مبادرات متصادمة في الجزائر: إقرار بأزمة أم استباق استحقاقات؟

06 سبتمبر 2023
من إطلاق مبادرة قوى الموالاة في 19 أغسطس (العربي الجديد)
+ الخط -

بعد ثلاث سنوات من الحراك الشعبي في الجزائر، واحتكار السلطة للمبادرة السياسية والاقتصادية، عادت أحزاب وتكتلات سياسية ومدنية جزائرية تطرح مبادرات سياسية ومقترحات لحل بعض الأزمات الداخلية ذات الصلة بالمسألة الديمقراطية والوضع الاقتصادي والاجتماعي. وسواء كان ذلك يعني إقراراً بوجود أزمة داخلية تحتاج إلى بحث مشترك عن مخارج وحلول، أو مسعى لتحفيز السلطة ودعم خياراتها في ظروف تصاعدت فيها الشكوك بنجاعة الخيارات التي يتبنّاها الرئيس عبد المجيد تبون، فإن هذه المبادرات تعني وجود قلق داخلي إزاء مشكلات محلية مستعصية، وتهديدات خارجية محتملة، يزيد المناخ الإقليمي المتوتر من مخاطرها.

مبادرتان للموالاة والمعارضة الجزائريتين

في أقل من أسبوعين قُدمت مبادرتان مختلفتان، ومن جبهتين متعارضتين، واحدة من الموالاة وأخرى من المعارضة. ففي 19 أغسطس/آب الماضي، أعلنت كتلة من الأحزاب التي تُشكل الحزام الحكومي، وهي حركة "البناء الوطني" و"جبهة التحرير الوطني" و"التجمع الوطني الديمقراطي" و"جبهة المستقبل" و"صوت الشعب"، عن مبادرة سياسية كان محورها الأبرز تحصين الجبهة الوطنية في الداخل.

كما تستهدف إظهار الطبقة السياسية والمدنية في الجزائر في موقف إسناد لتوجهات تبون في السياسة الخارجية وفي استقلالية القرار السياسي والاقتصادي الوطني، ودعم مؤسسات الجيش والأمن القومي. وحصلت المبادرة على دعم صف كبير من الأحزاب الموالية للسلطة ونقابات عمالية أبرزها الاتحاد العام للعمال الجزائريين، ومنظمات وطنية كالمجاهدين (قدامى محاربي الثورة) وقوى من المجتمع المدني.

تتناقض مبادرتا أحزاب الموالاة والمعارضة في التقييم السياسي للأزمات الداخلية، ومدى مسؤولية السلطة عنها

مقابل ذلك، كشفت "جبهة القوى الاشتراكية"، أقدم أحزاب المعارضة في الجزائر، السبت الماضي، عن مبادرة سياسية، تتضمن إجراء مشاورات سياسية موسعة تسمح بصياغة وثيقة توافق وطني وحزمة "إصلاحات سياسية ينبغي الشروع فيها لتعزيز شرعية المؤسسات المنتخبة، والحريات الأساسية وحقوق الإنسان، وتحرير المجالات السياسية والإعلامية، والاتفاق على خطة إصلاحات اقتصادية".

هاتان المبادرتان وإن كانتا تتقاطعان بوضوح في عدد من النقاط المتصلة بضرورات تحصين الجبهة الداخلية وحماية الوحدة الوطنية، فإنهما تتناقضان إلى حد كبير في التقييم السياسي للأزمات الداخلية، وتتباينان في مدى مسؤولية السلطة عن ذلك. وتختلف المبادرتان في التركيز على حالة الإغلاق القائم للمجال السياسي والإعلامي الراهن والتراجع في قضايا الحريات في البلاد.

تباينات في معالجة قضية الحريات

وتجاهلت مبادرة كتلة الموالاة، وضع الحريات والمطالب المتعلقة بالانفتاح على قضايا الحريات الأساسية والتضييق الحاصل منذ فترة على الرأي وإغلاق المجال الإعلامي في وجه القوى والشخصيات الناقدة للسلطة، والتضييق على الحريات النقابية. في المقابل، تركزت مبادرة "القوى الاشتراكية" بشكل كبير على مسألة الحريات، معتبرة أنها عقدة رئيسة في أزمات البلاد، بسبب رفض السلطة النقاش وعدم تجاوبها مع مطالب الانفتاح وحرية التعبير والصحافة.

في مقام آخر، تتوجّه مبادرة كتلة الموالاة إلى دعم مباشر للسلطة وإسناد سياسات تبون، وتبرر المواقف الرسمية إزاء القضايا الداخلية والخارجية، وتعتبر أن الظروف والتوترات الإقليمية عوامل معرقلة لخطوات الإصلاح الداخلي، وتفرض إرجاء الاستحقاقات الاجتماعية والاقتصادية. أما مبادرة القوى المعارضة، فتحمّل السلطة المسؤولية عما تعتبره إخفاقات في تحقيق منجزات اقتصادية وتحسين معيشة المواطنين، وتكرار استخدام السلطة الأساليب نفسها في إدارة الشأن العام والمسائل العمومية، وتعبّر عن القلق من توظيف التوترات الإقليمية والتهديدات القائمة ضد البلاد، لقمع الرأي المخالف والمعارضة السياسية والمدنية.

