مشروع استعماري مقابل مقاومة فردية... مسار ومآلات

30 ابريل 2023
مقاومة أهالي بلدة بيتا السلمية (جعفر أشتيه/فرانس برس)
+ الخط -

منذ بداية العام الجاري، كشر المشروع الصهيوني الاستعماري في الضفة الغربية المحتلة عن أنيابه بشكل غير مسبوق، مدعوماً بتعزيز مواقع الصهيونية الدينية؛ كناظم وممثل لهذا المشروع، في اثنين من أبرز مراكز صنع وتنفيذ السياسات الإسرائيلية، الحكومة والكنيست. ولا يبدو أن الصهيونية الدينية هنا وحيدة كتيار سياسي، بل ترتكز وبقوة على إسناد النخبة السياسية الحاكمة، والليكود خصوصاً.

 

في واقع الأمر، ما تقوم به الحكومة الإسرائيلية الحالية هو مأسسة لدولة المستوطنين في الضفة، وترسيخ حشر الفلسطينيين في منظومة معازل متكاملة. وهذا ما نفذه كل من المستوطنين وزير المالية، والوزير المكلف بشؤون الإدارة المدنية بتسلئيل سموتريتش، بشقه القانوني والمالي، ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، بشقه الميداني.

 

في الميدان، ركز الفعل الاستعماري الصهيوني على هدفين: الأول عزل الفلسطينيين عبر تحييد وتقييد حياتهم اليومية، وهذا ما قالته اعتداءات جماعاتهم المنظمة على حوارة، التي تمثل الشريان الرابط بين شمال ووسط الضفة الغربية المحتلة، والثاني نزع الحقوق الوطنية والدينية وتطبيع التقاسم، وهذا ما يحدث في القدس يومياً.

 

إن سلوك وبنية الفضاء السياسي الفلسطيني الهش يمثل فرصة أمام هذه المنظومة الاستعمارية للاستمرار في مشروعها وتعزيزه

إن هذه المنظومة، بكل تفاعلاتها وتجلياتها والتي تحولت إلى عقيدة ناظمة للحياة اليومية، لا تجد في المقابل رؤية فلسطينية واضحة تجاه الأهداف والمسارات، في ظل الانقسام والتجاذبات السياسية داخلياً من جهة، واضمحلال الدعمين العربي والدولي من جهة أخرى، ما يجعل المواجهة من قبل الطرف الفلسطيني محصورة بفرديتها.

 

منذ مطلع العام، أودت عمليات الاحتلال بما يقارب 100 شهيد فلسطيني، فيما قتل حوالي 17 إسرائيلياً في الضفة الغربية المحتلة، وهذه أرقام غير مسبوقة منذ انتفاضة الأقصى. وإزاء ماكينة حربية منظمة تقوم ممارستها اليومية على الاستعمار، تستمر عمليات المقاومة الفردية كرد وحيد يقدم عليه الفلسطينيون بمساحات ومواقع محدودة.

 

استندت المقاومة في الضفة الغربية المحتلة خلال السنوات الأخيرة إلى قواعد الاقتناص والاشتباك الفردي، الذي لم تكن أمامه حواضن ومسارات وخطوط تنقل وانسحاب منظمة، لكن خلال الأشهر الأخيرة، بدت تظهر حالة من الارتباط بحواضن تشكلت بفعل المقاومة في جنين ونابلس، ما جعل العديد من منفذي العمليات يتحركون تجاهها ويتحصنون لفترات ليست قليلة، إلى جانب ذلك، بدأت تظهر ملامح ارتباط فصائلي منظم، فبعد أن كانت كتيبة جنين وعرين الأسود عنواني الاشتباك في شمال الضفة، عادت الفصائل التقليدية لتظهر في الميدان.

 

أيضاً، حملت المقاومة خلال الأشهر الأخيرة سمة المقاومة المتدحرجة، المتنقلة من منطقة إلى أخرى، لكنها أخذت شكل الكر والفرّ، عبر إطلاق نار واستهداف المستوطنين في شوارع الضفة التي يسلكونها، خاصة في مناطق الأغوار وخط 60 الذي يخترق وسط الضفة الغربية طولاً.

 

ملحق فلسطين
التحديثات الحية

بالمقابل، عمدت إسرائيل إلى استخدام ماكينتها الاستعمارية بقوة غير مسبوقة تجاه جنين ونابلس تحديداً، وعمدت إلى تكثيف القتل، كما في مجزرة جنين التي خلفت 10 شهداء في يناير/كانون الثاني الفائت، ومجزرة نابلس التي خلفت 11 شهيداً في فبراير/شباط الماضي. كما عمل الاحتلال على ملاحقة المقاومة عبر وسائله التقنية المتقدمة، واستهدافهم في أي مكان، كما حدث في استهداف قوات خاصة إسرائيلية لمقاومين في وسط مدينة جنين واغتيالهم في سوق المدينة المكتظ الشهر الماضي.

 

السؤال الأبرز، هل تسير المقاومة بخط تصاعدي؟ وهل المؤشرات تذهب إلى أن تعود المقاومة منظمة كما كانت خلال انتفاضة الأقصى (2000-2005)؟ وهذا سؤال شائك ومرتبط بأكثر من بعد، لكن من السهل رصد محددات مسار الوضع الميداني في الضفة، ومآلاته.

