تُجمع الآراء في تونس، على أن الأزمة العميقة التي تتخبط فيها البلاد منذ أشهر عدّة، ليست دستورية أو قانونية كما تبدو، وإنما سياسية بامتياز، ويذهب آخرون إلى أبعد من ذلك، عندما يرون أن الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تشهدها تونس حالياً، يمكن أن تتراجع سريعاً إذا حصل توافق سياسي بين الخصوم.
ويعيش المشهد التونسي توازناً معطّلاً لكل حركة ممكنة، ويكاد البرلمان ينقسم إلى شطرين متساويين، يمنع أحدهما الآخر من التحرك في أي اتجاه، مع أفضلية طفيفة لصالح الائتلاف الحاكم الهشّ للغاية، الذي يمكن أن يتأثر بأي غياب أو انسحاب لعدد، ولو كان صغيرًا، من نوابه، خلال أي من جلسات التصويت الحاسمة. في المقابل، تقف المعارضة مفكّكة وضعيفة، على الرغم من أن عددها يفوق المائة نائب مجتمعة، وهي تعجز منذ ثلاثة أشهر عن تقديم لائحة سحب الثقة من رئيس البرلمان (ورئيس حركة "النهضة") راشد الغنوشي، على الرغم من ادعائها منذ ذلك الوقت جمع أكثر من مائة توقيع عليها. ولا تحتاج المعارضة إلا إلى 109 نواب لتغيير المشهد برمته عبر سحب الثقة من الغنوشي، ومن الحكومة أيضاً إذا استطاعت.
تبدو المعارضة مفككة وضعيفة، والأطراف الحاكمة غير منسجمة أو موحدة
ويتميز المشهد أيضاً بوجود معارضات داخل المعارضة: اختلافات داخل الكتلة الديمقراطية بين حركة "الشعب" و"التيار الديمقراطي" بسبب الخلاف حول التموقع حول الرئيس قيس سعيّد وملفات أخرى، وخلافات حول المحكمة الدستورية ظهرت في التصويت الأخير، حيث صوت نواب من "التيار" لصالح التعديلات وليس ضدها، وخلافات مع الحزب "الدستوري الحر" بسبب موقفه المضاد للثورة. ويأتي ذلك فضلاً عن خلافات أيديولوجية وفكرية عميقة بين مكونات هذه المعارضة: حزب قومي ناصري مناهض للإسلام السياسي (حركة الشعب) وآخر اجتماعي تقدمي مناصر للثورة ووسطي (التيار الديمقراطي)، وثالث ليبرالي مناهض للثورة (الدستوري الحر).
وتعليقاً على المشهد السياسي العام في تونس، اعتبر الأمين العام لـ"التيار الديمقراطي" غازي الشواشي، أن هذا المشهد "يتميز برمّته بتوازنات ضعيفة، وليس المعارضة وحدها، وبالتالي لا يوجد طرف قوي، لا في السلطة ولا في المعارضة، ما جعل الوضع في البلاد معطلاً، وبالتالي لا يمكن الذهاب في الإصلاحات أو مواجهة الأزمات". وأضاف الشواشي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنه "في الوقت الذي تبدو فيه المعارضة مفككة وضعيفة، فإن الأطراف الحاكمة أيضاً غير منسجمة وغير موحدة، ومواقفها غير متناسقة، ولا يوجد ما يجمعها، وهي بلا رؤيا أو بوصلة"، مبيناً أن "الضعف يشمل كافة المشهد البرلماني من أحزاب حاكمة ومعارضة ومؤسسات دولة".
ورأى الأمين العام لـ"التيار الديمقراطي"، أن الصراع "انتقل من أغلبية حاكمة ومعارضة إلى صراع مؤسساتي بين رأسي السلطة التنفيذية والتشريعية لتصبح الأزمة متعددة الأبعاد". وأوضح أنه "بالنظر إلى المشهد داخل البرلمان، نرى أن الكتلة الديمقراطية مثلاً، وهي الكتلة الأولى في المعارضة بـ38 نائباً، تحاول أن تمارس دورها في المعارضة كمعارضة بنّاءة، وأن تكون قوة اقتراح، بينما توجد معارضة أخرى داخل البرلمان يقودها الحزب الدستوري الحر، وهي محدودة عددياً وضعيفة، ولذلك فهي تحاول أن تمارس التشويش والصراخ ولفت الأنظار من خلال استعمال مكبّرات الصوت، وارتداء الخوذة مثلما فعلت رئيسة الحزب (عبير موسي) أخيراً، وأحياناً تلجأ إلى تعطيل عمل البرلمان، وهذه التصرفات تنم عن تشويش وصبيانية وترذيل للمؤسسة البرلمانية، وليس عن معارضة حقيقية".
