على الرغم من الاستقرار الأمني الكبير الذي تشهده محافظات ومدن شمال العراق وغربه، إلا أن فصائل "الحشد الشعبي" لا تزال ترفض الانسحاب من المناطق السكنية والبلدات المأهولة بالسكّان، مثل الموصل وتكريت والرمادي والفلوجة ومناطق أخرى كثيرة.
ولا يحول انتشار وحدات الجيش العراقي والشرطة في تلك المدن دون مواصلة هذه الفصائل الوجود في مقراتها التي تعتمد غالباً على أبنية مؤسسات جرى احتلالها ومنازل استولت عليها.
ويقول ساسة ومسؤولون عراقيون إن دوافع سياسية وأخرى تجارية واقتصادية تقف خلف ذلك، ويرى آخرون أن وجود فصائل "الحشد" يرتبط بملفات أكثر تعقيداً، من بينها التغيير الديمغرافي، كما يحصل في سهل نينوى ذي الأغلبية العربية المسيحية، وبلدة جرف الصخر، شمال محافظة بابل، التي يسكنها العرب السنة. في المقابل، يبرر قادة من "الحشد الشعبي" وجود عناصر الفصائل المسلحة بأنه جزء من المهمات الأمنية المناطة بها.
يرى مسؤولون وسياسيون أن وجود فصائل "الحشد" يرتبط بملفات أبعد من المصالح التجارية، من بينها التغيير الديمغرافي
وقبل تشكيل الحكومة العراقية الحالية برئاسة محمد شيّاع السوداني (نالت الثقة في أكتوبر/ تشرين الأول 2022)، فإن إخراج فصائل "الحشد الشعبي" من المدن المحررة ووقف عسكرة المجتمع وإنهاء صفحة المدن منزوعة السكّان التي تحتلها المليشيات وترفض إعادة أهلها، كان أحد أبرز شروط القوى السياسية العربية السنّية مقابل التصويت لحكومة السوداني.
إلا أن القوى السياسية التي تتبع لها الفصائل المسلحة على الأرض لا تزال ترفض خروج قواتها من هذه المدن، فيما تستمر معاناة عشرات آلاف الأسر في مخيمات النزوح والتهجير بسبب منعها من العودة إلى منازلها.
ويأتي ذلك علماً أن قراراً حكومياً كان قد صدر عام 2019، وقضى بإعادة هيكلة "الحشد الشعبي"، ورسم خريطة انتشار جديدة تتضمن نشر قوات الفصائل المسلحة خارج المدن، إلا أن حكومتي عادل عبد المهدي ومصطفى الكاظمي فشلتا في تحقيق أي تقدم في هذا الملف، على الرغم من تأكيدات وشهادات، عادة ما تتصدر وسائل الإعلام العراقية، تفيد بحدوث انتهاكات ومضايقات ضد سكّان محافظات الأنبار ونينوى وديالى وصلاح الدين وكركوك وحزام بغداد وشمال بابل.
مصالح وراء تمسك "الحشد الشعبي" بالمناطق المحررة في العراق
يقول عضو البرلمان العراقي رعد الدهلكي، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "هذا العام هو السادس بعد تحرير كل المدن العراقية من سيطرة تنظيم داعش، لكن لغاية الآن تتمركز الفصائل المسلحة في كثيرٍ من المدن، ولا تستجيب لطلبات الانسحاب منها، رغم الضغط السياسي الذي تمارسه الأحزاب التي تنتمي إلى تلك المدن".
ويلفت الدهلكي إلى أن الفصائل "تمارس أحياناً تحشيداً لها في المدن المحررة بعد كل موجة مطالبات، في تحدٍ واضح للسلطات العراقية والأهالي والنازحين الذين يسكنون الخيام منذ سنوات طويلة". ويعتبر أن هذه "ممارسة تهدف إلى النيل من القانون والقرارات الحكومية السابقة التي صدرت بشأن خروجها من المدن وانتشارها على أطرافها".