 

ليست الفصائل اليوم كما كانت قبل حوالي 23 عاماً، حالة من الترهل والتكلس الفصائلي، مع غياب لأية رؤية أو برامج سياسية تجعلها تسير باتجاه إدارة الحياة اليومية والبحث عن ردود أفعال، أصبحت تقليدية ومستهلكة. إلى جانب ذلك، فرض الانقسام نفسه على سلوك الفصائل المركزية، ما قيد القدرة على ربط أية فعل ميداني بمشروع وحراك سياسي.

 

في ظل غياب الحواضن الإقليمية الآمنة، تخشى الفصائل من عدم قدرتها على تحمل ثمن تبني المقاومة الميدانية في الضفة، وتنظيمها، وليس الحديث هنا عن الثمن الميداني فقط، بل أصبحت حسابات الأثمان السياسية أوسع وتشمل؛ إلى حد كبير، حركة حماس الباحثة عن منافذ لحضورها الإقليمي والدولي.

 

بالمقابل، لا يمكن تجاهل التحولات في المشروع الاستيطاني خلال هذه السنوات، إذ ارتفع عدد المستوطنين منذ العام 2000 بنسبة تصل إلى 222%، وهذا ما رافقته بنية تحتية ومنظومة تحكم وسيطرة لوجستية وتقنية، وهنا يأتي تقطيع المحافظات الفلسطينية وفصلها كجزء من هذه المنظومة.

 

أيضاً، ترسخت خلال السنوات الماضية عصابات المستوطنين المنظمة، التي مارست دوراً محورياً مؤخراً في "تدفيع الفلسطينيين ثمن أية عملية"، وفق ما تهدف وتفعل. إذ يمثل انفلات المستوطنين بعد كل عملية للمقاومة، سلوكاً مدروساً يهدف لإرعاب الفلسطينيين عبر استهداف المركبات والمنازل والمنشآت كأداة ردع منهجية، وهي أداة تتضاعف خطورتها مع وجود 100 ألف قطعة سلاح بين المستوطنين.

 

وبالتناغم مع منظومة المستوطنين، تسير إجراءات الاحتلال القمعية لأية فعل مقاومة عبر العقوبات الجماعية المقننة، إذ يحيط بنابلس على سبيل المثال حوالي 9 حواجز تفتيش عسكرية، تخنق المدينة وتقيد اقتصادها، لكنها؛ على عكس انتفاضة الأقصى، تبقي الباب موارباً ولا تخضع المدينة لحصار مشدد، ما يسمح بممارسة الحياة اليومية تحت حالة من عدم اليقين والخوف. وهذا ينطبق على جنين، التي يقوم اقتصادها بنسبة كبيرة على المتسوقين من فلسطينيي الداخل، فرغم تراجع أعداد المتسوقين إلا أن الاحتلال لم يغلق "معبر" الجلمة، الرابط بين الداخل وجنين.

 

إذن، يتراوح الواقع الميداني في الضفة الغربية بين مشروع الصهيونية الدينية، المرتكز على توسيع الاستيطان، وهذا ما عبر عنه رئيس مجلس المستوطنات شلومو نئمال بعيد انتخابه العام الفائت، إذ أعلن أن هدف المجلس الوصول إلى مليون مستوطن في الضفة الغربية خلال 10-15 عاماً، كما كان حزب سموتريتش قد تبناه في العام 2017 تحت اسم خطة الحسم، الهادفة إلى إغراق الضفة بالمستعمرين والمستعمرات. في مقابل، مقاومة ما تزال فردية، تظهر على شكل موجات محكومة بظروف الميدان، ورغم ظهور حالات التبني الفصائلي لعدد من العمليات، إلا أن المؤشرات لا تشي بتحول جذري يقود إلى تبني الفصائل للمقاومة ونقلها إلى التنظيم الكامل. وهذا ما يجعل المقاومة تعمل بسقوف محددة ومحدودة. وقد أوضحت ردود الفعل الفصائلية على اقتحامات المسجد الأقصى في الآونة الأخيرة، على هذا التحول في حسابات وسلوك الفصائل.

 

ما تقوم به الحكومة الإسرائيلية الحالية هو مأسسة لدولة المستوطنين في الضفة، وترسيخ حشر الفلسطينيين في منظومة معازل متكاملة

لا يلوح في الأفق أي مؤشر على تجاوز هذه العقبات، التي تقف أمام مواجهة مشروع الصهيونية الدينية، بل إن سلوك وبنية الفضاء السياسي الفلسطيني الهش يمثل فرصة أمام هذه المنظومة الاستعمارية للاستمرار في مشروعها وتعزيزه. لكن هبة الكرامة (2021) تقول؛ إن فرص الفعل الميداني المنظم؛ والذي يتجاوز التكلس السياسي القائم، ممكنة. وهذا ما أعرب بن غفير نفسه عن قلقه منه مطلع العام الجاري، ووضعه واحداً من دوافع تشكيل مليشيا "الحرس الوطني"، الرامية لقمع أية هبة مماثلة في الداخل، وحتى في الضفة المحتلة.