وأعاد الشواشي هذا المشهد إلى "التركيبة التي أفرزتها الانتخابات وجعلت الأحزاب السياسية غير قادرة على أن تقوم بدورها، وبالتالي فنجاح المعارضة نسبي في ظلّ مرحلة دقيقة تمر بها البلاد". ولفت إلى أن المشهد ككلّ "في حاجة إلى معالجة حقيقية وإلى حوار وطني، لأنه من دون حوار لا يمكن لأي مؤسسة أن تقوم بدورها، ما سيجعل تعطيل المسار الديمقراطي متواصلاً". كما رأى أن "الأشهر المقبلة ستكون مصيرية في تاريخ تونس، فإما الذهاب في خيار الإنقاذ، أو الدخول في متاهات ستعود بالوبال على الجميع".
من جهته، رأى المحلل السياسي منذر بالضيافي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "المشهد التونسي ككل غريب، فأحياناً لا نعرف المعارضة من عدمها". وبالنسبة إليه، فإن "المشهد الحزبي ككل يتسم بالضعف، إذ لا توجد أحزاب قوية ومهيكلة وذات برامج، وتسيّر الأمور بطريقة ديمقراطية وتعقد مؤتمرات واضحة مثلما نشاهد في الغرب، حيث تكون المعارضة واضحة والحزب الحاكم يحكم". وبرأيه، فإن المشهد الحزبي "مفكك، ولا تملك تونس بعد معارضة قوية، ما يشكل نقطة ضعف للعمل السياسي في البلاد".
انتقل الصراع من أغلبية حاكمة ومعارضة إلى صراع مؤسساتي بين رأسي السلطة التنفيذية والتشريعية
ورأى المحلل السياسي التونسي أنه "لا يمكن الحديث عن ديمقراطية من دون أحزاب، فهي العمود الفقري والأساس، ولكن الأحزاب للأسف تعتمد على الأشخاص، وترتبط بأفراد، مع فقدانها الشروط التاريخية للبناء في القيادة والتسيير والبرامج". وفي هذا الصدد، أشار إلى أن "فترة الاستبداد السياسي والحكم الفردي طيلة 50 عاماً، أفقرت الحياة السياسية وضربت النخب السياسية، ولم تسمح ببناء أحزاب مهيكلة وقوية، باستثناء حزب الدولة الحاكم، وبعد 14 يناير 2011 (تاريخ سقوط نظام زين العابدين بن علي) ومرور 10 أعوام على الثورة، كان يؤمل أن تتكون أحزاب قوية ومهيكلة وتتنافس على الحكم، ولكن للأسف لم يحدث هذا، وحتى تجربة (حزب) نداء تونس، سرعان ما فشلت، فعنصر قوته كان في ذات الوقت عنصر فشله، وهو (الرئيس التونسي) الراحل الباجي قائد السبسي، لأنه بمجرد اختياره لرئاسة الجمهورية تفكك الحزب".
وفي المحصلة، شدّد بالضيافي على أن "الديمقراطية ضعيفة ومختلة بسبب غياب أحزاب قوية لها برامجها، وتتداول على السلطة"، مبيناً أن "المطلوب لخلق التوازن في المشهد السياسي، تكوين أحزاب قوية تكون قادرة على منافسة الأحزاب الحاكمة"، ومؤكداً أن "تفكك المعارضة يعود إلى كونها معارضة إحتجاجية وليس لها تصورات" على حد تعبير الباحث عبد الباقي الهرماسي، فالدستوري الحر مثلا من أحزاب المعارضة، ولكنه "لا يطرح بدائل أو برامج، بل يحتج فقط وهو احتجاج يتحول أحياناً إلى نوع من الفلكلور". وفي هذا الإطار، اعتبر أن "الحزب الدستوري الحرّ، يستمد قوته من عدائه لخصمه السياسي، أي حركة النهضة"، مؤكداً أنه "في غياب ثقافة سياسية واضحة ومواقف موحدة، لا يمكن معرفة من هو في الحكم ومن هو في المعارضة، فالمفروض أن من يفوز في الانتخابات هو الذي يحكم، ولكننا إزاء مشهد غريب وضبابي".