يعتبر القيادي في حركة "البناء الوطني" التي تقود مبادرة قوى الموالاة، كمال بن خلوف، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "تعدد المبادرات لا يتعلق بالتنافس، ولكنه تكامل مهما اختلفت الأطراف الداعي لها". ويلاحظ أن "المنطلقات الأساسية لكل المبادرات السياسية المعلنة حتى الآن، سواء مبادرتنا أو مبادرة جبهة القوى الاشتراكية، تنطلق من مبادئ الحفاظ على الوحدة الوطنية وحماية النسيج الداخلي، وتصحيح التوجهات نحو الخيار السليم، وهذا يعني أنها إضافة حقيقية للفعل السياسي وتعبّر عن انخراط القوى السياسية في حماية البلاد".

ينفي بن خلوف وجود أي حسابات سياسية أو انتخابية وراء إطلاق مبادرة قوى الموالاة

وينفي بن خلوف وجود أي حسابات سياسية أو انتخابية وراء إطلاق المبادرة، رداً على شكوك تزعم بأن لها علاقة بالتمهيد المبكر للاستحقاق الرئاسي العام المقبل. ويؤكد أن هناك دوافع واقعية حفزت القوى السياسية على التحرك، ومنها "الاحتقان الحاصل والظروف الجيوستراتيجية للدولة الجزائرية، والاستحقاقات المتعلقة بالتنمية، وهي تتطلب توحيد التصور والرؤى حول القضايا الكلية، وإطلاق حوار وطني بين كل القوى الوطنية"، مضيفاً "هي رسالة إلى النظام السياسي ليعيد النظر في التوجه والتنبيه إلى الاختلالات الحاصلة في مجالات متعددة".

أي أهداف لإطلاق المبادرات؟

من جانب آخر، لا تقدّم كلتا المبادرتين آليات واضحة للوصول إلى تحقيق الأهداف والتوافقات المحددة، إذ لا تقترحان عقد مؤتمر وفاق وطني، أو طاولة مستديرة تشرف عليها السلطة، أو تشكيل حكومة وطنية، وتتركان ذلك لما تنتهي إليه خلاصة النقاشات السياسية، ومدى تفاعل السلطة مع المبادرات جميعها.

وبغضّ النظر عن هذه الفوارق والتقاطعات القائمة بين المبادرتين، يبرز تساؤل حول ما إذا كان إطلاق المبادرات في حد ذاته، يأتي في سياق استباق استحقاقات وطنية، أبرزها الانتخابات الرئاسية المقررة في 2024، أم يمثّل إقراراً بفشل السلطة في الاستجابة للتطلعات والمطالب المجتمعية المتعددة، وعجز البرامج الحكومية عن تحقيق منجزات اقتصادية واجتماعية ذات معنى. ولا تتلمس الطبقات الاجتماعية المختلفة في الجزائر، تغييرات كبيرة في الجوانب المعيشية، خصوصاً بسبب غلاء الأسعار وتدوير الحلول الترقيعية، ناهيك عن انكماش هائل في مساحات التعبير.

يقول القيادي في "جبهة القوى الاشتراكية"، وليد زنابي، إن هناك أكثر من مبرر لإطلاق هذه المبادرات، ويضيف في تصريح لـ"العربي الجديد": "نحن نقدّر أن هناك حالة من الانسداد والجمود تتبع الحالة الوطنية ككل، وهي ليست وليدة اليوم ولكنها نتيجة تراكم لسياسات مستمرة منذ عقد، لها عواقب وخيمة على البلاد، خصوصاً أننا نعيش في مناخ إقليمي مفخخ ومتوتر، وهو وضع يقابله للأسف مناخ من التضييق وغلق مساحات النقاش حول المشكلات والأسئلة السياسية والاقتصادية الحقيقية، وهذا سيؤجل معالجة هذه الأزمات".

زنابي: هناك حالة من الانسداد والجمود تتبع الحالة الوطنية ككل، وهي نتيجة تراكم لسياسات مستمرة منذ عقد

ويشير إلى أن "إطلاق المبادرات هو نتيجة حتمية وجزء من مساهمات سياسية لحلحلة الوضع". ويضيف أن "هذه المبادرات تبقى أمراً محموداً إذا كانت تهدف إلى جمع الجزائريين حول نقاط الإجماع وتعيد النقاش السياسي إلى المجتمع، فهناك من يريد إبعاد المجتمع وإبقاءه في عهد صفر سياسة، وهذا للأسف يخدم قوى دخيلة لا رؤية لها ولا امتداد لها، وأي اتكاء عليها سيجعل الوضع أكثر خطورة وسوءاً".