احتفظ آل "بَيهم" في بيروت، بالبزّة العسكرية والبندقيّة التي استخدمتها صاحبتها في قتال الاستعمار الفرنسي بمعركة ميسلون، السورية نازك العابد المناضلة والكاتبة الصحافية التي انتقلت مع زوجها المؤرّخ اللبناني محمد جميل بَيهُم للعيش في بيروت، حيث حيّز الحرية الأكبر بعد أن واجهت مزيداً من القيود في دمشق مع اعتلاء ابن عمها (محمد علي العابد) السلطة بالتعاون مع الاستعمار الفرنسي عام 1932. ولا نستطيع اختصار سيرة نازك العابد التي خاضت معركتها السياسية والنسويّة بشجاعة وبفهم تكاملي لهذا النضال، العابد من اللواتي أدركن هذه الصلّة الوثيقة بين السلطة الذكورية والاستعمار إن مع زوجها الذي عمل معها مثالاً على ردّ قانون البغاء الذي أقرّته سلطة "الانتداب" عام 1933، أو مع عدد من بنات جيلها من مناضلات مثل إميلي ابراهيم فارس، التي واجهت على غرار العابد وغيرها من شخصيات نسائية تعتيماً متعمّداً على تراثهنّ الأدبي والنضالي كشخصيات خضن صلب الصراع السياسي والاجتماعي في تاريخنا الحديث، والملفت أن السيدتين كانتا قد خاضتا الكتابة الصحافية في نهضتها بين مصر و لبنان، أمّا الخطوة الانقلابية على السائد، فتمثّلت في تأسيس نازك العابد عام 1933 لـ" نقابة المرأة العاملة" لاستطلاع قضايا عمل المرأة ومساواتها في الأجور وتحديد ساعات العمل والإجازات. أصيبت هذه التجربة بالإفشال، ثمّ "جامعة نساء لبنان" التي نشأت في أوج النضال من أجل الاستقلال عام 1943 قامت على توجيه المقاومة الوطنية تنظيم التظاهرات إلى السفارات الأجنبيّة ومحاربة الدعاية الفرنسية وتأمين التبرعات والاتصال بحكومة بشامون، فأُفشلت أيضاً بعد أن استغلتها سيدات من البرجوازيّة الطامحة إلى الحكم في لبنان بعد جلاء الفرنسيين مثل آل شمعون وآل سلام.
في الوقت الذي كانت فيه حركات التحرّر بأحزابها ونقاباتها العمّالية واتحاداتها النسائيّة حاملةً مضامين التحرّر الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ظلّ إسهام النساء في مجرى النضال السياسي محدوداً
يحيلنا هذا إلى تاريخ الحركة النسائية الحديثة في لبنان وما أصابها من تشتّت بعد احتواء الطبقة الحاكمة لها، وأحدث أنموذج لنا كان قضم السلطة لانتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 عبر ممارسة العنف الجسدي والمعنوي بحقّ المتظاهرات وصولاً للدعاية الأخلاقية والترهيب الذى أدّى لتفكيك وحدة الساحات وإفراغها من ثقلها النسائي الذي كوّن أول شعارات الانتفاضة "الثورة أنثى"، وبالعودة إلى قرن كامل من تاريخ نضال النساء فإنّ المرأة اللبنانية التي بدأت تنظم المؤتمرات والمهرجانات التحريضية وترفع العرائض، قد طالبت في فبراير/شباط 1951 بتعديل المادة 21 من قانون الانتخاب الذي كان يحرمها من الترشح والانتخاب، في مارس/آذار من العام نفسه تمّ الاعتراف بحقوقها في الانتخابات البلدية فقط، رفضت الهيئات النسائية هذا القرار حتى اقتحمت حرم المجلس النيابي بعد أن لاقتها تظاهرة نسائية في البقاع وأخرى انطلقت من سينما روكسي في بيروت، وانتزعت المرأة اللبنانية حقوقها السياسية كاملة في 18 فبراير/شباط 1953، في هذا العام كانت الكاتبة الصحافية والباحثة وعضو اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي اللبناني إميلي فارس إبراهيم أول امرأة تترشّح للبرلمان اللبناني وهي بحسبها "لم أترشح لأفوز"، وإنما محاولة منها لكسر المحرّمات ومواجهة للتآمر الطبقي والاستعماري على الحركة النسائية العربية، وهنا قالت ابراهيم "لم يعد بالإمكان إثارة قضية الشرع والتذرع به كحاجز يحول دون وصول المرأة الى اكتساب حقوقها كاملة، بات من الأسهل على المرأة العربية أن تحارب الذهنية الرجعية وأن تتصدّى لها بقوة"، والمعروف أن إبراهيم كانت عام 1951 قادت مع عدد من رفاقها تمرّداً ضدّ قيادة الحزب الشيوعي اللبناني- السوري في دمشق على أثر التبعيّة للاتحاد السوفياتي والموقف من تقسيم فلسطين.
