تتوسع النيابة العامة المصرية أخيراً، في إحالة المعتقلين السياسيين إلى المحاكمة الجنائية، بعد فترات طويلة من الحبس الاحتياطي والتحقيقات والتدوير بين قضايا مختلفة غير مترابطة، في محاولة للإيحاء بأن مصير هؤلاء المعتقلين أصبح في يد القضاء "المستقل"، ولتخفيف الضغوط الخارجية والالتفاف على المطالبات الغربية بالإفراج عن المعتقلين. ومن بين القضايا التي أحيلت أخيراً إلى المحاكمة، ولم تُحدّد جلستها بعد، القضية 440 لسنة 2018، المتهم فيها عدد من قادة جماعة الإخوان المسلمين، على رأسهم إبراهيم منير المقيم في الخارج، ومحمود عزت المعتقل منذ عام. لكن محور القضية في الواقع والموجهة إليه معظم الاتهامات هو رئيس حزب "مصر القوية"، المرشح الرئاسي السابق عبد المنعم أبو الفتوح، الذي قضى في محسبه حتى الآن ثلاث سنوات ونصف السنة، من دون محاكمة، وباتهامات مرسلة، لا تعكس إلا إرادة الانتقام وتصفية الحسابات القديمة.
قضى أبو الفتوح في محسبه حتى الآن 3 سنوات ونصف، من دون محاكمة، وباتهامات لا تعكس إلا إرادة الانتقام
وبدأت أحداث القضية المحالة للمحاكمة عملياً، باعتقال أبو الفتوح لدى عودته من العاصمة البريطانية لندن في فبراير/ شباط 2018، حيث شارك في سلسلة من اللقاءات التلفزيونية التي أزعجت الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ومعاونيه، بعدما أحكموا الخناق على الإعلام المحلي والمجال العام في أعقاب إتمام إجراءات التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، وقبيل انتخابات الرئاسة التي ترشح فيها السيسي وحيداً إلا من منافسة صورية مع المرشح الضعيف موسى مصطفى موسى.
وكان السيسي قد تحدث في حديث للكاتب الصحافي ياسر رزق، في حوارهما الشهير عام 2013 (حين كان السيسي لا يزال وزيراً للدفاع)، والذي سُرّبت بعض أجزائه منذ سبع سنوات، عن أبو الفتوح، قائلاً: "ده إخواني متطرف، ولا يدرك حجم مصر"، مؤيداً حديث رزق عن أن أبو الفتوح "إذا وصل للرئاسة، هيعلّقنا زي الدبيحة"، ما عكس وجود أزمة تجاه رئيس حزب "مصر القوية"، الذي حصل على المركز الرابع في انتخابات الرئاسة عام 2012، وأججتها تصريحاته في أعقاب انقلاب الثالث من يوليو/ تموز 2013 حول ضرورة تسليم السلطة للمدنيين، وأن "السيسي قائد عسكري يجب أن يظل في جيشه"، معرباً عن اعتراضه المطلق لترشح الأخير للرئاسة.
وتعود الخلفية التاريخية المأزومة للعلاقة بين الرجلين، إلى أبعد من ذلك، حين تفاوض المجلس العسكري الحاكم مع قيادات العمل السياسي بعد ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، حيث كان أبو الفتوح القيادي الإسلامي الأكثر تمسكاً بمطالب الثوار، وتسبب في قلق القوى العسكرية والإسلامية التقليدية عندما استطاع اجتذاب شريحة عريضة من اليساريين والليبراليين المعارضين لعقد الصفقات مع العسكر. وعلى الرغم من تأييد أبو الفتوح لتظاهرات 30 يونيو/ حزيران 2013 (المعارضة للرئيس الراحل محمد مرسي)، إلا أن اجتماعاته التالية مع العسكر والرئيس المؤقت المعين عدلي منصور، شهدت تمسكه الكامل بعودة الجيش إلى ثكناته، وعدم دخوله ميدان السياسة، الأمر الذي عجّل بانفصاله عن مسار التنسيق مع القوى السياسية.
