رسائل "داعش"
على خلاف ما أعلنته قيادات سياسية مختلفة في بغداد وأربيل في اليومين الماضيين من أن هجمات "داعش" الجديدة على مدن مختلفة تهدف لتخفيف الضغط على مقاتليه في الموصل أو الانتقام، أكدت مصادر عسكرية عراقية، لـ"العربي الجديد"، أن "تلك الهجمات حملت رسائل كثيرة لجهات عدة"، خصوصاً أنها نُفذت على طريقة الهجمات المسلحة بواسطة عشرات المقاتلين لا بواسطة السيارات المفخخة التي اعتاد التنظيم القيام بها بين فترة وأخرى بما يسميه "الغزوات".
وخلال 72 ساعة فقط، هاجم التنظيم عدة مدن تُعتبر محصنة نسيباً، كان أولها كركوك عبر 70 مقاتلاً من عناصره ونجح في السيطرة على 11 حياً سكنياً وثلاث قرى فضلاً عن مبانٍ حكومية وخدمية مختلفة، قبل أن ترسل بغداد وأربيل تعزيزات كبيرة تمكنت بعد يومين من حسم الموقف عبر حرب شوارع وانتهت بحصيلة كبيرة تمثّلت بمقتل 98 من قوات الأمن المشتركة والمدنيين وجرح نحو 120 آخرين، فيما قُتل 33 مسلحاً من داعش بينما "تبخر الآخرون"، على حد وصف أحد القيادات العسكرية في الجيش العراقي. أعقب ذلك هجوم واسع للتنظيم على قرى وبلدات جنوب وجنوب غرب تكريت، سيطر عليها عدة ساعات قبل أن ينسحب منها، وسط تكتم حكومي عن نتائج الهجوم. تلت ذلك عملية هجوم واسعة على مدينة الرطبة، أقصى غرب العراق، على الحدود مع الأردن، انتهت بسقوط المدينة بالكامل بيد التنظيم وانسحاب الجيش والعشائر منها، ومصادرة مسلحي "داعش" لأسلحة حديثة متوسطة وخفيفة فضلاً عن صواريخ وقذائف مختلفة تسلمها العراق أخيراً من القوات الأميركية ضمن برنامج التحالف لتعزيز أمن المدن المحررة حديثاً. كما خلّف الهجوم 85 قتيلاً وجريحاً، بينهم ضباط وأعضاء في المجلس المحلي لمدينة الرطبة، قبل أن ترسل بغداد أيضاً وحدات خاصة من الجيش دخلت المدينة بصعوبة وقدّمت خسائر بشرية مختلفة انتهت باستعادة المدينة وانسحاب "داعش" منها.
ولفت الضابط، وهو عميد في الجيش العراقي، طلب عدم الكشف عن اسمه، إلى أن "التنظيم أوصل عدة رسائل، أبرزها أن سقوط الموصل من يده لا يعني انتهاء مشروعه أو عملياته في العراق وأنه باقٍ، والرسالة الثانية هي فشل أو ضياع نحو 7 مليارات دولار أنفقتها بغداد خلال عام ونصف العام على تدريب القوات العراقية لمنع تكرار هروب الجيش والشرطة من المدن"، مضيفاً: "أما الرسالة الثالثة فأعلن فيها داعش تحوّله من تنظيم له كيان معروف على أرض معروفة داخل العراق، إلى مجموعة خلايا أو عصابات متفرقة تذوب داخل المجتمع وتضرب متى تريد". واعتبر أنه "في حالة العراق الحالية بانعدام جهاز استخبارات مهني واستشراء الفساد داخل المؤسسة العسكرية والأمنية ووجود ملاذات طبيعية للتنظيم داخل العراق، سواء في الصحراء الغربية أو جبال شمال العراق، فنحن أمام مرحلة صعبة للغاية سيكون فيها النزف بكل مكان".
من جهته، اعتبر الخبير الأمني المختص بشؤون الجماعات الإرهابية، فؤاد علي، أن الهجمات الجديدة للتنظيم بالتزامن مع معركة الموصل هي "بداية صفحة جديدة صعبة ومعقّدة، أبكر التنظيم بإطلاقها قبل نهاية معركة الموصل". وأوضح علي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "التنظيم أطلق صفحة ما بعد تحرير الموصل قبل انتهاء المعركة، وهذا مؤشر على أنه قد ينسحب من الموصل في أي وقت حفاظاً على أرواح عناصره، خصوصاً أن أغلب خسائره في الأيام الماضية كانت بسبب الطيران الدولي وليس المواجهات البرية مع القوات العراقية المهاجمة".
