استمع إلى الملخص
- وُلد النابلسي في السلط عام 1908، وبرز كقائد سياسي معارض للسياسات البريطانية، حيث أسس الحزب العربي الأردني وانتقد بشدة المعاهدات البريطانية، مما أدى إلى سجنه ونفيه.
- كانت علاقة النابلسي بالملك عبد الله الأول معقدة، حيث عارض سياساته تجاه اليهود، ويرى أن اغتيال الملك عام 1951 كان نتيجة لسياساته المثيرة للجدل.
صدرت حديثاً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر مذكرات رئيس الوزراء الأردني الراحل سليمان النابلسي (1908-1976)، وهي عبارة عن حوار شفوي أجراه معه المؤرخ الدكتور علي محافظة عام 1976 وساعده بالتوثيق الدكتور عبد الله العساف، الذي أصدر سابقا يوميات سليمان التل ومذكرات حاكم الفايز ومجلي النصراوين البعثيين الأردنيين اللذين قضيا سنوات طويلة في سجن حافظ الأسد.
يسرد محافظة الأسباب التي دعته لطلب الحوار مع "الأستاذ سليمان النابلسي، قائد سياسي شجاع وزعيم للحركة الوطنية الأردنية بلا منازع والرجل الأول في المعارضة السياسية الأردنية الذي لا يبارى"، علماً أن هناك اختلافاً كبيراً بين الأردنيين في تقييم تجربة النابلسي السياسية.
شكلت حكومة النابلسي بين تشرين الأول/ أكتوبر عام 1956 وحتى إبريل/ نيسان 1957 سابقة في تاريخ الأردن، إذ كانت أول حكومة برلمانية وتميزت باتجاه تقدمي عروبي وأجهضت بعد ستة أشهر فقط بفعل التدخل الأميركي بالشأن الأردني لصالح المشروع الغربي الصهيوني كما يرى أنصارها. فيما يرى خصومها أنها تعبير عن عدم نضوج المجتمع الأردني لتقبل الديمقراطية، وأيضا تعبير عن ارتهان القوى التقدمية للدعم الخارجي، مصر وسورية والاتحاد السوفييتي.
فازت المعارضة بأكثر من نصف مقاعد المجلس النيابي بانتخابات عام 1956 وكان الحزب الوطني الاشتراكي يملك الكتلة الكبرى في البرلمان رغم سقوط زعيم الحزب سليمان النابلسي بسبب "التزوير العلني المكشوف".
كلف الملك حسين النابلسي بتشكيل الحكومة لأنه رئيس الحزب الفائز، ورد النابلسي على الملك بأنه يخشى ألا يستطيع التوفيق بين رغبة الملك ورغبة الشعب بإنهاء المعاهدة البريطانية والاستعاضة عن المعونة البريطانية بمعونة عربية وأن يسير الأردن في الطريق التحرري العربي إلى جانب مصر وسورية والسعودية. تقف المذكرات عند العام 1960، وسبب التوقف هو تدهور صحة النابلسي وتمكن سرطان الدم منه.
لا نعرف سبب تأخر النشر 47 سنة حتى صدورها عام 2024، ولكن يمكن التخمين أن الجو الرسمي الأردني لم يكن ليسمح بنشرها آنذاك، بل وحتى يومنا هذا ليس هناك منع أو سماح بنشرها.
يعترف المؤرخ علي محافظة بأن هذه المذكرات خالية من الوثائق، ولكن صاحبها كان في غاية الصراحة والوضوح مع الانفعال أحيانا و"يسخر من شخصيات ومن أفكار يتناولها في حديثه". تفتقر هذه المذكرات إلى الدقة والتنظيم، وربما يعود ذلك إلى أنها مجموعة مقابلات شفوية أو ربما لبعد الزمن بين تسجيل اللقاءات ونشرها أو التدخل من آخرين عند نشرها، ومع ذلك تبقى وثيقة مهمة تصدر عن رجل سجن 17 مرة وعمل مع ملوك الأردن عبد الله وطلال وحسين، وصادق الرئيس جمال عبد الناصر وقيادات البعث في سورية وترك بصمة في تاريخ المنطقة.
بدايات سليمان النابلسي
ولد النابلسي في مدينة السلط عام 1908 وتلقى تعليمه فيها ثم انتقل إلى نابلس والقدس وأكمل تعليمه الجامعي في الجامعة الأميركية ببيروت، حيث حصل على شهادة البكالوريوس في الاقتصاد والعلوم السياسية عام 1932. انتقلت العائلة خلال الحرب العالمية الأولى إلى عمّان، التي يذكر عنها "سيلها الذي كان مغطى بشجر الدفلى، ولم يكن في عمان آنذاك سوى بناءين من الحجر وبقية بيوت عمان من اللبن، أي الطوب الطيني.. وكان نفوس عمان بين 300 و400 نسمة".
