ما بعد استفتاء الدستور: سعيّد يتجه نحو تعزيز الحكم الفردي

28 يوليو 2022
لم يستوعب أغلب التونسيين رهانات ومطبات الدستور الجديد (ياسين القايدي/الأناضول)
+ الخط -

أُسدل الستار في تونس على محطة الاستفتاء على الدستور الجديد، المدرجة ضمن خطة الرئيس قيس سعيّد، المتعلقة بتغيير المشهد السياسي في البلاد، ومرّ الدستور على الرغم من إحجام حوالي 70 في المائة من التونسيين عن المشاركة، وعلى الرغم من دعوات المقاطعة التي أطلقتها معظم أحزاب المعارضة.

كما مرّ دستور سعيّد على الرغم من الانتقادات التي عبّر عنها أهل الاختصاص في القانون، وتحديداً في القانون الدستوري، إلى جانب اعتراضات منظمات المجتمع المدني، وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل. فما هي تداعيات ذلك على المرحلة المقبلة، وكيف سيصبح المشهد السياسي بعد الاستفتاء؟

وقال رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس، فاروق بوعسكر، مساء أول من أمس الثلاثاء، إن نسبة التصويت بـ"نعم" في الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد، بلغت 94.6 في المائة، في حين بلغت نسبة المشاركة 30.5 في المائة.

مخاض عجيب لدستور قيس سعيّد

ونجح الرئيس قيس سعيّد في إنقاذ الموقف، على الرغم من أن المؤشرات الأولى كانت تتجه نحو احتمال ألا تتجاوز نسبة مشاركة المواطنين في التصويت الـ15 في المائة على أقصى تقدير. فالرأي العام لم يكن مهيئاً للانخراط بقوة في عملية إضفاء تزكية شعبية على دستور جديد تمّت صياغته على عجل، وكثرت الاعتراضات عليه، ومرّ بمخاض عجيب وغير مطمئن.

لم يحظ دستور سعيّد بنقاش معمق إلا من قبل نخبة صغيرة بقيت أصواتها غير مسموعة

ولم يطلع أغلب المواطنين على مشروع الدستور الجديد، ولم يستوعبوا رهاناته ومطباته، ولم يحظ بنقاش معمق إلا من قبل نخبة صغيرة بقيت أصواتها غير مسموعة. فالذين صوتوا بنعم، تعد نسبتهم عالية جداً، وهي أثارت المخاوف، وذكّرت بعض المعلقين بالمرحلة السوفييتية، وبالانتخابات التي كان ينظمها البلاشفة.

في المقابل كشفت الأرقام الرسمية التي أعلنت عنها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، عن أن حوالي ثلثي المسجلين في العملية الانتخابية لم يشاركوا في الاستفتاء، وفضّلوا البقاء في بيوتهم، مقاطعة منهم لهذا الحدث أو للتمتع بالعطلة الصيفية. وهو رقم هام كذلك، له دلالته السياسية، واستندت إليه المعارضة واعتبرته دليلاً على فشل الرئيس سعيّد في إقناع غالبية الشعب بمشروعه السياسي، هو الذي يتحدث باستمرار عن كونه يمثل إرادة الشعب.

في هذا السياق، ردّ أنصار سعيّد على ذلك بالمقارنة بين ما حدث في تونس، وما حصل في دول ديمقراطية بالقارة الأوروبية أو الأميركية، واعتبروا أن العزوف عن المشاركة في الانتخابات يعتبر ظاهرة عالمية.

لكنهم في المقابل، تجاهلوا مسألة هامة لا يمكن القفز عليها بسهولة، وتتمثل في أن التنافس اليوم لا يتعلق بانتخابات برلمانية أو رئاسية عادية، وإنما يكتسب الحدث أهمية وخطورة أكبر بكثير من مجرد التنافس على مقعد أو منصب، ويتعلق بالتصويت على دستور سيحدد مصير الدولة والشعب.

بناء عليه، لا يجوز في الثقافة الديمقراطية أن تفرض الأقلية على الأغلبية دستوراً سيتم بمقتضاه تغيير جذري لقواعد اللعبة، ويفرض نظاما رئاسوياً وحكماً فردياً متناقضاً مع ما طالبت به الثورة، وضحّت من أجله أجيال من التونسيين.