في الوقت الذي كانت فيه حركات التحرّر بأحزابها ونقاباتها العمّالية واتحاداتها النسائيّة حاملةً مضامين التحرّر الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ظلّ إسهام النساء في مجرى النضال السياسي محدوداً، أما الأندية والجمعيات النسائية التي شكّلت الأسلوب التنظيمي لنضال المرأة عموماً، فقامت على الإصلاحات والتبرعات الخيرية وبيع صناعات وطنية وأخرى تبشيريّة مرتبطة ببعثات أجنبية، ما جعلها غالباً تتداخل مع الجمعيات الطائفية وتدخل في صلب نواة الدولة للتنظيم الاجتماعي الطبقي، وقد نجحت أحزاب اليمين اللبناني في توحيد هذه الجمعيات وربطها عضويّاً بالدولة من خلال الزعامات التقليدية عام 1959، بهذا الشأن تتحدّث الباحثة إلهام كلّاب عن تولّي نساء من الطبقة الحاكمة اقتصادياً وسياسياً لهذه الجمعيات والأندية التي تهدف لاحتواء نقمة الطبقات الاجتماعية المكبوتة والحفاظ على مؤسّسات الاستغلال القائمة".
لقد جرى إلحاق الاتحادات النسائية بالنّظم العربية وتحوّلت مؤتمراتها وتوصياتها إلى مثيل للجامعة العربية بهدف إبقاء المرأة العربية محصورة في وظيفتها الجنسية العائلية كقوّة استهلاكية لا يُسمح لها بأن تتحرّك إلا في حيّز سياسي محدود وتابع للرجل، ومن المؤلم أن الاتحادات النسائية في الأحزاب اليسارية سلكت هذا السلوك المُحبط، إذ ربطت تلك الاتحادات واللجان كملحق على هامش القيادات الحزبية وبذلك استبعدت المرأة عن القرار السياسي وحصرت دورها بالـ"خيري" والاستطلاعي، بهذا الشّأن ركّزت دراسات الأونيسكو مطلع السبعينيات على الترابط التاريخي بين تعبئة المرأة سياسياً وبين حركات التحرّر الوطنية والقوميّة لتشير إلى وضع الجمعيات النسائية المفكّكة والبعيدة عن قاعدتها الشعبية، والذي "من شأنه أن يُبقي قضية المرأة مُدرجة في برنامج العمل السياسي من دون حلّ"، كما يتساءل الباحث خليل أحمد خليل "إذا كان للأحزاب اليمينية مصلحة واضحة في إبقاء المرأة خارج عمليات التغيير..إنّه من واجب الحركات الوطنية العربية أن تدمّر العقبات البنيويّة الاقتصادية والحقوقية والاجتماعية والثقافية التي لا تزال تعترض سبيل المرأة التي من واجبها المساهمة الفعالة في عمليّة التغيير الكبرى".
بقيت قضية المرأة مُدرجة في برنامج العمل السياسي التحرري من دون حلّ
وإذا كان خليل كعدد من البحاثة والثوريين قدّ سجّل قراءته هذه منتقداً قوى التحرّر عام 1972 فذلك يشير إلى أنّ الاهتمام بقضية المرأة لم يكن "اهتماماً أوّلياً" بالنسبة لهذه القوى، الأمر الذي أسهم في انكفاء هذه الحركات ثم مهادنتها لقوى الإسلام السياسي بعد اتفاق أوسلو، من هنا نرى تجربة نضال النساء على شكل أفراد تناضل على جبهتين، المجتمع الذكوري الطبقي العنصري والاحتلال في آن معاً، لقد حملت الثورة الفلسطينيّة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي مفاهيم النضال والتحرّر فعرفنا ناديا السلطي كمؤسّسة لحركة القوميين العرب اعتقلت في دمشق، وكذلك المناضلات ليلى خالد وجاكلين إسبر وشادية أبو غزالة وتيريز هلسه ورسمية عودة وسهيلة أندراوس وغيرهنّ من مقاتلات كنّ صانعات لصلب المعركة ولسن مجرد مساندات لها.