تعرف النابلسي إلى الحركة القومية في بيروت من خلال عائلة الصلح: رياض وكاظم وتقي الدين والمفكر العربي قسطنطين زريق، وقد انتخب النابلسي مرتين رئيسا لجمعية العروة الوثقى التي كانت، حسب تعبير النابلسي، "مهد الفكر الحر الوطني النضالي في الجامعة الأميركية وفي بيروت بأسرها". يصف بيروت آنذاك قائلاً "لم تكن سوى مدينة صغيرة لا تتجاوز في سكانها 350 ألف نسمة، وكان عدد الطلبة في الجامعة الأميركية محدوداً لا يتجاوز 1500 طالب".
مع الملك المؤسس
عاد النابلسي إلى الأردن عام 1932 وعمل مدرسا في الكرك لعام واحد، ثم عين في ديوان رئاسة الوزراء، ونقل لوزارة المالية بسبب تسريبه اتفاقية مع بريطانيا، وأعيد لاحقا ليشغل منصب سكرتير عام رئاسة الوزراء. يروي النابلسي أن الشعب الأردني وقف ضد معاهدة 1928 مع بريطانيا، والتي كان يريدها الملك عبد الله من كل قلبه، لأنه "جاء الى هنا واستدعاه ونستون تشرشل إلى القدس، وعرض عليه أن يقيم حكما محليا في الأردن، فقبل الأمير. ولكن عرض تشرشل لا يعطي للأمير شرعية، لأن تشرشل لا يملك هذا الحق، فالذي يملك هذا الحق هم سكان البلاد. وهذا لا يقلل من قيمة الأمير عبد الله عندما نتحدث عن التاريخ، وأهل شرقي الأردن كانوا يريدون أن يخلص الأردن لهم، لا أن يؤتى بمستعارين عملاء أو غير عملاء، ولا أن يأتي مرتزقة من سورية ليحكموهم".
يتحدث أن السلطة الحقيقية كانت بيد المعتمد البريطاني وليس بيد الأمير عبد الله، الذي لا يستطيع أن يأمر موظفيه بإنشاء طريق إلى بيته أو أن يزرع عشر شجرات حوله. كان الملك عبد الله الأول "يريد أن يجعل العراق سنده، فالقصد أن يحفظ الهاشميين في هذين البلدين وكان يتطلع إلى الحجاز، فهي أمله البعيد أو حلمه".
يروي النابلسي: "كنت مع الأمير عبد الله وحيدين في القصر وجرّنا الحديث عن الإنكليز، وكان ينظر إلي نظرة أبوية ويعطف علي بالرغم من أنه سجنني أكثر من مرة، ولكنه يظهر أنه يعتقد أني مخلص في اعتراضاتي وانتقاداتي وفي معارضتي ولست استهدف غرضا خاصا، فقال يتهمونني بأنني إنكليزي، أنا إنكليزي؟ عندما كان رومل يدق أبواب الإسكندرية وضع الإنكليز طائرة في مطار عمان لنقل (رئيس الوزراء الأردني) توفيق أبو الهدى .. لقد فكر الإنكليز بأبي الهدى ولم يفكروا بي". يقول النابلسي عن أبي الهدى إنه خدعهم بادعاء الوطنية بينما كان "معتمَد المخابرات البريطانية في الأردن ورجلها الأول".
يتهم توفيق أبو الهدى بعقد صفقة على حساب فلسطين بتوقيع الاتفاقية المعروفة باتفاقية أبو الهدى - بيفن عام 1948، التي حجبها عن الرأي العام وكان الهدف منها هو التقسيم وإعطاء اليهود ما يطلبون، وقد سجنه أبو الهدى بسبب انتقاده لهذه المعاهدة تسعة أشهر.
