محددات الوعي الأوروبي تجاه داعمي القضية الفلسطينية

26 سبتمبر 2021
تظاهرة في بروكسيل مؤيدة للأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال (دورسن أدمير/الأناضول)
+ الخط -

 

تربط القضية الفلسطينية وأوروبا ذاكرة طويلة، بدءاً من الوعود التي قدمتها إلى الشريف حسين، ونكثت بها عام ١٩١٥، واتفاقية سايكس بيكو عام ١٩١٦، وإعلان بلفور عام ١٩١٧، وفرض الانتداب البريطاني على فلسطين من ١٩٢٢ إلى ١٩٤٨، كذلك خطة تقسيم فلسطين عام ١٩٤٧، ثم اعتراف الدول الأوروبية بدولة إسرائيل، وبذلك تُعَدّ القضية الفلسطينية في صلب الاهتمام الأوروبي منذ تلك البدايات.

بعد النكبة الفلسطينية انشغلت الدول الأوروبية بضمان وجود دولة الاحتلال وتقديم الدعم لها وضمان استمرارها في البيئة العربية، ونظرت إلى تهجير وتشريد ثلثي الشعب الفلسطيني على أنه أضرار جانبية، في سبيل قيم دولة إسرائيل، ثم تحولت قضية فلسطين في الوعي الأوروبي من قضية حق إلى قضية لاجئين يجري تناولها من زوايا إنسانية.

يعاني الوعي الأوروبي تجاه القضية الفلسطينية من عدة مشكلات، يأتي على رأسها دوافع التعاطف الأوروبي مع دولة الاحتلال انطلاقاً من عقدة الذنب تجاه الهولوكوست بحق اليهود في أوروبا، وهذا أثر كثيراً بصياغة سياسات الدول الأوروبية تجاه كيان الاحتلال حول الشعور بضرورة التعويض المعنوي لليهود بدعم قيام دولة لهم، في المقابل كان يُنظَر إلى دول العالم العربي التي خاضت معاركها التحررية من الاستعمار الأوروبي على أنها أعداء لأوروبا، وبذلك تمثل إسرائيل بالنسبة إليهم مُسكناً لعقدة الذنب وحارساً لمصالح أوروبا، وطرأت الكثير من التحولات التدريجية على الموقف الأوروبي تجاه فلسطين والقضية الفلسطينية، تحكمت في معظمها بدرجة السماح للناشطين الفلسطينيين والأوروبيين المناصرين للقضية الفلسطينية من التأثير في المجال العام وفي دوائر صنع القرار.

في أعقاب إعلان برلين عام ١٩٩٩ الذي تضمّن قيام دولة فلسطينية تعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل والبيان الأوروبي عام ٢٠٠٩، حيث أدان الاتحاد الاوروبي الاحتلال الإسرائيلي، وندد بسياسة الاستيطان، ودعا إلى أهمية حل الدولتين والإصرار على قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، شهد هذا التحول الكبير في الموقف الأوروبي استنكاراً واسعاً في أوساط دولة الاحتلال كذلك في أوساط اليهود من أصول أوروبية، لكن هذا لا ينفي أن أوروبا مقيدة أكثر لمشاعر الذنب تجاه المحرقة اليهودية، في الوقت نفسه تعيش تحت ضغط القيم الأوروبية التي تساند الحقوق والحريات، وهذه السياسة المتناقضة أدت إلى تراجع الدور الأوروبي حيال الفلسطينيين، واقتصاره على تقديم المساعدة المالية للسلطة، بزعم أنها تؤسس بذلك لتقوية مؤسسات الدولة الفلسطينية المرتقبة القابلة للحياة جنباً إلى جنب مع إسرائيل.

تأثر هامش حرية حركة التضامن الأوروبية والنشطاء الفلسطينيين في أوروبا بتقلبات الاتحاد الأوروبي تجاه القضية الفلسطينية ونزاعات القوة في أوروبا، والاستقطابات داخل القارة الأوروبية، كذلك بالدعاية الصهيونية التي روجها الإعلام الصهيوني في أوروبا، وتأثر بعودة العامل الديني واستعماله، كذلك خضع في أحيان للإسلاموفوبيا، وطرح القضية الفلسطينية على أنها صراع بين حركة إسلامية متشددة (حماس، والجهاد الإسلامي) وإسرائيل ذات القيم الليبرالية الديمقراطية الشبيهة بقيم الدول الأوروبية.

أيضاً أسهمت الحرب على الإرهاب بالتضييق على نشاط الفلسطينيين، فكانت الحرب على الإرهاب ورقة رابحة في يد الأوساط الإسرائيلية التي وصفت ياسر عرفات مرة ببن لادن، في الوقت الذي حرص فيه الاتحاد الاوروبي على عدم استعداء الولايات المتحدة، في ما يتعلق بإدارة وتصنيف الفصائل الفلسطينية في هذا الجانب ونشطائها في أوروبا، فيما رأى الأوروبيون أن تسوية الصراع العربي الإسرائيلي ستسهم في محاربة الراديكالية الإسلامية.

لا يمكن قراءة تقييد حركة التضامن والنشطاء الفلسطينيين في أوروبا خارج دراسة من يسيطرون على مراكز صنع القرار، كذلك عملية صعود اليمين الأوروبي المتطرف الذي يعيش عقدة الإسلاموفوبيا ورعب الحركات الراديكالية الإسلامية. فرغم التشديد على النشاطات الداعمة للقضية الفلسطينية، وتبني قوانين معاداة السامية التي أصبح من السهل توجيهها لأي نشاط معادٍ لدولة الاحتلال، بسبب تعمّد القانون عدم الفصل بين الديانة اليهودية ودولة إسرائيل الاستعمارية، ساهم هذا الأمر في اختفاء رغبة الاتحاد الأوروبي في فرض عقوبات على إسرائيل، وتبني دول أوروبا ما أسمته عملية الارتباط البنّاء والوقوف على مسافة متساوية من الجميع، في مناسبات عدة.

