عادة يتكامل نواب الرؤساء في الولايات المتحدة مع الرؤساء، سواء بسبب طبيعة الانتماء الحزبي أو بسبب الكيمياء المشتركة أو لاستغلال منصب "نائب الرئيس" من أجل العبور إلى الرئاسة. تاريخ ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) شاهدٌ على ذلك، وريتشارد نيكسون وجيرالد فورد وجورج بوش الأب كانوا من أبرز اللاعبين في هذا الصدد. لكن، دائماً ما تكون هناك مرة أولى، وليس غريباً أن يكون ذلك في نهايات عهد الرئيس الأميركي الخاسر دونالد ترامب، مع خروج نائبه مايك بنس من ظلاله، رافضاً الانقلاب على نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية التي جرت في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، ومشدّداً على ضرورة الالتزام بالدستور الأميركي، والاعتراف بفوز الرئيس المنتخب جو بايدن. سيُسجّل التاريخ الأميركي أنه في 6 يناير/ كانون الثاني 2021، حين أراد ترامب الانتحار سياسياً على أسوار مبنى "كابيتول هيل"، مقرّ الكونغرس، كان بنس يُنقذ المؤسسات الدستورية الأميركية من أسوأ وضعٍ منذ اعتداءات 11 سبتمبر/ أيلول 2001. في ساعات الحسم، مثل اللحظات الأخيرة قبل بدء جلسة الكونغرس للمصادقة على فوز بايدن في الرئاسيات، برز دور بنس على نحو غير مسبوق. ففي ظلّ تحريض ترامب أنصاره للتوجه إلى الكونغرس ثم قيامهم باقتحامه، وما استتبع ذلك من سقوط قتلى وجرحى، لم يشأ بنس التراجع أمام العنف، متمسكاً بالدستور، على الرغم من الانتقادات المتلاحقة من ترامب له، ما جعل بعض أنصاره يصرخون خلال اقتحام الكونغرس "أين مايك بنس؟" بينما دعا آخرون إلى "شنقه". واختصر يوم الأربعاء الماضي الفوضوي في واشنطن كل تباينات وانقسامات ترامب وبنس. الأول لم تشهد أميركا رئيساً مثله ولن تشهد، أقلّه في المستقبل القريب، والثاني أظهر تمسّكه بالنظام الأميركي كمحافظٍ تقليدي لم تهزّه شعبوية ترامب. عملياً، يمكن العودة إلى يوم الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي واليوم التالي لها. في اليوم الأول خرج ترامب، بعد صدور نتائج التصويت الميداني، معلناً انتصاره ومبشّراً بولاية ثانية له، بعدها بدأت تظهر نتائج الأصوات الواردة بالبريد، ويضمحلّ معها تقدّم ترامب. في اليوم الثاني خرج ترامب إلى الإعلام بوجه متجهّم وحزين متشبثاً بفوزه، لكن بنس كان أكثر هدوءاً، فشكر الـ"60 مليون ناخب" الذين اختاروا ترامب وبنس، من دون أن يتطرّق إلى أي معركة قانونية مستقبلية.
