تتجه المعركة الدائرة في مأرب بين الجيش اليمني وجماعة الحوثيين، إلى مرحلة حاسمة أكثر من أي وقت مضى، وذلك عقب التطورات المتسارعة التي طرأت على الأرض، إثر لجوء الحوثيين إلى منطق القوة وحرف بوصلة الحرب نحو محافظات جنوبية، في تصعيد يضرب عرض الحائط بكل الدعوات الدولية لخفض العنف والإصغاء لصوت السلام، الذي لا يزال خافتاً حتى اللحظة.
بشكل مفاجئ، بدا أن جماعة الحوثي قد عرفت من أين تؤكل الكتف. فبعد أكثر من نصف عام من وقوعها في مستنقع جبهات صرواح ومدغل، والتي لم تحقق فيها أي اختراقات جوهرية على الرغم من النزيف البشري في صفوف مقاتليها، نقل المقاتلون الحوثيون المعركة من الأطراف الغربية إلى الأطراف الجنوبية الشرقية لمدينة مأرب النفطية.
اجتاح المسلحون الحوثيون 3 مديريات من محافظة شبوة في ساعات معدودة
وفي وقت قياسي، كان حلفاء إيران يحققون مكاسب هامة على الأرض، بخسائر بشرية أقل كلفة. واستطاع الحوثيون استثمار الانتصارات المحققة أخيراً في مديريتي الصومعة ومسورة بمحافظة البيضاء، للتوغل شرقاً نحو مدن وبلدات جنوبية في محافظة شبوة، تم دحرهم منها أواخر عام 2017. واجتاح المسلحون الحوثيون 3 مديريات من محافظة شبوة في ساعات معدودة. وكانت المشاهد، التي تم تناقلها، لدورياتهم العسكرية تتجول في مدينة بيحان العليا، وهي واحدة من 3 مديريات تم التوغل فيها، تُظهر عدم اندلاع معركة حقيقية. كما أن وسائل الإعلام الحوثية خلت، غداة السيطرة، من نشر أي أرقام قياسية للخسائر البشرية، كما جرت العادة في معارك صرواح ومدغل.
ومن أراضي شبوة، كانت جماعة الحوثيين تعد العدة للالتفاف على مدينة مأرب وتحقيق الهدف الذي عجزت عنه طيلة الأشهر الماضية، إذ دفعت بالعشرات من العربات القتالية المحملة بعناصر مسلحة من مركز مديرية عين بيحان نحو مدينة حريب جنوبي شرق مأرب، والتي لا تبعد سوى 14 كيلومتراً، قبل التحرك لتطويق مديرية العبدية، آخر التحصينات الدفاعية الجنوبية للجيش اليمني في الشريط الحدودي بين مأرب والبيضاء.
في مديرية العبدية، وهي موقع حصين للجيش اليمني يتوسط مرتفعات جبلية، ويبعد نحو 90 كيلومتراً عن مركز مدينة مأرب، كانت القوات الحكومية والمقاتلون القبليون الموالون لها تحت كماشة حوثية. ومع تزايد الضخ الإعلامي عن تسليمها لجماعة الحوثيين من دون قتال، دفع الجيش الوطني بتعزيزات ضخمة من مدينة مأرب صوب حريب. والمعركة من أجل حريب مفصلية في الحرب المتصاعدة بين الحكومة اليمنية والحوثيين بمحافظة مأرب منذ مطلع العام الحالي، إذ تعد المديرية مفتاحاً رئيسياً للحوثيين لخنق الجيش اليمني في مدينة مأرب من منفذ آخر، وقطع الإمدادات الآتية من شبوة، بعد إحكام الحصار من اتجاه محافظة الجوف ومديرية صرواح غرباً.
