يرى بعض ساسة اليسار في أوروبا أنه لا حاجة للتصعيد مع روسيا
يركز الفيديو الدعائي للمناورات على خريطة تظهر البحر الأسود والقرم
كلاوس ماتيسين: الناتو يريد أن يظهر لروسيا استعداده لها
تستمر خلال الأسابيع المقبلة المناورات العسكرية الغربية، التي يشارك فيها 27 بلداً، تحت عنوان "مدافعو أوروبا 21" (Defender Europe 21). ويشارك في المناورات نحو 3 آلاف جندي أميركي، من بين نحو 30 ألفاً من قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو). وتثير المناورات، التي انطلقت الخميس الماضي في ألبانيا، بعد سحب روسيا لقواتها المتمركزة على حدود شرق أوكرانيا الشهر الماضي، وذلك بعد أن كان من المخطط أن تجرى في مارس/آذار الماضي، مخاوف من عودة علاقة الطرفين إلى ما كانت عليه خلال الحقبة السوفييتية: مناورة مقابل مناورة.
وتأتي المناورات الحالية بعد توتر شهدته العلاقة بين موسكو والدول الأوروبية والغربية، إثر نشر روسيا لقوات، قدرت بنحو 100 ألف عسكري على حدود أوكرانيا الشرقية قرب إقليم دونباس، الذي سيطر متمردون، مدعومون من موسكو، عليه في العام 2014. الخطوة الغربية، والتي تأتي في سياق ما بات يُعرف بـ"حرب باردة جديدة"، ترافقت ونشر الحلف لشريط فيديو إعلاني عن المناورات، أشبه بدعاية لأفلام هوليوود. وعلى الرغم من أن الخطوة الروسية السابقة على حدودها الغربية وفي شبه جزيرة القرم أدت إلى تغطية إعلامية واسعة في أوروبا، وترت الأجواء واستدعت تنديداً كبيراً، إلا أن "مدافعو أوروبا 21" لا تجد تغطية وتنديداً واسعين، إلا من بعض ساسة اليسار، الذين يرون أن لا حاجة لأوروبا بالتصعيد. تلك المواقف النقدية عبّر عنها الأمين العام السابق للحزب الاجتماعي الديمقراطي في ألمانيا، أوسكار لافونتين، والمتحول إلى عضوية حزب "دي لينكه" اليساري. وكتب لافونتين، الذي شغل منصب وزير المال في حكومة المستشار الأسبق غيرهارد شرودر (القريب تجارياً واستثمارياً من دوائر الحكم في موسكو) على صفحته على "فيسبوك" في 6 إبريل/نيسان الماضي، أنه "بينما تدور مناورات بمشاركة 30 ألف جندي من 27 دولة، بينها دولتان تجاوران جورجيا وأوكرانيا، فإن الصحافة الغربية لا تزال تُعبر عن تذمرها من سياسات موسكو العدوانية".
ماتيسين: من المبالغة القول إن الخطر قد انتهى، فالروس يرون في المناورات الجارية استفزازاً لهم
وبالنسبة لأوروبيين آخرين فإن المناورات تعتبر تغييراً في سياسات واشنطن الانسحابية التي نفذها الرئيس السابق دونالد ترامب. فإدارة الرئيس الديمقراطي الجديد جو بايدن، أرسلت على مدى الأسابيع الماضية معدات ثقيلة و3 آلاف عسكري، بعضهم تم إنزاله بالمظلات فوق مناطق شرق أوروبا. شريط الفيديو الدعائي لهذه المناورات يظهر، تحت أصوات الصواريخ والقصف المدفعي، أن التدريبات "تهدف إلى استعداد قواتنا (الناتو) للاستجابة السريعة للأزمات وتنفيذ عمليات قتالية كبرى إذا طُلب منا ذلك"، وفقاً لصوت المعلق المرافق لاستعراض بداية المناورات.
روسيا "العدو المحتمل"
لا يحتاج الأمر للتخمين حول الجهة التي يوجه إليها الحلف الغربي مناوراته، التي بدأت بعد إعلان موسكو سحب جنودها، وإعلان حلف شمال الأطلسي أن روسيا "تركت المعدات منتشرة على الحدود الأوكرانية". فالفيديو المرافق، وبلمحات سريعة، يركز على خريطة تظهر منطقة البحر الأسود وشبه جزيرة القرم، وهو ما يعتبره الأوروبيون التهديد الأكبر لأمنهم وأن روسيا "العدو المحتمل". وكانت موسكو بررت إبقاء معداتها العسكرية قرب إقليم دونباس الأوكراني وفي القرم بأنها ستجري لاحقاً مناورات ضخمة، باسم "غرب 21"، تمتد على كل خطوط حدودها الغربية، كرد على ما يبدو على المناورات الحالية.
التوتر السابق لانطلاق المناورات حملته الصحافة الغربية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ولكن ما إن سحبت موسكو 100 ألف مقاتل من الحدود، حتى انطلق الغرب في مناوراته، التي تشارك فيها 12 دولة قريبة من أوكرانيا نفسها، وسيتم توسيعها إلى منطقة البلقان. والقلق الأوروبي من تحركات موسكو ليس بمعزل عن أن بوتين تدخل سابقاً في أوكرانيا.
