تستمر معركة الرئيس التونسي قيس سعيّد مع النخب في البلاد من دون توقف. وهي معركة بدأت قبل 25 يوليو/تموز 2021، واستمرت بعده بشكل أقوى وأعنف عندما انفرد بالسلطة بمفرده.
آخر جولة من جولات هذه المعركة اتهام 25 شخصية سياسية ومالية وإعلامية بـ"التآمر على أمن الدولة الداخلي والتخابر مع جهات أجنبية". والغريب في هذا الملف الجديد أن أغلب هؤلاء من مؤيدي سعيّد، ومن أشد خصوم الإسلاميين. وهو ما فتح الباب واسعاً أمام تأويلات شتى، وأثار حيرة المتابعين للشأن السياسي، وفي مقدمتهم أنصار الرئيس. فالجميع سواء كانوا مع سعيّد أو ضده يمكن أن يحالوا على القضاء، ومن هو خارج دائرة الاتهام اليوم يمكن أن يصبح مستهدفاً في مرحلة مقبلة. أما متى وكيف، فذاك مرهون بتطورات المشهد ومفاجآته.
تحجيم النخب السياسية وعودة لإجراءات بن علي
كانت ضربة البداية في تنفيذ خطة تحجيم النخب السياسية، مع تجميد البرلمان وحل الحكومة وإلغاء الدستور. عندها صدر قرار رئاسي يمنع بمقتضاه من السفر كل الذين تحمّلوا مسؤولية سواء في الدولة أو الحكومات والهيئات المتتالية للبرلمان، حتى مديري المؤسسات العمومية.
في هذا السياق تم إحياء إجراءات أمنية عديدة كانت سارية في عهد الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، مثل العمل بالإجراء المعروف بـ"س 17"، ويتمثل في قائمة تضم "المشتبه فيهم"، على الرغم من أن الكثير من هؤلاء لم توجّه إليهم تهمة ما أو تتعلق بهم قضية. وشمل هذا الإجراء عدداً كبيراً من رجال الأعمال، مما جعل الكثير ممن سبق أن كُلفوا بمسؤولية سياسية أو إدارية يعيشون حالة قلق وخوف عندما يتوجهون إلى المطار لمغادرة البلاد. ومنهم من تم إعلامه بأنه ممنوع من السفر لأسباب مجهولة.
تم إحياء إجراءات أمنية عديدة كانت سارية في عهد زين العابدين بن علي
في سياق موازٍ، تمت إحالة العشرات من السياسيين والنشطاء على القضاء بتهم عديدة ومتنوعة. ونشط في هذا السياق القضاء العسكري الذي أصبح الجهة الرئيسية لمحاسبة خصوم النظام، والحكم على العديد منهم بأحكام مختلفة، على الرغم من مخالفة ذلك لدستور 2014 وللقوانين المعمول بها، والتي تمنع مقاضاة المدنيين أمام محاكم عسكرية.
وتم التركيز في هذا السياق على قياديي حركة النهضة، وعلى رأسهم زعيمها راشد الغنوشي الذي لا يزال يتردد على أكثر من محكمة بتهم خطيرة تتعلق بالاغتيالات السياسية وتسفير الشباب إلى بؤر التوتر والإرهاب وتبييض الأموال.
بعد ذلك اتسعت رقعة المتهمين لتشمل معارضين من أحزاب وتيارات أخرى، مثلما حصل مع الأمين العام لحزب التيار الديمقراطي غازي الشواشي، الذي مُنع من السفر، وقدّمت بحقه قضية من قبل وزيرة العدل ليلى جفال نيابة عن رئيس الحكومة.
بعد ذلك جاء دور رئيس حزب آفاق وزير المالية السابق فاضل عبد الكافي، الذي مُنع أيضاً من مغادرة البلاد قبل أن يجد نفسه ضمن القائمة الأخيرة للشخصيات المتهمة بالتآمر على أمن الدولة على الرغم من كونه شخصية مالية هامة، كانت بصدد الاستعداد لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة. ولا يكاد يمر أسبوع من دون أن يستقبل رئيس الدولة وزير الداخلية توفيق شرف الدين أو وزيرة العدل، أو كليهما للنظر في ملفات مختلفة.
صراع في أوساط المقربين من سعيّد
خلال الفترة الأخيرة كثر الحديث والتسريبات حول "صراع الشقوق" داخل الأوساط القريبة من سعيّد. والمعلوم أن الرئيس ليس له حزب، ولكنْ له أنصار. وهؤلاء ينحدرون من مشارب سياسية وأيديولوجية مختلفة، ومتناحرة في ما بينها. وبما أنه يعتمد كثيراً على عنصر الثقة، فقد تعددت شكوكه منذ توليه رئاسة الجمهورية. لهذا السبب استقال معظم مستشاريه منذ توليه الرئاسة.
وتُعتبر استقالة مديرة ديوان الرئيس نادية عكاشة من بين الاستقالات الأكثر ضجيجاً وخطورة على الجانب الخفي من شخصية سعيّد الرئيس. وقد ورد اسمها ضمن القائمة الأخيرة للمتهمين الموجّهة لها سلسلة من التهم الأخطر في القضايا السياسية من بينها "تكوين وفاق إجرامي للاعتداء على الأشخاص والتآمر على أمن الدولة الداخلي والتدليس ومسك واستعمال مدلس" إضافة إلى تهمة "التخابر مع دولة أجنبية".
وتضم القائمة شخصيات كان لبعضها دور فعال في صعود سعيّد إلى موقع الرئاسة، خصوصاً المتهم الرئيسي والمحوري في هذه المجموعة، وهو رجل الأعمال وليد البلطي. وعلى الرغم مما أثارته هذه القضية من نقاط استفهام، فهي تؤكد في الآن نفسه أن رئيس الدولة أصبح كثير الشك في الجميع، بمن فيهم الذين يعتبرون أنفسهم قريبين منه.
خلقت الأجواء الأمنية والسياسية مناخاً مضطرباً وغير مستقر في تونس
خلقت هذه الأجواء الأمنية والسياسية مناخاً مضطرباً وغير مستقر. وهي تعكس الظروف النفسية التي تحيط بإدارة سعيّد لشؤون الدولة. لا أحد يتمتع بحصانة مطلقة، وهو أمر أثار حفيظة الأنصار قبل المعارضين، مما جعل أحد هؤلاء الأنصار، وهو سامي بن سلامة العضو المجمّد بالهيئة العليا المستقلة للانتخابات، يصف المناخ العام في البلاد بـ"الخانق".
واعتبر في تدوينة له أن "الناس كلها خائفة"، متسائلاً "هل سنصبح نتكلم بالرموز والإشارات حتى لا نجد أنفسنا داخل السجون؟". وختم تعليقه "إذا كان من أجل هذا صنع 25 يوليو... السماح بطلنا"، وفي ذلك إعلان من قبله عن تخليه عن دعم المسار الرئاسي. وليس هذا الموقف الوحيد، بل سبقه الكثير من المناصرين الذين سحبوا ثقتهم من الرئيس واختياراته.