مجزرة مجدل شمس.. عن "الراية الكاذبة" وصناعة الذريعة في الحروب

10 اغسطس 2024
جندي إسرائيلي على الحدود مع لبنان، 11 أكتوبر 2023 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **بروباغندا الذريعة وأحداث المنطقة**: تعتمد الحروب الحديثة على حدث مؤسس ودعاية مرافقة، كما يظهر في خطبة نتنياهو أمام الكونغرس واغتيالات شخصيات بارزة، مما دفع إيران وحزب الله للرد.

- **هجمات الراية الزائفة في التاريخ**: تُستخدم لتبرير الحروب، مثل تفجير إرهابي مزعوم في روسيا قبل الحرب الأوكرانية، وعمليات نازية ضد بولندا، وخطة Northwoods ضد كوبا.

- **إسرائيل والذرائع للحرب**: استخدمت إسرائيل ذرائع مثل عملية "طوفان الأقصى" لتبرير هجماتها على غزة، وتاريخيًا، هجمات زائفة مثل تفجيرات بغداد وفضيحة لافون.

في أدبيات الحرب الحديثة، تلك المصدّرة من غرب العالم تحديدًا، ثمّة إجماع على شرطين أوّليين لإنجاح أي عمل عسكري: الحدث المؤسس/ الشرارة، والدعاية المرافقة، وهما ركنان لما يسميه الباحث المتخصص في العلاقات الدولية أوليفر بويد باريت "بروباغندا الذريعة". وفي تسلسل الأحداث الذي أفضى إلى الحالة الدقيقة التي تعيشها المنطقة اليوم، لنا أن نرى اجتماع هذين العاملين بالنسبة لإسرائيل، ودونهما تراتب الأحداث بمثالية بدا أنها تجاوزت الصدفة: خطبة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أمام الكونغرس عن "المصير المشترك" بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وعن دفاع بلاده عن الأميركي داخل الديار؛ مجزرة ملعب الأطفال في مجدل شمس ثم ما رافقها من زخم إعلامي وسياسي واسع داخل الولايات المتحدة، بعض مظاهره ابتداء الرئيس السابق دونالد ترامب أحد تجمعاته الانتخابية بالإشارة إليه، وتأكيد الإدارة الأميركية أن لإسرائيل "حق الرد"، مع تصديق وزير خارجيتها أنتوني بلينكن على روايتها حول المجزرة؛ ردّ إسرائيل السريع باغتيال ثاني أرفع شخصية في حزب الله فؤاد شكر، في مكان يقصده عادة، كان أيضًا، للمفارقة، قرب ملعب أطفال؛ ثم اغتيال قائد حركة "حماس" إسماعيل هنية، تمامًا مع تحرّك القطع البحرية الأميركية إلى المنطقة لاحتواء ردّ "حزب الله، في هجوم ما كان له أن يكتمل بين ليلة وضحاها، وتزامنيّة تدفع إيران إلى الدخول في دائرة الرد جنبًا إلى جنب مع حزب الله، وتجعل، تبعًا لذلك، الحرب الإقليمية على مرمى صاروخ آخر.

كلّ ذلك يبدو وصفة محكمة لغاية ما زال يسعى إليها نتنياهو منذ أكثر من عقدين، وهي دفع الولايات المتحدة إلى خوض حربه مع إيران وأذرعها. هذا استنتاج يردده مجاهرة ساسة أميركيون، منهم المبعوث الأميركي السابق إلى إسرائيل دينيس روس، الذي يسأل، في حديث لصحيفة "نيويورك تايمز": "إن كانت زيارته (نتنياهو) لإتمام الصفقة، فلماذا هنية الآن؟ ولماذا تفعل ذلك بطريقة تدفع الإيرانيين للرد"؟ يقف فرانك لوفينشتاين، المبعوث الأميركي الخاص للمفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية في إدارة باراك أوباما، عند التساؤلات ذاتها، قائلًا، بصريح العبارة، إن نتنياهو "يضع الولايات المتحدة في موقف مستحيل: هو يحرّض على ردّ قد يجرّنا إلى الحرب".