في إحدى المرات نفى الملك النابلسي إلى منطقة الشوبك حوالي مئة يوم، نام فيها في خيمة ممزقة، لمحاولته تسريب وثيقة منح امتياز للتنقيب عن المعادن لشركة صهيونية. كان الملك ذا علم ومعرفة بالاكتشافات الحديثة وكان مشتغلا بالعلوم السلفية وكنزا من النكات والنوادر والثقافات المتباينة وكان يستعملها في مناسبات كثيرة من أجل اختيار بعض الأعوان والأصدقاء وكشف بعض المتزعمين. كانت عنده نزعات استعلائية، إذ كان يقارن نفسه بزعماء البلاد وبشبابها فيجد نفسه أعلى منهم ثقافة وأسمى. كان يشعر بعد موت أخيه (الملك علي) بأنه الوحيد المؤهل لاستعادة عرش الحجاز وحتى في صِلاته مع إسرائيل كان يوقن بأن لها القدرة والطاقة السياسية والعسكرية والمالية أن تسند طموحه. وفي هذا السياق، يورد النابلسي معلومة، ولكن لا يتوسع فيها، مفادها أن الملك أسس حزبا سماه (حزب الله).
قيادة الحركة الوطنية
نشر ورفاقه في الحزب رسومات ومقالات في مجلة الميثاق ضد حكومة إبراهيم هاشم عام 1947، فشكاهم رئيس الوزراء للملك عبد الله، فطلبهم للمجيء إلى إربد، فشتمهم وهددهم بحضور رئيس الوزراء. وعندما غادر الأخير قال الملك كلمات طيبة لترطيب خاطرهم، ولكنهم أصدروا عددا ثانيا من الجريدة يتضمن انتقادات أكبر فنالوا من الملك شتائم جديدة.
الحرب العالمية الثانية
لم يكن الجيش الأردني يتجاوز عدده عشية الحرب العالمية الثانية 800 جندي، ورفع البريطانيون عدده في الحرب إلى ثلاثة آلاف جندي. يصف النابلسي رجال السلطة في الأردن بأنهم كانوا مع الغرب، ولكن أغلبية الشعب كانت مع ألمانيا ولذا "حاول الإنكليز أن يخلقوا طبقة في شرقي الأردن تبقى معهم إلى الأبد".
عبد الله الأول والمال
كان الملك عبد الله الأول كما يصفه النابلسي "لا يقيم وزناً للمال ولا يعرف قيمة له"، وشعاره دوماً "عمر ما مديون اتشنق".
أراد الملك عبد الله شراء يخت له عام 1951 ووافق رئيس الوزراء ومعه الوزراء، إلا أن النابلسي بوصفه وزيراً للمالية قال للملك إنه لا يجد من اللائق أن يشتري الملك يختاً والناس لا يجدون القمح والماء، فطوى الملك المشروع. عرض عليه أثناء زيارته إلى تركيا عام 1951 مصحفاً مكتوباً بالذهب بمبلغ مئة ألف دينار، فبكى الملك لأنه لم يستطع أن يدفع هذا المبلغ. في أحد الأعياد جاء إليه مصطفى وهبي التل وبهاء الدين طوقان مفلسين يطلبان المعونة وكان لا يملك مالاً، فأعطاهما السجادة فأخذاها وباعاها. كان يحب الطعام، ولكن أوضاعه المادية والحاشية التي كانت حوله لم تكن تؤمّن له أطايب الطعام، ولذلك إذا كان بينه وبين بعض الناس رفع كلفة وصِلات طيبة يقول: ألا تريد أن تغدينا؟
اغتيال الملك عبد الله
يرى النابلسي، الذي كان يزور الملك عبد الله كل يوم جمعة، أن "الشعب العربي في فلسطين لم تكن نظرته إلى الملك عبد الله نظرة تقدير واعتبار، أو أنه وطني، بل هي نظرة إلى رجل متواطئ مع الإنكليز وإسرائيل يرغب في ضمهم بالقوة".
وبسبب سياسته الواضحة والصريحة بـ"الدعوة للتعايش مع اليهود، تكونت عناصر من الضفتين تريد أن توقف اتجاه الملك عبد الله هذا، وأن ينصرف عن التعاون مع اليهود. أما هو فقد كان يرى أن لا مناص من التعايش معهم". يقول سليمان النابلسي إن اغتيال الملك عبد الله في القدس في 20-7-1951 كان متوقعا، وقد جرت محاولات عدة لاغتياله قبل ذلك، فأعداء الملك كثر: "العائلة السعودية المالكة والعائلة المصرية المالكة والحاج أمين الحسيني وبعض المهاجرين من الأردن إلى مصر وسورية بعد عام 1949 وبعض العناصر المعادية لسياسية الملك عبد الله في الموادعة والمهادنة مع اليهود". عن هذا الموضوع، يروي النابلسي في مذكراته أنّه قبل سفر الملك، حذره السفير الأميركي في عمان آنذاك من أن لديه معلومات عن محاولة لاغتياله، فرد الملك "الأعمار بيد الله".