ويشكّل بقاء الحوثيين في مديرية حريب، خطراً وجودياً على الجيش اليمني ورجال القبائل. وخلافاً للسقوط التلقائي المحتمل لمديرية العبدية المتاخمة، ستكون مدينة مأرب، مهددة بالحصار الشامل، خصوصاً إذا ما حاولت جماعة الحوثي تعزيز مكاسبها في شبوة، بالتوغل من مديرية عسيلان إلى جرذان، وقطع آخر المنافذ البرية الشمالية الآتية من حضرموت عبر منطقة العبر.
حتى اللحظة، تبدو آمال الجيش اليمني معقدة في تغيير المعادلة العسكرية في الأطراف الجنوبية الشرقية لمأرب وشبوة. ووفقا لمصدر في القوات الحكومية، تحدث لـ"العربي الجديد"، فإن ذلك يعتمد على قدرة محور بيحان في تنظيم صفوفه بشكل فوري، وعدم إتاحة الفرصة لجماعة الحوثيين من أجل تأمين مواقعها وبناء تحصينات دفاعية، أو زرع ألغام أرضية تعيق تقدم الجيش الوطني. وبعيداً عما ستحمله الساعات المقبلة، أثارت التطورات الأخيرة التي شهدتها محافظتا شبوة ومأرب، منذ الأسبوع الماضي، العديد من علامات الاستفهام حول أسباب الانتكاسة الحاصلة، وكيف أن قوات الجيش اليمني والقبائل التي صمدت، أمام أعتى الهجمات الحوثية في صرواح ومدغل على مدار أشهر طويلة، تركت الساحة خالية في الجبهات الجنوبية الشرقية.
سر التحولات الأخيرة
لم تكن الانتكاسة الأخيرة التي تعرضت لها القوات الحكومية، حدثاً مفاجئاً بالنسبة للمتابعين لمسار الحرب في اليمن، بل نتيجة متوقعة لسلسلة من الإخفاقات العسكرية في جبهة نهم شرقي صنعاء، وحتى معركة الزاهر في محافظة البيضاء منتصف يوليو/تموز الماضي، وصولاً إلى النهج التقليدي لقيادة الجيش اليمني الذي اكتفى بالتموضع في خانة الدفاع طيلة الفترة الماضية، ومنح جماعة الحوثيين كافة مفاتيح إدارة المعركة صعوداً وهبوطاً، أو نقلها من جبهة إلى أخرى.
تعد حريب مفتاحاً رئيسياً للحوثيين لخنق الجيش اليمني في مدينة مأرب
ووفقاً لمصدر رفيع في الجيش اليمني، فإن التحديات الحاصلة في ميدان المعركة "لا يتحملها أي قائد عسكري في ظل استعار المعارك على خط نار بطول 300 كيلومتر على أسوار مأرب، وغياب الدعم الحقيقي". وشكا المصدر، في حديث مع "العربي الجديد"، من ظروف صعبة للغاية يعيشها الجندي اليمني، إذ تنقطع الرواتب لعدة أشهر وتتضاءل النفقة التشغيلية ويغيب السلاح النوعي والغطاء السياسي والتكامل العملياتي. وقال المصدر إن "الناس في مأرب يقاتلون فقط من أجل وجودهم وبعقيدة، ومع التقدمات الحوثية الأخيرة كانت هناك مخاوف من انهيارات أوسع... عندما تكون الحركة سائلة يتضاعف هيجان الناس عقب الانكسار، ونصبح أمام وضع مقلق، لكن التحركات الأخيرة نحو حريب تعيد الأمل نوعاً ما".
وخلافاً للتحديات التي سردها المصدر، ساهم عدد من العوامل في التفوق الأخير للحوثيين، ففي مديريات شبوة التي تمت السيطرة عليها، تمتلك جماعة الحوثي حاضنة شعبية نسبية وقبائل موالية لها، مثل آل الشريف والجنيدي والمحضار. وحسب مصدر، لـ"العربي الجديد"، فقد نتج عن التحالفات الداخلية للحوثيين تسهيلات واجتياح سلس لمديريات بيحان، لافتاً إلى أن المليشيات الحوثية استفادت أيضاً من التشويش الذي قام به "المجلس الانتقالي الجنوبي" لإرباك القوات الحكومية وتشتيت جهودها.
