محاولة إسرائيلية لرسم ملامح الهبّة القادمة.. قلق أمني وتخبط في الخيارات وخطط غير محسومة
في الوقت الذي تتزايد فيه العمليات الفلسطينية ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس المحتلة، تحاول المؤسسة الأمنية الإسرائيلية جاهدة قولبة المواجهات والاشتباكات وتحديد ملامح وهوية هذه الهبة، منابعها وتحركاتها.
اتهمت الأجهزة الأمنية والاستخباراتية للاحتلال، مع انطلاق شرارة الاشتباكات الأولى، حركتي حماس والجهاد الإسلامي في جنين بأنهما تقفان وراء تنفيذ العمليات المسلحة ضد قوات جيش الاحتلال، كما وتتهمهما بأنهما السبب وراء تأجيج الأوضاع في الشارع الفلسطيني.
ومع امتداد التصعيد الأمني والمواجهات إلى نابلس والقدس المحتلة، دخلت إسرائيل في حالة من الحيرة يعتريها التخبط وتعدد التحليلات والقراءات للهبة الشعبية المتصاعدة في مناطق الضفة الغربية والقدس المحتلة.
ويقول المحلل العسكري للموقع الإلكتروني لصحيفة "يديعوت احرونوت" الإسرائيلية، رون بن يشاي، إن إطلاق عملية عسكرية شبيهة بـ"السور الواقي 2" لن تفلح بوقف موجة العمليات الفلسطينية، وإن الوضع يتطلب حلولاً جديدة.
ويعتقد بن يشاي أن عملية إطلاق النار عند معبر شعفاط شمال شرقي القدس التي أدت لمقتل الجندية، كانت متوقعة، وذلك نظراً لاستمرار موجة العمليات الحالية بدرجات متفاوتة الشدة منذ سبعة أشهر، وفشل الجيش الإسرائيلي في كبحها، قائلاً: "صحيح أن عدد الضحايا انخفض مع جهود قوات الجيش، لكن الموجة الحالية فريدة من نوعها بالنسبة للبعض، فهي تتسم بخصائص جديدة، وبالتالي فإن التعامل معها يتطلب طريقة مختلفة عما نعرفه".
ويرى بن يشاي أن العملية في شعفاط تتسق تماماً مع ما وصفه بـ"تصعيد التيك توك" أو "انتفاضة تيك توك" المتصاعدة في الأسابيع القليلة الماضية، ويوضح ذلك قائلاً، إن "الهجمات نفذت في الغالب من قبل أشخاص دون سن الثلاثين، وهي موجهة بشكل أساسي ضد قوات الأمن عند نقاط الاحتكاك، إنها مواجهة مكثفة بين شبان فلسطينيين والجيش، لقد عرفنا بالفعل جذور تصعيد تيك توك في الضفة، وخاصة في القدس، قبل عملية حارس الأسوار عام 2021، عندما اعتاد الشباب الفلسطيني على توثيق الإساءة لليهود وتحميلها على الإنترنت، منذ ذلك الحين، اتخذت هذه الظاهرة خطوة كبيرة وعنيفة إلى الأمام".
ويضيف بن يشاي أنّ "انتفاضة التيك توك"، هي جزء من ظاهرة عالمية، "المنفذون هم مشاهير الشبكة الذين يعتبرون مصدر إلهام للشباب الآخرين ويشجعونهم على تقليدهم والنزول إلى الشوارع والطرق، وهذا يحدث اليوم أيضاً في إيران خلال المواجهات مع النظام، وحدث سابقاً في أوروبا مع الاحتجاجات ضد قيود كورونا، وهكذا هو الحال في أجزاء أخرى من العالم، تدفع الشبكات الاجتماعية، وتيك توك على وجه الخصوص، الشباب إلى الشوارع، أو في حالتنا إلى هجمات ضد الجيش، أحياناً دون أساس أيديولوجي أو خلفية تنظيمية".
ويعزو بن يشاي تنامي هذه الظاهرة، إلى جانب أمور أخرى، لفقدان سلطة الأهل والثقة بالقيادة وبالسلطة الفلسطينية أو المنظمات الفلسطينية (فتح وحماس والجهاد الإسلامي). ويقول إن "ازدياد عمليات إطلاق النار يعود للانتشار الكبير للأسلحة النارية، بأيدي الشباب في المناطق، مجموعة (عرين الأسود) في نابلس هي مثال على ذلك، قادة الشبكات والمجرمون الصغار الذين حصلوا على الأسلحة وأصبحوا مصدر إلهام وتقليد لشباب آخرين، عندما يتم استجوابهم من قبل الشاباك، غالباً ما يعترفون علناً بأنهم لم يتصرفوا بدافع أيديولوجي أو سياسي أو ديني، ولكن من منطلق الرغبة في الانتماء إلى دائرة المشاهير في الشبكة".