شهدت السنوات ما بين ٢٠١٠ و ٢٠١٣ انتعاشاً لحركة التضامن الأوروبية ونشطائها الفلسطينيين والأوروبيين، خاصة في ١٩ يوليو/تموز ٢٠١٣، حيث نُشر قرار من أهم قرارات الاتحاد الأوروبي بحظر تمويل المنشآت التي تُدار في المستوطنات الإسرائيلية أو الاستثمار فيها، وعكس هذا القرار إحباط الاتحاد الأوروبي من الممارسات الإسرائيلية التي تقوم على تدمير المنشآت الفلسطينية، فقد دمرت إسرائيل ٨٢ مشروعاً ممولاً من الاتحاد الأوروبي بتكلفة ٣٠ مليون يورو في ٢٠٠١ و٢٠١١، وما زالت سياسة تدمير المنشآت الفلسطينية بتمويل أوروبي مستمرة، كما رأينا في الحرب الأخيرة على غزة في مايو/أيار ٢٠٢١.

يُعَدّ عام ٢٠١٣ عام تحوُّل كبير في السياسات الأوروبية تجاه حركة التضامن الأوروبية والنشطاء الفلسطينيين والأوروبيين في أوروبا، حيث ساهم ضغطهم ونشاطهم في إصدار قانون استبعاد صادرات المستوطنات من اتفاق المعاملة الجمركية التفضيلية التي كانت تحظى بها المنتجات الإسرائيلية، وساهم أيضاً ضغط الناشطين برفض الاتحاد الأوروبي تمويل الأنشطة
البحثية في المنشآت والجامعات الإسرائيلية المقامة على الأراضي المحتلة ومنها القدس الشرقية، حيث أقبل البرلمان الأوروبي على هذه الخطوة بعد الضغط الشعبي والبرلماني والوعي الذي نشرته حركة التضامن الأوروبية الفلسطينية حول النشاط الاستيطاني الإسرائيلي، وضغط النشطاء الفلسطينيين ونشطاء حركة المقاطعة لإثبات تعارض التفضيل الجمركي لمنتجات المستوطنات مع القيم الأوروبية والتشريع الأوروبي.

لا يمكن إجمال ملامح مشتركة لسياسات الدول الأوروبية تجاه النشطاء الفلسطينيين وحركة التضامن الأوروبية الفلسطينية، فقد شهد التصويت على قرارات تخصّ القضية الفلسطينية انقساماً حاداً في مناسبات كثيرة بين الدول الأوروبية، ويتأثر هامش الحرية الممنوح لنشطاء حركة المقاطعة والنشطاء الأوروبيين بتفاوت عقدة الذنب تجاه المحرقة اليهودية بين الدول الأوروبية، كذلك بمدى سيطرة اليمين المتطرف الشعبوي على مفاصل صنع القرارات في تلك الدول، على الرغم من قدرة دول الاتحاد الأوروبي على صياغة ملامح مشتركة إلى حد ما في إدارة علاقتها الخارجية مع الفلسطينيين والإسرائيليين، وعملية السلام، ومنح الدعم للفلسطينيين في تقوية مؤسساتهم الأمنية، وخاصة في الضفة الغربية.

تستطيع حركة التضامن الأوروبية، والنشطاء الفلسطينيون، وكذلك حركة المقاطعة (بي دي إس)، البناء على الإنجاز الذي تحقق في عام ٢٠١٣ وما تبعه في هذا الجانب، إذا توحدت جهودهم لإثبات مقدار التعارض بين قيم الدولة الأوروبية الحديثة التي تقوم على التعدد والديمقراطية واحترام الحريات، في سبيل إثبات تناقض تلك المبادئ والقيم مع دعم قيام دولة الاحتلال ككيان استعماري قام على سرقة الأرض وسلب الحقوق، حيث يعاني الوعي الأوروبي حيال القضية الفلسطينية من عدة أزمات، تأتي في مقدمتها الأزمة الأخلاقية في إدارة تلك العلاقة، وتسبق أزمة الاتحاد الأوروبي وبريطانيا الأخلاقية أزمة الوعي المعرفي بتفاصيل تلك القضية، بالذات أن الدولة الأوروبية التي تعيش عقدة الذنب تجاه المحرقة اليهودية، لم تنصقل لديها عقدة ذنب تجاه تهجير ثلثي الشعب الفلسطيني ومجازر إسرائيل تجاه الفلسطينيين، كذلك تجاه وعد بلفور البريطاني الذي منح حقاً ممن لا يملك لمن لا يستحق.

لا شك في أن النشطاء الفلسطينيين، مثلهم مثل نظرائهم الأوروبيين في أوروبا، يعيشون مفاعيل صناعة السياسات الأوروبية وتحولاتها تجاه القضية الفلسطينية، إلا أنه في عصر سيولة المعلومة وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أُخرِجَت مهامهم من حيّز التضييقات في العمل والنشر واستخدام قانون معاداة السامية ضدهم إلى فضاء سيولة المعلومة وقابلية المجتمعات الأوروبية للوصول إليها في الفضاء العام، لذلك سيظل يعتمد نجاح مجهوداتهم على قدرتهم على توحيد تلك المجهودات، وتوسيع دوائر الضغط على صناع القرار من أجل محاربة القوانين التي تقيّد عملهم في نطاق القارة الأوروبية، وهذه أيضاً من مهام الديبلوماسية الفلسطينية التي من المطلوب منها مساندة ودعم النشطاء والفاعلين الدوليين على نطاق القضية الفلسطينية.

المساهمون