حرب كتلك كانت بحاجة إلى صناعة الذريعة التي تسوّغ الخروج عن قواعد الاشتباك المرساة، وتضمن مصادقة دولية، أو بالأخص أميركية، على ذلك؛ والشرارة كانت من مجدل شمس. لكن في ظلّ نفي "حزب الله"، وهو الذي لم ينكر على نفسه فعلًا أخطاء أوقعت شهداء فلسطينيين خلال حرب تموز واعتذر، ثمّ ما بلغت أسلحته من دقة في الاستهداف؛ وفي ظلّ أننا لا نملك معلومات موضوعية لإجابات وافية، ولا يمكن أن نطمئن إلى الرواية الإسرائيلية بأي حال، وبينما يغيب التحقيق الموضوعي، لنا أن نضع سؤالًا عامًّا: هل يمكن أن تُفتعل شرارة الحرب في حال كانت اللحظة الأمنية والإستراتيجية مؤاتية؟ في تاريخ الصراعات الحديثة الكثير من الشواهد التي تردّ بالإيجاب، وكذاك في تاريخ إسرائيل نفسها.

هجوم "الراية الزائفة"

في فبراير/شباط 2022، استبق وزير الخارجية الأميركي الحرب الأوكرانية بتعداد السيناريوهات التي يمكن أن تلجأ لها روسيا من أجل اختلاق ذريعة للحرب، ومنها، وفق مقتبس حديثه لمجلس الأمن، "تفجير إرهابي مزعوم داخل روسيا، أو اكتشاف مزعوم لمقابر جماعية، أو ضربة مزعومة (مفبركة) بطائرة من دون طيار ضد المدنيين، أو وهمية، أو حتى هجوم فعلي بأسلحة كيميائية". لاحقًا، نشرت صحف أميركية معلومات استخبارية تشير إلى أن روسيا تخطط "لفبركة فيديو حول هجوم أوكراني". وبالفعل، شهدت تلك الفترة تصعيدًا من قبل مليشيات روسية انفصالية لاستفزاز أوكرانيا من أجل الرد، ونشر فيديوهات بدا أنها ركيكة وضعيفة الإخراج لهجمات أوكرانية داخل الأراضي الروسية.

لكن لدى تأمّل حديث بلينكن، يمكن القول إن أحدًا لا يمكن أن يبلغ هذا المبلغ من الخيال (افتراض تدبير هجوم ذاتي بأسلحة كيميائية) من دون أن يكون هذا مبنيًّا إمّا على معلومات أو سوابق. في الواقع، يُتعارف على تسمية مثل هذه العمليات الزائفة في مجتمع الاستخبارات بـ"هجمات الراية الزائفة"، نسبة إلى واقعة تعود إلى عام 1788، حينما رفع جنود سويديون راية الجيش الروسي، وتنكّروا بأزيائه، ثمّ ضربوا موقعًا سويديًّا محاذيًا لروسيا قصد إحداث موجة غضب لدى العامة، ودفع الجمعية العمومية في البلاد، التي ظلّت تتجنّب الحرب، لتعديل موقفها؛ وهكذا اندلعت الحرب الروسية السويدية التي دامت 12 عامًا، وانتهت بلا نتائج.

يحفل تاريخ الحروب اللاحقة بالكثير من الدسائس المماثلة، من الحرب الألمانية الفرنسية عام 1870، التي بدأت بمراسلة فبركها قنصل بروسيا أوتو فان بيسمارك، بين العاهل الألماني والسفير الفرنسي من أجل تأليب نابليون الثالث لإعلان الحرب؛ إلى "حرب الشتاء" الفنلندية الروسية إبّان الحرب العالمية الثانية، التي بدأت بقصف القوات السوفييتية قرية روسية حدودية متخذة ذلك ذريعة لاحتلال الأراضي الفنلندية؛ إلى الحرب العالمية الثانية ذاتها، التي استُبقت بسلسلة هجمات مزيّفة عرفت باسم "عملية هملر"، وتضمّنت شنّ القوات النازية هجمات ذاتية استهدفت، في بعض الأحيان، مدنيين، وفي حوادث أخرى أسرى داخل معسكرات التجميع، على يد جنود ألبسوا الزي العسكري البولندي، ثمّ روفقت بحملة بروباغندا نازية نشطة ضد بولندا، تمهيدًا لاجتياحها مطلع سبتمبر/أيلول 1939.