الدهلكي: الفصائل تمارس تحشيداً لها في المدن المحررة بعد كل موجة مطالبات بخروجها
ويشير الدهلكي إلى أن "سلاح الفصائل المسلحة غير مرغوب به محلياً في المدن المحررة، لكن الأهالي يخشون من التعبير عن مواقفهم عبر الإعلام، لأن هذه الفصائل تسيطر بشكلٍ كبير وتقوم بترهيب الأهالي في حال ممارسة أي دور إعلامي".
ويعرب النائب العراقي عن أسفه "لأن كثيراً من السياسيين الذي ينتمون للمدن المحتلة من قبل المليشيات يخشون أيضاً الحديث علناً عن هذا الملف، فيما انساق بعضهم إلى التحالف مع المليشيات وأجنحتها السياسية".
ويرى الدهلكي أن "الفصائل المسلحة والمليشيات تعمل على أكثر من هدف في المدن المحررة، فهي تمارس نشاطات سياسية وأمنية واقتصادية، إضافة إلى هدف خطير يحظى بدعمٍ سياسي وخارجي، وهو التغيير الديمغرافي، نظراً لأن سكان بعض البلدات من طيف واحد، وهم العرب السنة، وهو ما يجري في بلدة جرف الصخر بمحافظة بابل، وبلدات أخرى في محافظات صلاح الدين وديالى ونينوى".
كما يتطرق إلى "تحويل الكثير من الأراضي الزراعية إلى منازل لقادة المليشيات والقيام بنشاطات زراعية فيها، من دون علم أصحابها الذين يسكنون خيام النازحين في مناطق متفرقة، من بينها إقليم كردستان، شمال البلاد".
أحد أعضاء حزب "تقدم" الذي يترأسه رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي، يقول لـ"العربي الجديد"، طالباً عدم ذكر اسمه، إن "الحشد الشعبي يرفض التجاوب مع المطالب السياسية والمجتمعية بخروج فصائله من المدن المحررة ونشرها على أطراف المدن".
ويوضح المصدر أن "أبرز هذه الفصائل هي كتائب حزب الله، وحركة النجباء، والإمام علي وعصائب أهل الحق، والتي تملك ما لا يقل عن 50 ألف عنصر مسلح ينتشرون في غالبية المحافظات المحررة، وبواقع 25 مدينة وبلدة".
ويلفت عضو حزب "تقدم" إلى أن "القوى السياسية العربية السنيّة فاتحت رئيس الحكومة محمد شياع السوداني بشأن مطلبها بإخراج هذه الفصائل من المدن المحررة، إلا أنه أحال النقاش من مكتبه إلى طاولة تحالف (إدارة الدولة) الذي يشترك فيه تحالف الإطار التنسيقي الحاكم". ويرى أن لدى هذه الفصائل "مصالح كبيرة" في المدن المحررة، منها "تجارية ومصالح سياسية".
عضو بحزب "تقدم": السوداني أحال مناقشة الملف إلى طاولة تحالف "إدارة الدولة" الذي يشترك فيه "الإطار التنسيقي"
من جهته، يقول محافظ نينوى الأسبق أثيل النجيفي، في اتصال هاتفي مع "العربي الجديد"، إن "هناك أسباباً سياسية وتجارية، إضافة إلى عمليات التغيير الديمغرافي، تجعل الفصائل المسلحة ترفض الانسحاب من المدن المحررة الشمالية والغربية، ولهذا فهي تريد البقاء في تلك المدن لفرض ما تريده من أجندة سياسية وتجارية".
ويُبين النجيفي أن "السبب الأهم لرفض الفصائل المسلحة الانسحاب من المدن المحررة الشمالية والغربية هو وجود مصالح تجارية لا سيما في المناطق الحدودية، أما من الناحية الأمنية، فإن الجيش والشرطة قادران على القيام بواجباتهما بصورة كاملة في تلك المناطق بالإضافة إلى تعاون المواطنين معهما، فلا يوجد أي مبرر لبقاء تلك الفصائل".