لم يطمئن ترامب على بنس وأسرته حين كانوا في الكونغرس
بدأ التمايز يترسّخ بين الرجلين: شنّ ترامب حملات قانونية عدة لعكس نتائج الانتخابات، في مقابل صمت بنس، تخلله شكر متجدد للناخبين في كل إطلالة إعلامية. ومع خسارة ترامب كل أوراقه القانونية، خصوصاً ادّعاءاته بحصول تزوير في الانتخابات، لم يعد أمامه سوى ورقتين: بنس والجمهور. عشية الثلاثاء الماضي، تعرّض بنس لضغوط شديدة من ترامب لإلغاء نتائج الانتخابات، خلال اجتماع استمر لساعات في المكتب البيضاوي. وقال مصدر مطّلع لقناة "سي أن أن" إن ترامب منع رئيس موظفي نائب الرئيس، مارك شورت، من دخول الجناح الغربي، بل حذّر بنس مراراً وتكراراً بـ"تهديدات مستترة"، ومن أنه سيتعرض لعواقب سياسية كبيرة إذا رفض التعاون. وقال المصدر "الرسالة كانت واضحة جداً". بعد الاجتماع كان جليّاً بالنسبة لترامب أن بنس لن يجاريه في الانقلاب الداخلي، فحفّز أنصاره أكثر للتدفق إلى العاصمة، يوم الأربعاء. بعدها وقع الصدام في الكونغرس. اكتفى ترامب بدعوة أنصاره إلى الالتزام بالسلمية ثم العودة إلى منازلهم من دون نسيان هذا اليوم. في المقابل تحرّك بنس، فتحدث عبر الهاتف مع القائم بأعمال وزير الدفاع كريستوفر ميلر، وحثّ على استجابة أسرع من الحرس الوطني للانتشار في واشنطن، بعد الإحباط واسع النطاق بين المشرّعين بشأن عدم الاستجابة. مع العلم أنه أثناء الفوضى في الكونغرس، لم يتصل ترامب أبداً للاطمئنان على سلامة بنس، الذي كان مع زوجته كارين وابنته تشارلوت في "كابيتول هيل". وأفاد مصدر مُقرّب من بنس لـ"سي أن أن" بأن ترامب وكبار مسؤولي البيت الأبيض لم يبذلوا جهداً، للتأكد من وجود بنس وأفراد من أسرته داخل مقرّ الكونغرس. وسأل المصدر: "هل كان قلقاً (ترامب) على الإطلاق من أن الغوغاء الغاضبين الذين أمرهم بالسير إلى كابيتول قد يؤذون نائب الرئيس أو عائلته؟". يبدي المقرّبون من بنس اعتقادهم بأنه يتم وضعه كـ "كبش فداء" لتحمّل اللوم داخل دائرة ترامب، بعد أن رفض الانصياع لمطالب الرئيس. ومع أنه حظي بدعم العديد من الجمهوريين، أبرزهم ليندزي غراهام وتيد كروز، عدا أركان الحزب الديمقراطي، إلا أن بنس رفض تأييد عزل ترامب وفقاً للمادة الـ25 من الدستور، محافظاً على مسافة متوازنة بين الحزبين من جهة، ومؤكداً احترامه الدستور من جهة ثانية. ولم يكتفِ بنس بذلك، بل ذكر مصدر مقرّب منه أنه يخطط لحضور حفل تنصيب بايدن في 20 يناير الحالي. ومع ذلك، لم تتم دعوته رسمياً بعد، علماً أن ابنته تشارلوت هنّأت بايدن ونائبة الرئيس المنتخب كامالا هاريس، أول من أمس الخميس.
صرخ أنصار ترامب خلال اقتحام الكونغرس "أين مايك بنس؟"
ويرى المستشار الجمهوري ألكيس كونانت، في حديثٍ لصحيفة "وول ستريت جورنال"، أن "أصل المشكلة يعود لكون بنس كان من أكثر الموالين لترامب طيلة السنوات الأربع الماضية، حتى إن مستقبله كان مرتبطاً به". وذكرت الصحيفة أن "بنس كان موالياً لترامب حتى الرمق الأخير، لكنه في نهاية اليوم رجل مؤسساتي ومؤمن بالدستور". وأضافت أن بنس عبّر عن خيبته من ترامب لسيناتور أوكلاهوما الجمهوري، جيم إينهوف. وقال "بعد كل ما فعلته له، يحاربني". ويشير بنس في ذلك إلى دفاعه عن ترامب في التحقيقات الروسية ومحاولة عزله وملف كورونا، وهي محطات أساسية طبعت ولاية ترامب. وأشار إينهوف إلى أنها "المرة الأولى التي أجد فيها بنس غاضباً". في المقابل، كشف موقع "بزنس إنسايدر" أن بنس قال لترامب قبل بدء جلس الكونغرس إن "قسمي بدعم الدستور والدفاع عنه يمنعني من المطالبة بسلطة من جانب واحد لتحديد الأصوات الانتخابية التي يجب احتسابها والتي لا يجب احتسابها". هنا غضب ترامب من بنس وردّ "لا أريد أن أكون صديقك، أريدك أن تكون نائباً للرئيس". بدوره، نقل موقع قناة "أي بي سي" عن المتحدث السابق لبنس، جون تومبسون، قوله إن "بنس اكتفى من ترامب"، مضيفاً أنه "كان شخصاً مخلصاً، وترامب كان يطلب منه خرق القانون والتصرّف خارج واجباته الدستورية. أعتقد أن الأمر وصل إلى نقطة حاسمة وقال بنس: لقد اكتفيت".