لم يكن بلينكن يستلهم تلك الحوادث وحدها في تصوّره لسيناريوهات الحرب الروسية على أوكرانيا، ففي التاريخ الأميركي ذاته، أو ما تكشّف منه وحسب، ما لا يقلّ شناعة. واحدة من تلك الدسائس، على سبيل المثال، كانت العملية المسمّاة TPAJAX، وكان مُرادها إسقاط الحكومة الشيوعية المنتخبة في إيران مطلع خمسينيات القرن الماضي، عبر سلسلة هجمات على مساجد وشخصيّات دينية نفّذت على يد عملاء لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "سي آي إيه"، ثم جرى إلباسها إلى الشيوعيين. أحدثت تلك العمليات زخمًا أفضى في نهاية المطاف إلى إطاحة حكومة محمد مصدّق عام 1953 بانقلاب عسكري.

في عام 1962، كذلك، كانت كوبا على شفا مؤامرة أخرى، حينما وضعت وكالات الاستخبارات الأميركية النقاط الأخيرة على عملية Northwoods، وحازت على مصادقة رئيس الأركان، قبل أن يردّها الرئيس جون كينيدي. تضمّنت الخطة سيناريوهات لعدة هجمات مزيّفة من شأنها أن توفّر الذريعة لإطاحة حكم فيديل كاسترو الناشئ في البلاد، بلغت فيها القابلية الدموية حد التفكير في فبركة اختطاف أو إسقاط طائرات مدنية وعسكرية أميركية، أو إغراق سفن أميركية في خليج كوبا، أو حرق محاصيل زراعية أميركية، أو تدمير طائرات من دون طيار باستخدام طائرات مصمّمة على شكل طائرات "ميغ" كوبية. بقيت هذه الأسرار محفوظة في وثائق اغتيال كينيدي، حتى كشف عنها الصحافي الأميركي المتخصص في شؤون الاستخبارات جيمس بامفورد في كتاب منشور عام 2001، بعنوان Body of Secrets: Anatomy of the Ultra-Secret National Security Agency.

الكاتب ذاته كشف لاحقًا عن كواليس ما ستصبح واحدة من كثر "الرايات/الذرائع الكاذبة" افتضاحًا في تاريخ الحروب الحديثة، وهي كذبة أسلحة الدمار الشامل، قبل أن يرى العالم الدمار الشامل الحقيقي الذي لحق العراق والمنطقة بعد ذاك، وما زالت شواهده حاضرة. يشرح بامفورد، في كتابه A Pretext for War: 9/11, Iraq, and the Abuse of America's Intelligence Agencies، كيف أن إدارة جورج بوش دفعت بسخاء لمجموعة دعائية تسمى Rendon Group، كانت تنشط أساسًا منذ التسعينيات، بالتعاون مع منشقّين عراقيين وبدفع من لوبيات صهيونية، ضد نظام الرئيس العراق الأسبق صدام حسين؛ من أجل إقناع الرأي العام الأميركي بأن العراق كان خطرًا محدقًا، وكيف أن أجهزة المخابرات الأميركية جنّدت لاختلاق ذريعة للحرب. ينقل بامفورد عن أحد موظفي "سي آي  إيه" في ذلك الحين قوله: "إن أراد الرئيس الحرب، فقد كانت وظيفتنا هي أن نخلق لذلك المبرّرات والأسباب"، يمضي شارحًا كيف أن خطة تقويض النظام في العراق كانت موضوعة سلفًا منذ عام 1996 على يد ثلاثة من المحافظين الجدد، هم ريتشارد بيرلي، ودوغلاس فيث، ودافيد وورمسر، لكنها كانت معدّة لحكومة نتنياهو حين كان رئيسًا للوزراء، قبل أن يصبح هؤلاء الثلاثة من ضمن أركان إدارة بوش؛ ثم كيف أن نائب هذا الأخير، ديك تشيني، طرح غزو العراق على الطاولة بعد ساعات قليلة فقط من هجمات 11 سبتمبر.

دماء يهودية على يد الصهيونية

بمعزل عن بروتوكول "هانيبال"، كان السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وما لحقه من محرقة في غزة، برهانًا آخر على أن إسرائيل لن تتردد حتى في قتل يهود إن اقتضت الضرورة الأمنية والاستراتيجية ذلك. لقد تكشف القليل من هذا في فترة لاحقة خلال الحرب، وسينكشف المزيد بعد انتهائها. لكن هذه ليست المرة الأولى. ثمّة تاريخ منسيّ للصهيونية في ذلك، وكان ربّما سيظلّ طيّ النسيان لولا أنه افتضح في مناسبتين، دخلت إحداهما، على الأقل، في السجل الأسود لهجمات "الراية الكاذبة".

