظمة غربية، بتقنياتها الحديثة، التعرف إليها. يمكن أن نجد الكثير من السوابق في التاريخ القريب وحسب، والمعارض الروسي الشهير ألكسي نافالني، كان آخرها. لكن يد روسيا الرمادية امتدّت لتطاول معارضين، وأوليغارشيين، وعملاء مزدوجين سابقين، في أماكن أبعد بكثير، جغرافيًّا وسياسيًّا، من بيلاروسيا. في بريطانيا وحدها مثلًا، كانت بصمات الكرملين في 14 عملية اغتيال وقعت خلال العقدين الأخيرين، آخرها بحق المعارض نيكولاي غلوشكوف، الذي وجد مخنوقًا داخل منزله في لندن عام 2018. العام ذاته شهد أيضًا محاولة الاغتيال الشهيرة للضابط السابق في الاستخبارات الروسية، وعميل بريطانيا المزدوج، سيرغي سكريبال، بغاز "نوفيتشوك" الشهير.

العامل الوحيد الذي قد يدعو الكرملين للتفكر قبل الإقدام على خطوة كهذه هو تأليب مقاتلي "فاغنر"، ودفعهم إلى الانتقام. لكن اغتيالًا كذلك الذي نفذه عميل سوفييتي في عام 1978، حينما وخز معارضًا بلغاريًّا -عرَضًا- برأس مظلّة مطليّ بسم الرايسين، لن يحدث الكثير من الضجيج.

المساهمون