وأضاف علي: "سينسحب داعش ولديه مكان آمن ومُعقّد في العراق يعرفه جيداً، وهو المنطقة الصحراوية الممتدة من القائم، غرب الأنبار، مروراً بالنخيب، جنوب الأنبار، بعمق 100 كيلومتر باتجاه الشرق و140 كيلومتراً باتجاه الشمال نحو نينوى، حيث الحضر والبعاج وجزيرة الموصل، ومنها إلى ربيعة". وأوضح أن "هذه مناطق عانى منها كل من حكم العراق في السنوات الخمسين الماضية، من صدام حسين والأميركيين الذين عجزوا عن السيطرة عليها طيلة سبع سنوات هي عمر احتلالهم الفعلي للعراق"، واصفاً تلك المنطقة بأنها "سيناء عراقية مصغرة تحوي على كهوف ووديان وجبال لا حصر لها، وبعضها تعجز الدبابات والعربات العسكرية عن دخولها". من جهته، وصف العقيد الركن محمد إسماعيل البياتي، أحد ضباط الجيش العراقي السابق، هجمات "داعش" الأخيرة بـ"الخطيرة"، مبيناً أن "سقوط مدن سبق أن حررناها بمئات أو آلاف الشهداء والجرحى خلال ساعات، يعطي انطباعاً سيئاً لقواتنا الموجودة على أسوار الموصل"، متوقعاً أن "ينفذ التنظيم هجمات أخرى وسيحرص على أن يفقدنا نشوة النصر في الموصل". ورجح أن يكون عدد مقاتلي "داعش" في العراق "نحو 18 ألف عنصر غالبيتهم من العراقيين، سينسحبون من المدن ويبقى الأجانب يقاتلون حتى النهاية، وبهذا يعود التنظيم من طابعه العالمي إلى المحلي عبر اقتصاره على مقاتلين عراقيين لكن بشكل أكثر شراسة وخطورة، ما يُدخل البلاد في موجة عنف يومي دموي من دون أن تكون هناك مدن خارجة عن سيطرة الدولة".
قتال لتطويق المدينة
ميدانياً شهدت معارك الموصل في يومها التاسع، أمس الثلاثاء، قتالاً ضارياً لم يختلف عن الأيام السابقة، باستثناء اقتطاع القوات العراقية أجزاء جديدة من الأراضي التي يسيطر عليها "داعش" في محاور الموصل. ووفقاً لمصادر عسكرية عراقية، فإن القتال بات يبعد مسافة 7 كيلومترات فقط عن مدينة الموصل بعد السيطرة على أربع قرى في المحورين الشمالي والشرقي إحداها تبعد 7 كيلومترات عن الموصل من المحور الشرقي، وهي أقرب مسافة تصلها القوات العراقية والبشمركة حتى الآن منذ سقوط الموصل قبل عامين ونصف العام بيد التنظيم.
وبحسب المصادر ذاتها، فإن التنظيم يسعى لإطالة عمر المعركة من خلال إشغال القوات المهاجمة في بلدات تلكيف والحمدانية وبعشيقة وحمام العليل، جنوب وشمال وشرق الموصل، إلا أن ما جرى، أمس، هو تعديل على الخطة العسكرية نجحت في تحقيق خرق في المحور الجنوبي، انتهى بتحرير قرية زاوه القريبة من الموصل، ما يعني أن هناك قوات لـ"داعش" عُزلت بشكل فعلي وصارت خلف القطعات العسكرية العراقية.