الأولى كانت في بغداد مطلع خمسينيّات القرن الماضي، تزامنًا مع عملية نحميا وعزريا (أو في النسخة الأكثر استشراقية من الاسم، عملية "علي بابا") لتهجير يهود العراق إلى إسرائيل، التي أخرجت في صورة خلاصية وقتَ كانت المعابد والمرافق اليهودية تواجه سلسلة من الهجمات الإرهابية. شنقت قوات الأمن العراقية آنذاك يهوديين اثنين اتهمتهما بتدبير الهجمات، وهي اتهامات، للمفارقة، حظيت بـ"تصديق واسع" في أوساط يهود العراق المهجّرين، بتعبير الباحث اليهودي العراقي يهودا شنهاف، وتنكّرت لها إسرائيل، إلا في تحقيق داخلي استمعت فيه إلى شهادات بعض الضحايا، وبقيت أهم مقاطعه محجوبة عن الجمهور حتى اليوم. لكن رغم ذلك، تسرّب من المعلومات والشهادات ما خلص عنده الكثير من الباحثين والمؤرخين إلى أن "الموساد" كان وراء كلّ ذلك، من ضمنها ما يوثّقه الباحث الإسرائيلي موشيه غات استنادًا إلى وثيقة مؤرشفة في سجل "هاغاناه"، من رسالة بعث بها أحد منتدبي "الموساد" في العراق، واسمه يودكا رابينوفيتش، عام 1949، يشتكي فيها من أن "القناعة لدى يهود بيرمان (الرمز السري للعراق) لا تصدق.. إنها تهدد وجودنا"، مقترحًا "إلقاء قنابل يدوية على مقاه يقصدها يهود، وكذلك توزيع منشورات تدعوهم إلى الرحيل"، وهو ما ردّت عليه الاستخبارات الإسرائيلية بالموافقة. في شهادة أخرى حديثة، يوثّقها مؤرخ يهودي عراقي آخر هو آفي شلايم، في مذكراته التي نشرها العام الماضي بعنوان Three Worlds: Memoirs of an Arab-Jew، نقلًا عن سجلّات الشرطة العراقية، يقرّ يوسف بصري، وهو أحد اللذين جرى شنقهما، بأنّ مردخاي بن بورات كان مبتعثًا من إسرائيل "وقد وجّه نشاطاتنا نحو عمليات إرهابية من قبيل إلقاء القنابل... وكان يتنقل بين المحلات المملوكة ليهود عراقيين يحثهم على الرحيل"، علمًا أن الرواية الرسمية المؤرخة، قبل هذا الكشف، انتهت إلى أن الذين جرت محاكمتهم نفوا التهم.

المؤامرة الأخرى تعود إلى عام 1954، في ما عرف باسم "فضيحة لافون"، أو وفق التسمية الإسرائيلية الرسمية "عملية سوزانا"، وفيها تمكّنت أجهزة الأمن المصرية من إجهاض خطّة دبّرها "الموساد"، وجنّد من أجلها يهودًا مصريين، لاستهداف مرافق حيوية لحلفائه البريطانيين والأميركيين، في وقت كانت تتأهب فيه القوات البريطانية للانسحاب من قناة السويس وترك زمام السيطرة في البلاد لنظام جمال عبد الناصر الناشئ. أحد المعتقلين في تلك العملية كان الملازم أول في الاستخبارات الإسرائيلية مروان مئير ماكس، وهو ذاته الذي وجّه الهجمات قبل بضع سنوات في بغداد. كان ماكس مطلوبًا لدى مصالح الأمن العراقية، وقبل أن يسلّم إليها، انتحر في السجن بقطع وريده. انتظرت إسرائيل حتى عام 2014 لتعترف بالمؤامرة.

