لا شيء مثل الحرب فهي تقلب كل شيء رأساً على عقب؛ تُحوّل الشقيق عدواً وربما تجعل العدو صديقاً. "العدو روسي" عبارة يرددها أوكرانيون في غرب بلادهم، منذ شنّت روسيا حربها على أوكرانيا، ومع أنني كنت قد سمعتُها على نطاق ضيّق قبل ذلك في كييف، إلا أنها لم تسترعِ انتباهي كثيراً، فقد استخدمها أشخاص وليس مجموعة بشرية كاملة، كما في مدن وقرى الغرب الأوكراني.
ومن متابعتي للإعلام الأوكراني، تأكدتُ أن العبارة قد ترسخت رسمياً وشعبياً في عقول الناس، بل وفي قلوبهم، فلفظ العبارات يتكامل غضباً مع نظرات العيون وقسمات الوجه. وأخيراً سمعتُ العبارة على لسان أعضاء الحكومة الأوكرانية. في البيانات الرسمية تبدو طبيعية، نظراً لأن الحكومة هي أول المستهدفين بالهجوم الروسي، إلا أنّها ليست كذلك حينما تسمعها من المواطنين الأوكرانيين.
تاريخ مشترك يهدده الاجتياح الروسي
يُعد الروس شعباً شقيقاً بالنسبة للأوكرانيين، إذ يجمعهم تاريخ مشترك ولغة شقيقة تنتمي إلى العائلة السلافية الشرقية. وما زال أكثر من ستين في المائة من سكان العاصمة الأوكرانية كييف وأغلب مدن الجنوب والشرق يتحدثون الروسية، والسكّان الروس في أوكرانيا خمسة عشر مليوناً أو أكثر.
لذلك، ليس بالأمر الهيّن وصف الروسي على أنّه عدو من قِبل الأوكراني. ومن جانبٍ آخر، قد يكون من المفيد معرفة ما يحدث في حياة الناس العاديين وتأثيرات الحرب عليهم لفهم مجريات الحرب وأبعادها، وهو ما لا تذكره وسائل الإعلام التي تلاحق مسرح العمليات وتصريحات السياسيين في كلا الجانبين المتحاربين.
يجمع الروس والأوكرانيين تاريخ مشترك ولغة شقيقة تنتمي إلى العائلة السلافية الشرقية
يتميّز الغرب الأوكراني عن شرق أوكرانيا وجنوبها، بأنه أوكراني خالص، بعكس الشرق والجنوب حيث الكثافة السكانية للناطقين بالروسية، وهما مسرح العمليات الرئيس للقوات الروسية. ولطالما سمعنا عن عداء مستحكم بين سكان الغرب الأوكراني، وروسيا واتحادها السوفييتي السابق، فقد كانت تقارير تبثها إذاعة "أوروبا الحرة" زمن الحرب الباردة تذكر أن قوميين أوكرانيين أسقطوا علم الاتحاد السوفييتي من مبنى حكومي ورفعوا العلم الأوكراني بدلاً منه. والحديث هنا عن علم قديم غير علم أوكرانيا السوفييتية، ولا علم السماء والقمح الجديد ذي اللونين الأصفر والأزرق.
لذلك، ووفق هذه الخلفية، يمكننا تصوّر أن الغرب الأوكراني معادٍ لروسيا في السلم والحرب. لكن عندما تختلط بالناس تجد أن كل ذلك وهمٌ خلقه الغرب سابقاً، وتخلقه حديثاً في الأذهان تصريحات المسؤولين السياسيين الروس. فبعض من قابلناهم أمه روسية، أو ابنته متزوجة من روسي، وهناك مواطنون روس يعيشون أيضاً في الغرب ومتزوجون من أوكرانيات.
هذه الصورة النمطية القديمة تتبدد، عندما تلتقي بالمواطنين الذين كنت تسمع حكايات حول كراهيتهم لشعب ما ولغة ما. صادفتُ في إحدى الطرقات، عندما كنتُ أسير مع ابني، بعد أن أضعنا طريق العودة إلى مدينة لفوف (لفيف بالأوكرانية) شخصاً أوكرانياً، ووددنا سؤاله عن الاتجاه الصحيح للتوجّه إلى مركز المدينة. قلت لابني دعنا نسأله بالروسية، فإذا لم يجب نسأله بالإنكليزية. سأله ابني: هل تتكلم الإنكليزية أم الروسية؟ أجاب: كليهما. بماذا تُحبذ أن نخاطبك؟ أجاب: لا فرق.
عندها خاطبته بالروسية وتحدثنا طيلة الطريق بها، وسألته إن كان من الغرب الأوكراني فأجابني: نعم، أنا من لفيف. شاهد ابتسامتي وسألني عن سببها، فأجبته: هناك صورة نمطية أنكم تكرهون اللغة الروسية ولا تتحدثون بها. رد قائلاً: أنا أيضاً سمعتُ ذلك، لكن هذا هراء ولا علاقة له بالواقع، لكن أغلب سكان مناطقنا لا يتكلمونها، لذلك قد لا يعرفونها. هذا كل ما في الأمر.