والسبب المعلن لاعتقال أبو الفتوح، والذي تضمنته أوراق القضية، هو أنه أذاع في الخارج من خلال لقاء على قناة "الجزيرة" الإخبارية، أخباراً وإشاعات كاذبة عن ممارسة الدولة الإرهاب ضد المواطنين، وتلفيق قضايا للنشطاء السياسيين، وأن إبرام اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية كان يهدف لخدمة مصلحة دولة أخرى. كما أنه أذاع في لقاء مع شبكة "بي بي سي"، شائعات كاذبة عن ارتكاب الدولة جرائم الإخفاء القسري، وأن من شأن ذلك "إضعاف هيبة الدولة واعتبارها وتكدير السلم العام وإلقاء الرعب بين الناس"، كما زعمت الأوراق أنه روّج لأن العمليات الإرهابية هي ثأر لظلم وقع على أهالي مرتكبيها.
اجتذب أبو الفتوح يساريين وليبراليين خلال الثورة، وطالب بابتعاد الجيش عن السياسة
لكن النيابة العامة لم تذكر ضمن الاتهامات أن أبو الفتوح ذكر في لقاءاته أن السيسي ينافس نفسه في انتخابات الرئاسة 2018، وأن هذا التصريح تحديداً هو الذي أثار عليه السلطات، خصوصاً بعدما رصدت الاستخبارات العامة والأمن الوطني اتصالات تنسيقية بين رئيس أركان الجيش الأسبق، الفريق سامي عنان، وحزب "مصر القوية"، لدى إعلان الأول نيته خوض انتخابات الرئاسة ومنافسة السيسي، حيث عصفت السلطات بكل من تواصل معهم عنان في ذلك الوقت من شخصيات وقوى سياسية.
وتعكس أوراق القضية آلية ممنهجة للانتقام من أبو الفتوح. فقد ادعت النيابة العامة أنه ما زال منضماً لجماعة الإخوان، ويتولى منصباً قيادياً فيها، على غير الحقيقة المعروفة للكافة، وأنه استغل هذا المنصب القيادي ليخطط لاستخدام القوة والعنف والتهديد والترويع في الداخل بغية تغيير نظام الحكم، وتعريض المجتمع والمواطنين للخطر. وساوت النيابة في هذا الاتهام بين أبو الفتوح وبين منير وعزت وعدد من المتهمين الموجودين في الخارج، مثل محمد سويدان وهاني الديب وضياء المغازي وحسين يوسف وجمال حشمت ولطفي السيد وحسام الشاذلي.
كما ادعت النيابة أن أبو الفتوح ارتكب جريمة تمويل الإرهاب بأن جمع وتلقى وحاز وأمدّ ونقل ووفر أموالاً وأسلحة لعناصر "الإخوان"، بقصد استخدامها في جريمة إرهابية، ووفر ملاذاً آمناً لهم. كما اتهمته النيابة العامة أيضاً بإعداد وتوفير مكان آمن لـ"عنصرين إرهابيين هاربين"، هما الشقيقان حسام وأيمن حميد، واللذين استغلاه لإعطاء "دورات تدريبية شاملة" لعدد من العناصر الإرهابية لتعليمهم وتدريبهم على استخدام الأسلحة. وعلى الرغم من نفي أبو الفتوح تماماً في التحقيقات صلته بهذا الاتهام المزعوم، وعدم معقوليته أيضاً، لخلو القضية بالكامل من أي فعل إجرامي على الأرض، فإن النيابة مضت في رسم صورة القضية بأنه قد تم ضبط "بندقيتين آليتين" في حوزة المتهمين لارتكاب جرائم إرهابية بواسطتهما، في تدليل عملي على هشاشة الرواية واستحالة حدوث "انقلاب" أو "أعمال إرهابية" بواسطة بندقيتين فقط. كما اتهمت النيابة أبو الفتوح بحيازة منشورات ومطبوعات بقصد التوزيع والدعاية والترويج لجماعة الإخوان، وهي الجماعة التي اصطف قادتها وأعضاؤها ينتقدونه ويكيلون له الاتهامات منذ عام 2013، ووصل الأمر إلى حد الشماتة فيه من بعضهم بعد اعتقاله.