وعن هذه الخطوة الغربية، رأى خبير الشؤون العسكرية الروسية وحلف شمال الأطلسي في "أكاديمية الدفاع الدنماركية"ـ كلاوس ماتيسين، أنه "بلا أدنى شك، فإن الناتو يريد أن يظهر أنه إذا كانت روسيا تنشر قوات حول أوكرانيا فإن الحلف مستعد لها في أوروبا". ونقلت صحيفة "بوليتيكن" الدنماركية، السبت الماضي، عن ماتيسين قوله إن رسالة "الناتو" واضحة العنوان: "حلف شمال الأطلسي مستعد للدفاع عن أوكرانيا، وأن الولايات المتحدة الأميركية عادت إلى أوروبا، ومستعدة للتدخل إذا تحرك الروس في شرق القارة".
والقلق في بولندا ودول البلطيق ليس جديداً، حيث اعتبر الأوروبيون أن القرارات التي اتخذها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وبالأخص سحب القوات من ألمانيا، أضعفت موقف أوروبا، وعززت المخاوف والشكوك بشراكة ضفتي الأطلسي عسكرياً، ما دفع برلين في أكثر من مناسبة إلى التركيز على الدفاع الأوروبي الذاتي عن مصالحه، حتى من دون وجود حماية أميركية. ورغم جائحة كورونا تظهر تقارير أوروبية أن "موازنات هائلة تصرف على الدفاع في القارة والغرب". ومع انطلاق المناورات الجديدة، رأى ماتيسين أن تلك الدول "أصبح لها ضمان واضح بأن أميركا والناتو ليسا فقط مستعدين لمواجهة أي عدوان روسي، بل إظهار استعداد لعمل عسكري مبادر لمواجهة روسيا".
ويحسب الأوروبيون حساباً جدياً لتدخلات روسيا في الدول المحاذية للقارة العجوز، حيث لا يغيب عن حديثهم وتحليلهم أن بوتين تدخل إثر ثورة شعبية في كييف ضد الرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش، المدعوم من الكرملين، والمتهم من قبل محكمة أوكرانية، في يناير/كانون الثاني الماضي، بـ"الخيانة العظمى" لدوره في تمرد شرقي البلاد واستدعاء التدخل الروسي. وكان بوتين وصف ثورة الشارع الأوكراني في 2014 ضد يانوكوفيتش وتقربها من الاتحاد الأوروبي بأنه تهديد لمصالح روسيا الجيوسياسية الحيوية. ومن وقتها بقي إقليم دونباس وشبه جزيرة القرم بمثابة برميلي بارود بوجه أوروبا، وبدأ الحديث عن حقبة "حرب باردة جديدة". يشار إلى أنه حتى الربع الأول من 2021، كلف التدخل الروسي في أوكرانيا، والحرب بين متمردي الشرق والجيش الأوكراني، نحو 14 ألف قتيل من الطرفين.
علاقة بوتين وزيلينسكي
بالنسبة لمدير مركز أبحاث "كارنيغي موسكو"، ديمتري ترينن، فإن العلاقة بين بوتين والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي تسوء، خصوصاً بعد فشل وقف إطلاق النار في دونباس مرات عدة خلال العامين الماضي والحالي. ورأى ترينن، في تحليل نشر على موقع مركز "كارنيغي" في 14 إبريل/نيسان الماضي، أن زيلينسكي ربما حاول استفزاز بوتين عسكرياً "من أجل حصد تعاطف شعبي واستدعاء لمواقف غربية أكثر قوة". واعتبر أنه من المهم للسياسيين في كييف "إظهار أنفسهم في السياسة الخارجية كضحايا عدوان روسي، وتقديم أوكرانيا على أنها خط دفاع يمنع موسكو من الاقتراب من أوروبا". ونقل ترينن، في تحليله حول النزاع الأخير، عن المسؤول عن ملف أوكرانيا في الكرملين ديمتري كوساك قوله إن "زيلينسكي يقوم بحيلة علاقات عامة، وأن الأوكرانيين يتصرفون كالأطفال الذين يلعبون بالكبريت".
ينتظر كثيرون لمعرفة ما إذا كان يمكن للقاء قمة مفترض بين بوتين وبايدن تبريد التوترات
وفي كل الأحوال يبدو أن الرئيس الأوكراني استطاع تجييش أوروبا وواشنطن بوجه موسكو خلال الأسابيع الماضية، ما اضطر بوتين إلى إرسال ذلك العدد الهائل من قواته وبشكل معلن إلى الحدود الأوكرانية، والتهديد المبطن بالتدخل عسكرياً، فيما كان زيلينسكي يستعرض أمام الكاميرات على جبهات متقدمة للقوات الأوكرانية مع المتمردين في شرق البلاد. ولم تكن الرسالة للأوكرانيين فحسب، وفقاً لمحللي العلاقات بين موسكو وأوروبا، بل لواشنطن نفسها، التي بدأ رئيسها الجديد، عهده بصدام كبير مع الكرملين. واعتبر ترينن أن رسالة بوتين التي وجهها إلى بايدن وباريس وبرلين فحواها أن "مساندة تصرفات زيلينسكي تعني أن هناك ثمناً يجب أن تدفعه أوروبا، مثلما هي رسالة طمأنة لسكان إقليم دونباس بأن روسيا لن تسمح بهجوم أوكراني عليهم". وفي النهاية، اضطر الكرملين، مع تصاعد نبرة الغرب، إلى مراجعة نشر القوات على حدود أوكرانيا، واضعاً إياها "في سياق مناورة وتدريبات عسكرية"، لتبريد مخاوف الأوروبيين المتزايدة حيال روسيا ونبرة خطابها التهديدي.