وبحسب بن يشاي، تزعم مصادر أمنية إسرائيلية أن مجموعة "عرين الأسود" تثير غضب السكان، وأن مساعي الوجهاء في نابلس لكبح جماح المجموعة كي لا تمس بروتين الحياة والاقتصاد لم تنجح، وأن الأجهزة الأمنية الفلسطينية لا حول لها ولا قوة، ويستعرض بن يشاي في تحليله سمة أخرى للهبة الحالية وهي الانتشار الواسع للأحداث في الضفة الغربية، من الخليل جنوباً إلى جنين شمالاً، بما في ذلك القدس المحتلة، ويؤكد على أنّ "قراءة هذه الخصائص وتشخيصها هو أمر مهم لتحديد ما يمكن فعله لوقف الأحداث قبل سقوط مزيد من الضحايا".
ويلفت بن يشاي إلى أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية ترفض تعريف الهبة المتصاعدة بـ"الانتفاضة"، وتفضل الإشارة إلى الأحداث على أنها "موجة إرهابية أو تصعيد"، بادعاء أن غالبية الفلسطينيين لا يشاركون فيها ولا يناصرون المقاومة ويستنكرون عرقلتها لروتين الحياة والإضرار بمصدر الرزق، "كما ذكرنا، الأشخاص الرئيسيون هم الشباب المحبطون والغاضبون الذين يعبّرون عن إحباطهم في مواجهات بالأسلحة النارية مع قوات الجيش الإسرائيلي وحرس الحدود وعناصر الشاباك، الذين يدخلون مخيمات اللاجئين، أو في هجمات على طرق المرور والمعابر. إحباطهم وغضبهم لا ينبع فقط من الاحتلال الإسرائيلي، ولكن أيضاً، وأحياناً بالأساس، من خيبة الأمل والغضب من السلطة الفلسطينية، التي تضعف قواتها الأمنية وأمنها".
مرحلة ما بعد أبو مازن
يقدر بن يشاي أن حروب الخلافة (على رئاسة السلطة الفلسطينية) التي بدأت تقرع طبولها، عامل أساس في الانتشار الواسع للأسلحة النارية كونها مهمة في الروح القتالية للشباب الفلسطيني، إذ "ينبع انتشار الأسلحة من حقيقة أن الفلسطينيين (بالمناسبة، كما في المجتمع العربي في إسرائيل)، تعلموا إنتاج أسلحة خفيفة ومرتجلة على مستوى تكنولوجي يتحسن على الدوام، كما ينخفض سعر هذا السلاح ويصبح أكثر شيوعاً وفتكاً". على حد تعبيره.
وتلقي المؤسسة الأمنية الإسرائيلية اللوم في اشتعال الضفة الغربية المحتلة على الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية، وتزعم أن "الاعتماد على نشاطها، كأمل للحل هو وهم خطير لا ينبغي تحمله"، مضيفاً أنّ الأجهزة الأمنية الفلسطينية في الأيام الأخيرة "زادت من نشاطها، وهو أمر مرحب به في حد ذاته ولكنه ليس كافياً".
ويعترف بن يشاي بأن حركتي حماس والجهاد الإسلامي لا تقودان الموجة الحالية للعمليات، مشيراً إلى أنهما تساهمان فيها من خلال التحريض المستمر الصادر بالأساس من قطاع غزة وتركيا، ومن خلال تشجيع المنفذين على توثيق الهجمات وتحميلها للشبكة"، من خلال القيام بذلك، فإنهم "يخلقون نظاماً بيئياً يردد صدى الدعوة للحصول على أسلحة ولاستخدامها ضد جنود الجيش الإسرائيلي".
خلافاً للتصعيد السابق في الضفة الغربية المحتلة، لا يعتقد بن يشاي أن غمر الضفة الغربية بالجنود النظاميين والاحتياطيين من جيش الاحتلال كفيل في إضعاف دافع الشباب الفلسطيني لتنفيذ العمليات ضد قوات الجيش والمستوطنين، بل على العكس من ذلك، يقول يشاي، إن البعض "يرى أنّ الوقت قد حان لعملية عسكرية (السور الواقي 2) أنصحهم بالتفكير مرة أخرى، الاحتكاك المتفاقم يؤدي لسقوط العديد من الضحايا على الجانب الفلسطيني، وهم يؤججون النار، وهذا لا يردع ولا يضعف موجة التيك توك فحسب، بل في الواقع يزيدها ويحمل الاحتكاك في طياته خطر انضمام غالبية الفلسطينيين في الضفة الغربية لهذه الموجة، وعندها سيكون الحديث عن انتفاضة".
ويرى بن يشاي أن الفلسطينيين سيواصلون مواجهة جيش الاحتلال في كل مكان حتى لو أوقف الأخير العملية العسكرية "كاسر الأمواج"، وقرر عدم إجراء عمليات الاعتقال الليلية في مخيمات اللاجئين مرة أخرى، "لذلك فإن السؤال الملح هو كيف نقطع الدائرة السحرية".