في الشمال الغربي، حيث مدينتا لوتسك وكوفيل في مقاطعة فلانسكيا على مثلث الحدود الأوكرانية البيلاروسية البولندية، التي لجأنا إليها قادمين من كييف قبل أيام، رحّب بنا سكان المنطقة، وأينما ذهبنا لم نجد سوى الترحاب والتعاطف وكأننا أوكرانيون. وكون لغتنا الأوكرانية ضعيفة، فقد كنا نتحدث الروسية، وكان سكان المنطقة يعصرون ذاكرتهم كي يحادثونا بالروسية مع خليط أوكراني.
عندما استفسرنا منهم حول جماعة "البانديريين" (نسبة للزعيم القومي المناهض للسوفييت خلال الحرب العالمية ستيفان بانديرا)، والقوميين المتعصبين الذين تطلق عليهم موسكو "النازيين الجدد"، تعالت ضحكاتهم، وقالوا: "هذا هراء، فتعداد هؤلاء القوميين المتطرفين لا يتجاوز بضع عشرات أو مئات؛ أي لا يعادل أقل من واحد في المائة من سكان الغرب، ومن العار على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف أن يتحدثا عنّا بهذا الشكل. هؤلاء المتعصبون ليسوا إلا فئة معزولة، ولا تأييد لأفكارهم إلا عند القليل من الناس. لكن اليوم، فإن بوتين عادانا جميعاً، وإذا كان القوميون المتطرفون كانوا أعداءه فقط في السابق، فإن كل الشعب الأوكراني أصبح عدوه اليوم".
من النازية إلى تحولات الثورة
كان العدو بالنسبة للشعبين في الماضي هو النازي الألماني، الذي ظلت تدور حول وحشيته الحكايات والمسلسلات والأفلام السينمائية والبرامج التلفزيونية، وظلت لغته الألمانية تُدرّس في المدارس كلغة ثانية، بصفتها لغة العدو، حتى انهيار الاتحاد السوفييتي السابق.
وفي كل واحدٍ من دروس التاريخ السوفييتي، كان التركيز على ألمانيا التي اعتُبرت بالنسبة للإنسان السلافي "الخطر الداهم". لم يتغيّر هذا التصنيف حتى في عز الحرب الباردة، ولم أسمع يوماً عبارة "العدو الأميركي"، على الرغم من العداوة الظاهرة والجوهرية بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي.
كان الشعبان يحتفلان مع باقي الشعوب السوفييتية الأخرى بالانتصار على العدو النازي، كونه اعتدى على بلادهم وارتكب المجازر بحق الآمنين. لذلك، فإن كلمة عدو في عرف السلاف، كما أصبحت أفهم، تُطلق على من يعتدي عليهم، بغض النظر عن جنسه أو عرقه أو قوميته أو علم دولته. لا أعلم إن كان الروس قد أطلقوا التسمية نفسها على الأوكرانيين، حقيقة لم أسمع ذلك في وسائل إعلامهم.
شكّل إسقاط يانوكوفيتش من الحكم وهروبه نكسة كبيرة للسياسة الروسية في أوكرانيا
مع ذلك، يجب ألا ننسى ثورة الميدان (2014) في أوكرانيا، التي أطاحت بالرئيس الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش الذي ينتمي إلى منطقة دونباس، وهو ذو أصل روسي وكان رئيساً منتخباً. والسبب المباشر للإطاحة به هو رفضه الانضمام للاتحاد الأوروبي، وتوجهه بدلاً من ذلك نحو سياسة موالية لروسيا. لكنه بعد الثورة، هرب بملياراته إلى مدينة روستوف الروسية.
وشكّل إسقاطه من الحكم وهروبه نكسة كبيرة للسياسة الروسية في أوكرانيا، ونذكُر أن ردة فعل موسكو على تلك الهزيمة كان احتلالها لشبه جزيرة القرم وضمها إليها لاحقاً، إضافة إلى دعمها للانفصاليين الموالين لها في دونيتسك ولوغانتسك، الذين هم من أتباع يانوكوفيتش، ورجاله الذين خسروا الحكم في كييف، وأنشأوا بديلاً له، لكنه ما زال ضعيفاً في المنطقتين الغنيتين بالثروات الطبيعية.
من مفاجآت الحرب التي تستحق الانتباه، أن حكومة بوتين، اعتقدت أن مدن الشرق والجنوب سترحب بالقوات الروسية وتلقي الورود عليها، لكن ما حدث أن هذه المدن رفضت الغزو الروسي، ودعت في تظاهرات عارمة في خيرسون ومدن أخرى، القوات الروسية للرحيل والعودة إلى موطنها.
اصطفَّ الأوكرانيون، من كل القوميات بما فيها الروسية، وراء انتمائهم الوطني على حساب انتمائهم القومي، وهذا بحد ذاته يمثل نقطة فاصلة في العلاقة بين الشعبين، وأغلب الظن أن علاقة العداء هذه ستستمر لأجيال مقبلة. دخل بوتين الحرب بحجة الدفاع عن القومية واللغة الروسيتين، لكن الناطقين بالروسية رفضوه كمحتل بعد أن كانوا يحترمونه كمدافع عنهم عن بُعد.
من الصعب بناء الثقة بين الشعوب بسرعة، لكن زرع بذور العداء هو أسهل الأمور. لن يتأتى لروسيا من حربها خير، لكنها ستؤسس لحالة عداء من المستحيل نسيانها، فهناك عشرات القتلى والجرحى والمدن المدمرة ستظل ذكرياتها والتماثيل التذكارية والمناهج الدراسية تُذكّر بها وتنتقل من جيل إلى آخر.