"الجبهة الباردة" تتوسع
لا شك أن ثقة الأوروبيين بموسكو في الحضيض منذ 2014. فهؤلاء لهم تجربتهم مع إرسال الكرملين "الرجال الخضر"، مرتدي اللباس العسكري دون إشارة لمن يتبعون، والذين اعتبرهم الغرب "مرتزقة موسكو" في أوكرانيا، قبل أكثر من سنة على تدخل روسيا رسمياً في سورية.
ورغم ثقة ترينن بأن بوتين "ليس في وارد فتح حرب بالمطلق، بل كان مجرد استعراض عضلات"، إلا أن مناورات "مدافعو أوروبا 21"، والتي ستستمر حتى 10 يونيو/ حزيران المقبل، مع تيقن أوروبي أن سحب بوتين للعسكريين إلى الثكنات، وترك المعدات العسكرية في أماكنها، سواء على حدود أوكرانيا الشرقية أو في القرم، تفيد بأن الأمور ليست متجهة للتبريد ولا إلى سلام أوكراني في الأفق. ووفقاً للخبير بشأن حلف شمال الأطلسي وروسيا، كلاوس ماتيسين، تتجه الأمور نحو تشنج أكثر خلال الصيف. ويشير بذلك على وجه الخصوص إلى مناورات "غرب 21" التي أعلنت موسكو أنها ستبدأ من غرب البلاد (من القرم جنوباً) إلى شبه جزيرة كولا، في أقصى الشمال الروسي حيث يتمركز أسطولها الأكبر من الغواصات النووية. وقال ماتيسين إنه "من المبالغة القول إن الخطر قد انتهى، فالروس يرون في المناورات الجارية استفزازاً لهم". ويتفق مع هذا الرأي الخبير العسكري الروسي المستقل، ألكسندر غولتز، في تصريحات نقلتها صحيفتا "شبيغل" و"دويتشه فيله" الألمانيتين على خلفية التوتر الحاصل عسكرياً. ورأى غولتز أن مناورات "غرب 21" الروسية جاءت لتعزيز القول إننا "ندخل حرباً باردة جديدة، فكلما أجرى الأطلسي مناورة رد عليها السوفييت بمناورة مضادة، وهو ما يحصل الآن".
وفي كل الأحوال، يرى ساسة جيل الحرب الباردة السابقة، من أمثال أوسكار لافونتين، أن الغرب يستفز روسيا. وللافونتين رأي يشاركه فيه معارضو افتعال أزمات مع موسكو، وجماعات معارضة الحرب في الدول الشمالية، بالتساؤل ووضع علامات استفهام حول أهداف المناورة الأطلسية الأميركية الجارية حالياً، بالقول إن "الأكاذيب تتواصل: فمحاصرة روسيا تسمى دفاعاً. ويبدو أن ساسة الدفاع الغربيين غير قادرين على تخيل ما يمكن أن يحدث إذا قامت الصين أو روسيا بالدفع بقوات نحو كندا أو المكسيك لإجراء مناورات". وطرح لافونتين سؤالاً آخر تزامناً مع المناورات الغربية: "من يتحمل في حقيقة الأمر مسؤولية الجبهة الباردة الجديدة؟ ومن هو أكثر استفزازاً، الغرب أم روسيا؟".
ما طرحه لافونتين المتحول إلى اليسار الألماني على صفحته على "فيسبوك"، رأى فيه ماتيسين، طرحاً يحتاج إلى قراءة، معتبراً أن "أصابع موسكو في شرق أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم وتحويلها إلى قاعدة عسكرية، لا تسهل الأمور على الغرب المضطر إلى إجراء مناورات عسكرية، وإرسال رسائل واضحة إلى موسكو". لعل أوروبا وروسيا يعيشان هذه الأيام حقبة حرب باردة جديدة، تمتد وتتشابك فيها مصالح أطراف كثيرة، وإن كانت الظروف، الأوروبية والروسية، تختلف كثيراً عما كانت عليه في الحقبة الأولى الممتدة منذ 1945 وحتى 1992. وينتظر كثيرون ما إذا كان بالفعل يمكن للقاء قمة مفترض بين بوتين وبايدن تبريد التوترات المقلقة لدول القارة العجوز، بما فيها تلك التي كانت تدور في الفلك السوفييتي، رغم وجود ساسة مقربين إلى بوتين، في عدد من دول وسط وشرق القارة.