من جهته، أكد قائد جهاز مكافحة الإرهاب في العراق، الفريق الركن عبد الغني الأسدي، تحقيق القوات العراقية المشتركة تقدّماً واضحاً مع استئناف معارك تحرير الموصل في يومها التاسع. وأوضح الأسدي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "القوات العراقية المشتركة بمختلف تشكيلاتها تحقق تقدّماً كبيراً". وأضاف: "ساعات نهار الثلاثاء أسفرت عن تحرير أربع قرى شمال وشرق المدينة، هي قرى تبة وطوب زاوة والموفقية وطهراوة ورفع العلم العراقي عليها"، مؤكداً أن "العدو تكبّد خسائر فادحة بالأرواح والمعدات". وأضاف: "نتقدّم حالياً في محاور أخرى والجيش والبشمركة وباقي التشكيلات تقاتل بمعنويات عالية"، معرباً عن تفاؤله بـ"قرب حسم المعركة للعراقيين"، على حد وصفه. يأتي ذلك فيما أعلن الشيخ جواد الطليباوي، المتحدث باسم "عصائب أهل الحق"، المنضوية في صفوف مليشيات "الحشد الشعبي"، أن "قيادة الحشد الشعبي كلفتنا رسمياً تولي مهمة تحرير قضاء تلعفر". وقال الطليباوي لوكالة "فرانس برس"، إن "مهمة الحشد تكمن بمنع هروب الدواعش باتجاه سورية وعزل الموصل بشكل كامل عن سورية". مقابل ذلك، برز تلويح تركي بإمكان شن هجوم بري. وأعلن وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، في حديث مع قناة "24" التركية، أنه "في حال نشوء تهديد ضد تركيا، سنستخدم جميع إمكاناتنا بما فيها إطلاق عملية برية"، وذلك تعليقاً على عملية تحرير الموصل. ولفت إلى مشاركة عدد كبير من القوات المحلية التي دربتها تركيا في معسكر بعشيقة، في عملية الموصل.
سرقة أموال النازحين
في غضون ذلك، ارتفعت أعداد المدنيين الفارين من المعارك إلى نحو 5 آلاف مدني، جميعهم من سكان قرى وأرياف الموصل، تمكّنوا من الفرار مشياً على الأقدام لساعات عدة قبل أن يصلوا إلى مناطق آمنة. وقال مدير مركز إيواء نازحي الموصل في محور خازر، شرق الموصل، محمد عبد الرحمن الأنصاري، لـ"العربي الجديد"، إن النازحين تم إسكانهم في مدارس كون الخيام لم تكن كافية، مؤكداً أن "هناك عوائل لم تتمكن من الوصول واضطرت للمبيت في العراء".
فيما أكد رئيس لجنة الهجرة البرلمانية رعد الدهلكي، وجود عمليات فساد وسرقة بأموال النازحين المخصصة لأهل الموصل. وأوضح الدهلكي في تصريحات صحافية، أن "نازحي الموصل في خطر كبير بسبب عدم وجود خطة واضحة لتقديم الخدمات لهم من قِبل المؤسسات الحكومية المعنية"، مشيراً إلى أن "هناك فساداً مالياً وسرقة في ملف صرف الأموال وتقديم الخدمات للعوائل النازحة".
وأعلن أن "لجنة المهجرين البرلمانية لم ترَ حتى الآن أي بيان حكومي رسمي لاستنفار المؤسسات الحكومية لتقديم الخدمات إلى النازحين الجدد من مدينة الموصل"، مشيراً إلى أن "العشرات من نازحي الموصل يفترشون العراء خلف سواتر القوات الأمنية من دون أدنى مساعدة ". وختم الدهلكي بالتحذير من أن "نازحي الموصل في خطر كبير لعدم توفير المواد الغذائية لهم مع نقص في المخيمات وغياب خطة حكومية واضحة لاستقبال العوائل النازحة وإسكانها بشكل مؤقت لحين تحرير الموصل وعودة الأمن والأمان إليها بعد طرد عصابات داعش منها".
في السياق، أعلن المتحدث باسم المفوضية العليا لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، روبرت كولفيل، أن هناك تقارير أولية تفيد بأن مقاتلي "داعش" قاموا بقتل العشرات حول مدينة الموصل خلال الأسبوع الماضي. وقال كولفيل في إفادة دورية للأمم المتحدة في جنيف، إن تقارير أفادت بأن تنظيم الدولة الإسلامية قتل 50 فرداً من رجال الشرطة السابقين الذين كانوا محتجزين في مبنى خارج الموصل، يوم الأحد، كما اكتشفت قوات الأمن العراقية، يوم الخميس الماضي، جثث 70 مدنياً في منازل في قرية تلول ناصر، جنوبي الموصل. وقال: "الجثث كانت بها إصابات بالرصاص، ولكن لا يُعرف على وجه اليقين في هذه المرحلة من المسؤول عن عمليات القتل تلك".