ويلفت القيادي في جبهة الإنقاذ العراقية إلى أن "معظم الفصائل المسلحة أصبح لها حلفاء من أهل المنطقة (المدن المحررة الشمالية والغربية) وتستطيع القيام بالدور السياسي، لكنها تريد فرض وجودها العسكري وبقوة السلاح من أجل العامل الاقتصادي لتمويل أعمالها السياسية وغيرها".
مبرّر الخطر الأمني في المناطق منزوعة السكان
في المقابل، يقول القيادي في منظمة "بدر"، عضو مجلس النواب مهدي تقي، لـ"العربي الجديد"، إن "هناك تضخيماً لملف وجود الحشد الشعبي في المدن، وهناك دفع داخلي وخارجي من أجل تشويه صورة الحشد الشعبي إعلامياً، لأن هذه القوات تمارس دورها الأمني كما تمارسه قوات الجيش والشرطة وجهاز مكافحة الإرهاب، ولديها تقدم أمني واضح في مطاردة عناصر داعش وتثبيت الاستقرار".
أثيل النجيفي: السبب الأهم لرفض الفصائل المسلحة الانسحاب هو وجود مصالح تجارية
ويعتبر تقي في اتصالٍ مع "العربي الجديد"، أن "ألوية الحشد الشعبي لم تأتها أي تعليمات بالخروج من المدن من قبل القيادة العامة للقوات المسلحة، وأنها ستكون خاضعة لأي أوامر في حال صدورها من قبل رئيس الحكومة محمد السوداني".
أما القيادي في "الحشد الشعبي" محمد البصري، فيلفت إلى أن الحديث عن خروج قوات "الحشد" من المدن "مدفوع سياسياً". ويعتبر البصري في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "بعض المدن التي يسمونها (منزوعة السكان) هي في الحقيقة تمثل خطراً أمنياً، مثل مدينة جرف الصخر، ولا وجود لما يسمى بالتغيير الديمغرافي أو النشاط الاقتصادي"، وفقاً لقوله.
إلى ذلك، يؤكد مدير مركز العراق للدراسات الاستراتيجية غازي فيصل، لـ"العربي الجديد"، أن "عدم خروج الفصائل المسلحة والمليشيات من بعض البلدات والمدن التي تسيطر عليها، يؤدي عادة إلى تأزيم الواقع المجتمعي وزيادة الهوة ما بين أبناء المجتمع العراقي الواحد، فيما يعزز النفس الطائفي، ناهيك عن كون ذلك يسفر عن مزيدٍ من الاحتقان السياسي والمظالم ضد شريحة بعينها". وبرأي فيصل، فإن "حكومة السوداني وعدت وتعهدت بحل هذا الملف أمام القوى السياسية السنية، لكن يبدو أن الضغط السياسي من الطرف الآخر يمارس دوره أيضاً".
وهناك نحو 400 ألف عراقي ممنوعون من العودة إلى مدنهم بقرار من الفصائل المسلحة التي تستولي عليها، وأبرزها مدينة جرف الصخر، شمالي بابل، التي تسيطر عليها مليشيات عدة، أبرزها "كتائب حزب الله" و"النجباء" و"عصائب أهل الحق" و"جند الإمام"، منذ نهاية عام 2014.
كما أن هناك بلدات أخرى مهجورة، أهمها العوجة ويثرب وعزيز بلد وقرى الطوز وقرى مكحول في محافظة صلاح الدين، والعويسات وذراع دجلة وجزء من منطقة الثرثار ومجمع الفوسفات في محافظة الأنبار، وقرى المقدادية وحوض العظيم والسعدية في شمال شرقي محافظة ديالى، وربيعة وقرى سنجار في محافظة نينوى، على مقربة من الحدود مع سورية.