هل تحتاج إسرائيل إلى الذريعة؟

في الخطاب العربي/الفلسطيني، تتردّد مقولتان، كلتاهما مدفوعة بشيء من الغائيّة أكثر من كونهما نابعتين من محاولة استبطان للعقل الاستراتيجي الإسرائيلي؛ أولاهما أن الاحتلال لا يحتاج إلى الذريعة، وثانيهما الضدّ، وهذا خطاب محبب للأنظمة تحديدًا، ومنها السلطة الفلسطينية التي كررت في أكثر من مناسبة أن "هجوم السابع من أكتوبر أعطى لإسرائيل الذريعة". في الفهم الغربي/الأميركي، فإن المنطق العسكري، وكذلك شواهد التاريخ، تجيبان بأن رواية الحرب هي أوّل أركان النصر فيها، هذا مردّه إلى أمرين، كما يشرح الباحث جويل روزنتال في مقال منشور بمجلة كلية الحرب البحرية الأميركية: "أوّلًا، عدم التوازن الجذري في القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية بين الولايات المتحدة وبقية العالم؛ وثانيًا، الذخر الصلب الذي يوفّره الدافع الأخلاقي في الصراعات الأيديولوجية". بمعنى آخر، يملك الحلف الاستعماري الغربي، المتمحور حول أميركا والممثّل بإسرائيل أيضًا، من القوة القاهرة ما يمكّنه من إخضاع أي نظام، أقلّه في مناطق نفوذه، لكن في عالم تُخاض فيه الحروب تحت عدسة الكاميرات، ووصاية -وإن شكلية- من القانون الدولي، فإن استخدامها يستوجب السردية الأخلاقية، ومشهديّة "المعتدى عليه". هكذا ضربت اليابان بالقنبلة الذرية بعد بيرل هاربر، وهدمت دول بعد انهدام برج التجارة العالمي، وكلاهما حدثان استدعيا في الصحافة الغربية بزخم كبير للمطابقة مع عملية "طوفان الأقصى".

ضمن هذا الإدراك، في الساعات الأولى بعد عملية "طوفان الأقصى"، وفي لحظة يتحوّل فيها معلقو الصحف الإسرائيلية إلى متحدثين عسكريين، أبرزت صحيفة "يديعوت أحرونوت" مقالًا للباحث في مؤسسة الدراسات الاستراتيجية والأمنية (JISS) يعنونه بأن مقاطع السابع من أكتوبر "هي سلاح يجب استغلاله"، ثم يمضي شارحًا، تحت صورة اختارها المحرر لأطفال وفتية فلسطينيين يحتفلون أمام مركبة عسكرية إسرائيلية استولت عليها المقاومة، كيف أن إسرائيل افتقدت هذا السلاح في كلّ حروبها السابقة مع غزة التي ظهرت فيها مدافعة أمام عدو طاغٍ، وأن هذه المشهدية الآن "تقنع المواطن الأميركي العادي، أو مشاهد التلفزيون الأوروبي، أن حماس لا تختلف عن (داعش)، وتعطينا الشرعية الكاملة للعمل ضد قطاع غزة، ومن الأفضل الاستفادة منها بسرعة"، وهذا ما كان.

لكن هذا السرد ليس للتصديق على خطاب السلطة. في الواقع، لا يقوم استعمار إلا على الإبادة، ولهذه أوجه كثيرة تتقلّب بين أوقات الحرب والتهدئة، ومنها أن تترك غزة، التي ظلّت تقارير أممية تحذر من أنها قد تصبح مكانًا غير قابل للعيش، تختنق بحصارها وفقرها وبطالتها بلا أفق للحياة، وتقضم الضفة حتى تستحيل محميات/بانتستونات متناثرة لما بقي من سكّانها، وبلا أفق للحياة أيضًا. لقد سبقت خطة تهجير أهل غزة إلى سيناء هذه الحرب بعقود، وكذلك خطة القضاء على "حماس"، كما صرّحت بذلك إسرائيل في أولى حروبها الكبرى على القطاع؛ تمامًا كما سبقت الخطة "دال" -التي وضعتها "الهاغاناه" لتهجير الفلسطينيين- بسنوات حادثة الهجوم على حافلة "إيغد" اليهودية، التي صادفت اليوم اللاحق لإعلان قرار تقسيم فلسطين، واستُبقت بسلسلة من الهجمات الاستفزازية الصهيونية، ثم صارت ذريعة لبدء الحملة العسكرية الصهيونية إيذانًا بالنكبة. هكذا تمامًا أيضًا سبقت خطة غزو العراق وتخريبه الحادي عشر من سبتمبر بسنوات. لا يحتاج الغزاة إلى الذريعة فعلًا من حيث إنّها تتوالد مع جرائمهم اليوميّة: إنها ما يدّعون السعي إلى ردعه وتلافيه من حيث يرغبونه ويعيدون تسخيره، وفي حال لم يتأتَّ لهم ذلك بالاستفزاز والتحريض، فلن تعدم ذخيرتهم الدسائس.