ويؤكد خبراء عسكريون، أن جماعة الحوثيين طوّرت من خططها العسكرية بشكل كبير. وبدا أن استراتيجية التوغل في المدن المأهولة، أو ما يعرف بـ"نحش الأحشاء"، أكثر فاعلية من محاولة الاستماتة وراء السيطرة على تلال جبلية ومناطق صحراوية عديمة الأهمية وذات كلفة بشرية أكبر. ويقول مراقبون إنه لا يمكن لأحد إغفال البصمات الإيرانية في معركة مأرب، إذ يتم الاعتماد بدرجة رئيسية على الطائرات المسيّرة المفخخة لضرب تحصينات القوات الحكومية، فضلاً عن انتهاج طرق الالتفاف والحصار لإسقاط المدن من دون الحاجة لشن معارك دامية.
ضغوط لقبول تسوية
ومع استحالة اجتياح مركز محافظة مأرب، على الرغم من الهجمات الدامية منذ أشهر، تسعى جماعة الحوثي لتشديد الخناق على مدينة مأرب من جميع المنافذ، من أجل إجبار الحكومة اليمنية والسلطة المحلية ورجال القبائل على قبول شروطها لوقف المعركة، والتي تم الإفصاح عنها منتصف أغسطس/آب الماضي، بعد تسليمها للوسطاء العمانيين.
نتج عن التحالفات الداخلية للحوثيين تسهيلات واجتياح سلس لمديريات بيحان
وتضمنت المبادرة الحوثية، التي وصفها مراقبون بالتعجيزية، 9 شروط، تضمن لهم السيطرة على منابع النفط والغاز، من دون حاجة إلى مزيد من الخسائر البشرية الهائلة في صفوفهم، لكن الحكومة الشرعية تجاهلتها بشكل تام. ونصت شروط المبادرة، التي طُرحت كخطة بديلة للحسم العسكري، لا يفرضها سوى المنتصر في معركة مأرب، على "تشكيل إدارة مشتركة متكافئة من أبناء مأرب، لقيادة المحافظة وإدارة شؤونها بشكل مشترك ومتكافئ في جميع المجالات، ووقف كل أشكال التدخل الخارجي لأي دولة". كما دعت إلى "تشكيل قوة أمنية مشتركة بقيادة مشتركة من أبناء مأرب لإدارة الشؤون الأمنية، تتبع القيادة المشتركة لأبناء المحافظة وخروج القوات الأجنبية". وتهدف جماعة الحوثيين إلى بسط سيطرتها على ثروات مأرب النفطية والغازية. كما تطالب في مبادرتها المعروضة، والتي تقول إنها ما زالت سارية، بتشغيل محطة كهرباء مأرب الغازية لتغذية المحافظات الخاضعة لنفوذها، وكذلك إيداع إيرادات النفط والغاز في حساب خاص لصرف الرواتب في صنعاء وباقي مناطق نفوذها.
وتتزامن الجولة الجديدة من التصعيد الحوثي، مع بدء المبعوث الأممي الجديد إلى اليمن، هانس غروندبرغ، أول أنشطته في مهمة معقدة، ونفذ جولته الأولى إلى الرياض ومسقط خلال الأيام الماضية، برفقة المبعوث الأميركي تيموثي ليندركينغ، لكن مساعيهما لم تحقق أي تقدم معلن. ومن شأن التصعيد الحوثي أن يفسد التحركات الدولية الرامية لوقف الحرب وإنقاذ أكبر تجمع للنازحين داخل مأرب، خصوصاً إذا ما شعرت الجماعة أنها قد اقتربت من تحقيق نصر عسكري في مأرب وهو ما سيفتح شهيتها لإدامة الحرب، والتوغل جنوباً للسيطرة على محافظات نفطية أخرى، بينها شبوة وحضرموت.