مدريد: من هنا تغوّل الاستيطان

28 نوفمبر 2021
شهدت مدريد مسيرات رافضة لمخرجات المفاوضات (سنحان بوليلي/الأناضول)
+ الخط -


قد يصحّ القول إن سيرورة التنازلات الفلسطينية المؤذية، والرضوخ للشروط المجحفة بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، تمّ التقيد بها وتكبيل منظمة التحرير بالتزاماتها، انطلاقاً من مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط، وفي الخطوات والميكانزم التي تمّ العمل بها تحضيراً له. وبات الذاهبون إلى مدريد، ثم لاحقاً إلى مفاوضات "كوريدور أوسلو" يقبلون، عملياً، بالتفسير الصهيوني لفحوى القرارين الصادرين عن مجلس الأمن 242- 338 الهادف إلى ابتلاع أكبر كمية من الأرض والسيطرة على سكانها أو طردهم.

ومن بين الأخطر مما أحدثه الذهاب إلى مدريد شرعنة الاستيطان في الأراضي المحتلة في عام 1967، فغول الاستيطان الذي يبتلع الأرض الفلسطينية بلا هوادة، بحيث وضع بقوّة الأمر الواقع نهاية لإمكانية تطبيق (حلّ الدولتين)، نال ضوءاً أخضر من وقتها، ففي مؤتمر مدريد وفي الطريق إليه أشاحت القوى الداعية والمشاركة فيه أنظارها عن خطورته، البيّنة نتائجها الكارثيّة اليوم، وارتضت أن تسير في مسارات التسوية، دون المسّ بـ"حق الاستيطان في الوجود"، إن صحّ التعبير. ونجحت تل أبيب من وقتها في فرض قراءاتها الخاصة للقرارات الدولية.

فيما كان "المهرولون" إلى مدريد، كما وصفهم الشاعر الراحل نزار قباني، يتغنّون بالإنجازات الشكليّة والحضور الإعلامي الفلسطيني (ضمن وفد مشترك مع الأردن)، كانت الأراضي الفلسطينية تعيش عام انتفاضة الحجارة الرابع، وقد استعصت على سياسات تكسير العظام التي تبنّاها رابين. كان إخمادها شرطاً أساساً في قبول مشاركة منظمة التحرير (غير المباشرة) في "عملية السلام" بمدريد، منظمة كانت ترزح تحت أحمال الحصار والمقاطعة العربية في أعقاب حرب تحرير الكويت، وقد خسرت أيضاً حليفاً دولياً مهمّاً هو الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية، وعاشت انقساماً وتخبّطاً داخلياً تعمّق في أعقاب عقد المؤتمر وانطلاق مسار التسوية من (أوسلو) حتى يوم الناس هذا.

المشاركة في مدريد أتت لتحقيق أهداف قيادة المنظمة في تونس بالعودة إلى الأراضي المحتلة، ودون أن تحدد أهدافها بدقة (حيدر عبد الشافي، البيان 30 أكتوبر 1999)، بمعنى "عودة" عن طريق إبرام اتفاق تسوية مع دولة الاحتلال، في هذا السياق قدّمت تلك القيادة الانتفاضة والمقاومة قرباناً لتلك الأهداف كما نقرأ اليوم، عن طريق تصريحات مباشرة وتعهدات خطيّة للرئيس الراحل ياسر عرفات كشرط لبدء الحوار بين المنظمة والإدارة الأميركية بين عامي 1988 و1991، أعلن فيها نبذاً صريحاً لكل أشكال العنف الفردي والجماعي و"إرهاب الدولة"، والاعتراف بقراري مجلس الأمن المشار إليهما سلفاً، وضمنياً بالكيان المحتل. أي أن مسار مدريد تطلّب الذهاب إليه أوّل ما تطلّب التفريط بمكامن وأوراق قوّة لازمة، تحت أوهام "الفهلوة" وإمكانية أن تغيّر واشنطن من سياساتها في الدعم اللا محدود لدولة الاحتلال، وهذا ما لم يقع إطلاقاً.

مع أن "مبادرة السلام الفلسطينية" التي أعلنت في الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني تبنت الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي للسلام برعاية الأمم المتحدة، ووقف الاستيطان والانسحاب من الأراضي المحتلة في 1967، إلا أن الطريق إلى مدريد عبّدته واشنطن منفردة، وقفزت فيه قيادة المنظمة على قرارات الإجماع التي صيغت في اجتماع هيئاتها من أجل السير فيه، بداية من أعضاء الوفد، وطبيعته وصلاحياته، مروراً بوقف الانتفاضة كتعبير عن "حسن النوايا"، ووصولاً إلى شرعنة الحوار والتفاوض في ظل استمرار الاستيطان، وقد بات ذلك "الخروج" منهجاً دائماً جرى التعبير عنه بالالتفاف على الوفد في مدريد، الذي كان غارقاً في تفاصيل وتعنت حكومة إسحق شامير، والدعوة التي عبّر عنها أعضاؤه بوقف المفاوضات طالما لم توقف تل أبيب استيطانها لاقت تجاهلاً من قيادة المنظمة، ومن خلال فتح (كوريدور) في أوسلو لمفاوضات أفضت لتوقيع اتفاق مجحف، لم تتنازل فيه دولة الاحتلال عن شيء، فيما انحدرت (القيادة الفلسطينية) في هاوية التنازلات الكارثيّة، وصار "الحكم" الذاتي الذي أصرّت عليه "إسرائيل" منذ توقيع اتفاق "كامب ديفيد" مع مصر واقعاً هشاً تتحكم هي بوجوده وتمويله، وخفّض في فاتورة احتلالها بطريقة لم تخطر على بال الصهاينة الأوائل.
وبذلك يمكن القول بأن الفلسطينيين قد كسبوا في مدريد، ولاحقاً "أوسلو"، "عودة القيادة" وتأسيس سلطة تحت الاحتلال، وأضاعوا ما تبقى من وطنهم في المقابل.