وتوضح أوراق القضية أنها صُمّمت بالكامل للتنكيل بأبو الفتوح وحده، فهو الوحيد الذي وُجهت إليه جميع الاتهامات، بينما أضيفت أسماء قيادات "الإخوان" الهاربين (المحبوس الوحيد منهم هو محمود عزت)، لاصطناع علاقة بين أبو الفتوح والجماعة، علماً أنه كان على خلاف حاد مع عزت منذ عهد المرشد الراحل المأمون الهضيبي عاكف، ولم يكن الرجلان متوافقين على الإطلاق. بل إن عزت كان على رأس المنادين بفصل أبو الفتوح من الجماعة، وكان الأخير من أشد المنتقدين لسياسات عزت ومجموعته في إدارة مكتب الإرشاد قبل سنوات من ثورة يناير.
الاتهامات الموجهة لأبو الفتوح من السهل تكييفها لإدانته ومعاقبته بالسجن المؤبد
واللافت للنظر أن أبو الفتوح ونائبه في رئاسة حزب "مصر القوية" محمد القصاص، سيحالان للمحاكمة في هذه القضية وهما مخلى سبيلهما، لكنهما محبوسان أيضاً. فقد أتم الرجلان عامين حبساً احتياطياً على ذمّة هذه القضية في فبراير/ شباط 2020، ومنذ ذلك الوقت تمّ إدراجهما في قضية جديدة تحمل رقم 1781 لسنة 2019 بتهمة "تولي قيادة في جماعة إرهابية وارتكاب جريمة من جرائم التمويل"، مستندة إلى تحريات الأمن الوطني فقط، وذلك في بداية التوسع في ظاهرة "تدوير المعتقلين".
ويتيح القانون للمحكمة أن تقرر حبس أبو الفتوح والقصاص مرة أخرى على ذمّة القضية 440 لسنة 2018 حتى صدور حكم فيها، بما يعني استمرار حبسهما لأجل غير مسمى، متلاعبة بالقانون. ويأتي ذلك لا سيما أن الاتهامات الموجهة لأبو الفتوح تحديداً من السهل تكييفها لإدانته ومعاقبته بالسجن المؤبد، وإذا تحقق ذلك كما هو متوقع، فإن حياة أبو الفتوح ستكون معرضة لخطر أكيد، من الوارد أن ينتهي بوفاته داخل السجن.
وأصدرت منظمات حقوقية بيانات عدة على مدار العامين الماضيين تستنكر فيها استمرار اعتقال أبو الفتوح على ذمّة اتهامات هزلية وهزيلة، في ظروف مشددة وسيئة، وتركه يعاني الموت كل دقيقة بعيداً عن أفراد أسرته ومن دون إطلاعهم دائماً على تطورات حالته الصحية. فأبو الفتوح، الطبيب والمثقف والقيادي الطلابي البارز منذ سبعينيات القرن الماضي، يبلغ من العمر 69 عاماً، وقالت أسرته في يوليو/ تموز الماضي، إنه عانى من أعراض تشبه نوبة قلبية حادة في الليلة السابقة أثناء حبسه انفرادياً في سجن طرة، وأنه طرق باب زنزانته طوال الليل طالباً المساعدة من حرّاس السجن، دون جدوى. ونقلت "هيومن رايتس ووتش" عن أسرة أبو الفتوح أخيراً، أنه يعاني من أمراض عدة خطيرة ومزمنة منذ ما قبل حبسه، منها ارتفاع ضغط الدم والسكري، وأن السلطات رفضت طلبه إجراء جراحة البروستات التي كانت مقررة قبل اعتقاله بفترة وجيزة، كما أصيب بانزلاق غضروفي في العمود الفقري في السجن.