استفتاء تونس: مفاتيح مهمة لقراءة النتائج

من هذه الزاوية، لا بد من قراءة الأرقام المعلنة رسمياً من زوايا متعددة حتى يتم فهم المشهد التونسي فهماً سليماً. وهو ما جعل أستاذ القانون الدستوري الصغير الزكراوي، الذي أيّد بقوة مسار 25 يوليو/تموز 2021 (تاريخ إطلاق سعيّد إجراءاته الاستثنائية التي بدأها بتجميد عمل البرلمان وحل الحكومة)، قبل أن يصبح معارضاً لقيس سعيّد، يؤكد على أن "نسبتي العزوف والمشاركة تشكلان مفتاحاً لفهم نتائج الاستفتاء".

التنافس لم يتعلق بانتخابات برلمانية أو رئاسية، وإنما بالتصويت على دستور يحدد مصير الدولة والشعب

وشدد على أن "نسبة المشاركة وجب أن تكون أكثر من 50 في المائة". وأضاف: "بما أن الرئيس لم يحصل هذه النسبة، لا يمكنه أن يعمل خلال الفترة المقبلة بأريحية لأن مشروعيته ضعيفة".

في هذا السياق أيضاً، كشفت الأرقام أن النسبة العالية من المشاركين في التصويت، هي من شريحة الشيوخ والكهول، وهي الفئة الباحثة عن الاستقرار، والتي عادة ما تخيفها الهزات والصراعات التي اتسمت بها العشرية الماضية، فلم تعد مستعدة لتتحمل المزيد من الأجواء الصاخبة الناتجة عن تنافس الأحزاب التي لا تزال تتدرب على العملية الديمقراطية.

وكان يفترض أن يتساءل الرئيس سعيّد عن الأسباب العميقة التي جعلت غالبية الشباب لا يتفاعلون إيجابياً مع سياساته وخطابه، إذ سرعان ما انسحب العديد منهم من صفوف المؤيدين لأسباب عديدة ومتنوعة، لعل من أهمها غياب الإنجازات وعدم الوفاء بالوعود. وكانت النتيجة فشل الرئيس في استعادة ثقة الشباب في شخصه وفي مشروعه السياسي، بعد مرور سنة من انفراده بالسلطة.

اتهمت المعارضة السلطة بتزوير نتائج التصويت من خلال تضخيم أرقام المشاركة، وخصوصاً المؤيدين للدستور، لكن يصعب التأكد من ذلك. إذ لا خلاف حول حدوث عدد من الخروقات التي حصلت يوم الاستفتاء، ولا يمكن إنكار الإجراءات التعسفية التي قامت بها رئاسة الجمهورية قبل أشهر وأسابيع من تاريخ التصويت، والتي أثّرت من دون شك في توجيه الرأي العام. لكن ذلك غير كاف للطعن في النتائج النهائية.

وعلى الرغم من أن خصوم سعيّد طالبوه بالاستقالة وتنظيم انتخابات رئاسية برلمانية سابقة لأوانها، وتمسكوا بدستور 2014 واعتبروه مرجعاً ثابتاً لهم، وأكدوا أنهم يعتقدون بأن الحالة الراهنة حالة مؤقتة، وأن الدستور الجديد سيزول مع رحيل صاحبه، إلا أن قيس سعيّد يتهيأ لكي يواصل الزحف على السلطة والإمساك بمختلف مفاصلها.

ويحدث ذلك من خلال الاستعداد لإصدار قانون انتخابي جديد سيقلب بموجبه الطاولة نهائياً على معارضيه، ويبعدهم عن مراكز الدولة، ويؤسس في المقابل نظام حكم يراه جديداً وثورياً، في حين يعتبره خصومه حكماً فردياً وتسلطياً.

هكذا يتبين أن تونس بعد الاستفتاء لن تشهد حالة استقرار سياسي كما يأمل الذين صوتوا بنعم لدستور قيس سعيّد، وإنما يُنتظر أن تتعمق حالة الانقسام والصراع بين سلطة جديدة تسعى إلى احتكار أدوات الحكم والقرار وبين معارضة مشتتة، لا يوحد بينها إلا الإصرار على المقاومة بوسائل سلمية وديمقراطية لا تزال محدودة التأثير.

 

المساهمون