قنبلة موقوتة
يجيب بن يشاي على سؤال، لماذا لا يفضل الخروج بعملية عسكرية مثل"السور الواقي"؟
قائلاً: "عام 2002، دخل الجيش الإسرائيلي إلى تجمعات سكانية فلسطينية كبيرة، ومكث فيها لفترة طويلة من أجل مساعدة الشاباك في الانتشار في المنطقة، والحصول على معلومات استخبارية، واعتقال المطلوبين، الأمر الذي أدى إلى تراجع الانتفاضة الثانية، ورغم ذلك، تسببت هذه العملية بوقوع ضحايا في صفوف الجنود، كما تسببت في غوص الجيش بالكامل في الصراع الفلسطيني، ولم يتدرب أو يستعد بشكل سليم للحرب القادمة".
على هذا الأساس، يرى بن يشاي أن على إسرائيل تجنُب عملية عسكرية كبيرة، لاسيما وأن الجيش الإسرائيلي لا يفتقر اليوم إلى المعلومات الاستخباراتية في مناطق الضفة الغربية المحتلة كما كان الحال عام 2002، ويفسر بن يشاي ذلك قائلاً، إن الشاباك والجيش "يقدمان معلومات استخباراتية دقيقة وحديثة كل ساعة، المشكلة اليوم هي في الاحتكاك ذاته بين قوات الأمن والفلسطينيين، ونتائجه تتجلى ليس فقط في الهجمات والمواجهات مع الجيش الإسرائيلي، ولكن أيضاً في العديد من حالات إلقاء الحجارة والزجاجات الحارقة ضد المستوطنين اليهود". ويسوق مثالاً أن الوضع في القدس المحتلة هادئ نسبياً رغم فترة الأعياد اليهودية واقتحامات المستوطنين للأقصى المبارك، لكنه يستدرك ويقول: "مع ذلك فإن التهديد موجود دائماً".
ويقترح بن يشاي جملة من الخطوات للتغلب على المرحلة الراهنة وقمع الهبة الشعبية، حيث يدعو إلى فرض إغلاق وتطويق البلدات الفلسطينية التي يشكل شبابها المحرك الأساس لموجة العمليات والمنظومة المحفزة على الشبكات الاجتماعية، وعند "فرض الإغلاق على نابلس وعلى مخيم جنين، وإغلاق طرق رئيسة بشكل مفاجئ في منطقة الخليل، سيؤدي هذا إلى احتكاك محكم مع المسلحين الفلسطينيين".
ولا ينكر بن يشاي أن هذه الإجراءات ستؤدي بالفعل إلى معاناة آلاف الفلسطينيين الذين لن يتمكنوا من التحرك بحرية وكسب الرزق، لكنه يعول على أن الغالبية ستلجم المقاومين، قائلاً، إننا "عرفنا في الماضي أن هؤلاء الأشخاص غير المتورطين سيحاولون على الأقل كبح جماح الشباب، في الوقت نفسه، يجب على قيادة الجيش الإسرائيلي تقليل الإجراءات المضادة في مخيمات اللاجئين والمدن، والتركيز على "القنابل الموقوتة"، من أجل تقليل الاحتكاك المباشر وعدد الضحايا الفلسطينيين".
العملية العسكرية آخر الخيارات
ويفصح بن يشاي أنه في حال لم تحقق الممارسات القمعية الأهداف المرجوة فلا مناص من شن عملية عسكرية واسعة في الضفة الغربية إذ "من المحتمل أن الإغلاق ونصب الحواجز على الطرق، واستخدام وسائل المراقبة من الجو والأرض، لن تسفر عن النتائج المرجوة، عندها لن يكون هناك خيار، وستكون هناك حاجة لعملية كبيرة تستمر شهوراً في شمال الضفة الغربية، تسمح لقوات الأمن بجمع جزء كبير من الأسلحة الموجودة في مراكز الإرهاب، وقد تحصد العديد من الضحايا من كلا الجانبين".
في نهاية قراءته للاشتعال في الضفة الغربية والقدس المحتلتين، يرى بن يشاي أن الوضع لم يصل لدرجة الانتفاضة، يقول المتحدث، إن "هذه ليست انتفاضة، لم نصل لهناك بعد، لكن يجب أن يكون مفهوماً أن موجة الإرهاب في تيك توك تختلف في خصائصها ومولداتها عن موجات الإرهاب السابقة، ويجب على المرء أن يفكر في نموذج مختلف للتعامل معها، نحتاج أيضاً إلى الاعتراف بحقيقة أنه طالما تصر دولة إسرائيل على مواصلة السيطرة على 2.6 مليون فلسطيني، فإن موجات الإرهاب هذه لن تتوقف فحسب، بل ستزداد حدتها، من المؤسف أن عدم الاستقرار السياسي الذي استمر قرابة أربع سنوات، يعيق حتى نقاشاً منظماً وعملاً منهجياً يفضي ويؤدي إلى تسوية طويلة الأمد للصراع الإسرائيلي الفلسطيني في اليوم التالي، بعد رحيل أبو مازن".