ولعلّ قداسة مفهوم الجهاد في الإسلام سهّل حضور المرأة الثوري في البقاع العربية كافة نصرة لفلسطين ضمن ممكنات تمثّلت في أندية وحملات الدعم والمقاطعة، كذلك حمل المرأة للسلاح ( نموذج حلوة زيدان)، وبحسب دراسات الأونيسكو عام 1972، فإنّ الاسلام لا يميّز بين الرجل والمرأة فيما يختصّ بالموجبات التعاقديّة، كما أنه لا يعارض اشتراك المرأة في الشؤون العامة "وهذا ما يفسّر لماذا أخذ التطوّر طريقه إلى الحقوق السياسية في البلاد العربية بشكل أسرع مما فعل بالنسبة للحقوق الشخصيّة والعائلية"، ويشير ذلك الاستنتاج إلى المعوّق الطبقي للدولة والذي يقف عائقاً حقيقياً أمام التغيير الاجتماعي والسياسي للبلاد، فرغم ما حملته المرحلة الثورية من تطلعات نحو مجتمعات ديمقراطية حرّة، إلا أن مشاركة المرأة الفلسطينية في الثورة لم تتجاوز العشرين في المائة في لبنان حسب جريدة فتح عدد 24 مايو/أيّار 1972 وحيث لا وجود لإحصاءات شاملة، فإنّ مشاركة المرأة العربية في المعترك العام هي في حالة انحسار مستمرّ.
الأندية والجمعيات النسائية قامت على الإصلاحات والتبرعات الخيرية وبيع صناعات وطنية وأخرى تبشيريّة مرتبطة ببعثات أجنبية ما جعلها غالباً تتداخل مع الجمعيات الطائفية وتدخل في صلب نواة الدولة للتنظيم الاجتماعي الطبقي
ينطبق هذا الانحسارعلى لبنان الذي كان حينذاك ملاذاً للحريّات في الوطن العربي ولمثقفين وكتّاب عرب، كما الكاتبات الباحثات عن أفق حرية لهنّ مثل غادة السمان ولميعة عباس عمارة، ولعلّ عددا من الروايات التي نشرت في بيروت منذ مطلع السبعينيات حتى نهايتها لامتثال جويدي وسلوى البنا وغيرهنّ استطاعت أن توثّق نقدهنّ للتجربة النضالية من منظور نسوي، أزعجت امتثال جويدي القيادة الفلسطينية حين عرّت في روايتها "شجرة الصبير" تحوّل الثورة في لبنان إلى سلطة فساد متحكّمة بالفقراء ومنتهكة للمرأة، في بيروت بدأت النساء باكراً تتلقف كتابات سيمون دوبوفوار ونوال السعداوي التي صنعت انقلاباً حقيقياً في حياة النساء والطالبات اللواتي كنّ يُضربن تضامناً مع الانتفاضة الفلسطينية الأولى 1987، لكن حصل شقاق حقيقي بين جماهير البلاد منذ بدأت مفاوضات مدريد ثمّ اتفاق أوسلو وعاد النضال النسائي إلى عزلته، عادت الكاتبات تخصّ قضية النساء في رواياتهنّ بعد انهيار مشروع التحرّر، فكتبت سحر خليفة مثلاً "لم نعد جواري لكم" و"الميراث"، وكان النظام السوري قد كلّف المليشيات التابعة له في لبنان ضرب القوى ذات المشروع الوطني ومحاصرة المخيمات، في 18ديسمبر/ كانون الأول من العام 1986 اغتيلت نبيلة سلباق برير من قبل هذه المليشيات المسلحة في الشارع العام أثناء توجّهها إلى مركز عملها في اليونيسيف ببيروت، كانت نبيلة الكاتبة والباحثة مثلت فلسطين في محافل دولية تقوم بنقل رسائل إلى المخيمات المحاصرة، وأثار اغتيالها في وضح النهار خوف عدد من النساء المناضلات، حتى أن الأديبة مي علوش كانت كتبت في مذكراتها غير المنشورة عن الحرب الأهلية اللبنانية "أخشى أن أكون نبيلة برير الثانية"، جعل الأديب الياس خوري نبيلة برير واحدة من بطلات روايته "مملكة الغرباء" التي توثّق المرحلة أدبيّاً، تلك المرحلة التي مهّدت للوصاية السورية امتدّت كمرحلة قمع للحريات الفرديّة والعامّة، ولعلّ بعض النضالات المدنية الحقيقية وغير المرتبطة بمشاريع مؤسساتية غربية شكّلت وتشكل حالات فرديّة محفوفة بالمخاطر والصعاب، فنضال وداد حلواني لحق المعرفة في مصير مفقودي الحرب الأهلية حلم، لن تحققه السلطة إلا بكونه قانون "حبر على ورق"، إذ إن مصير مفقودي هذه الحرب سينكأ في حقيقته الطبيعة الطبقيّة والعنصرية لتكوين السلطة التي شكّلت أساساً للحرب الأهلية اللبنانية.