تكبر الفجوة أكثر بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والفرنسيين، رغم غزارة خطاباته المتلفزة الموجهة للشعب منذ وصوله إلى الإليزيه في عام 2017. وفي آخر خطاب له، أول من أمس الإثنين، قاطع الفرنسيون بالقرع على الطناجر والتظاهرات، كلمة الرئيس "الذي لا يستمع إلينا"، رغم توقيت الذروة للخطاب الذي أراد منه ماكرون، طيّ صفحة قانون إصلاح التقاعد المرفوض من أغلبية الفرنسيين، للمضي قدماً بـ"إصلاحات جديدة"، فيما تراه المعارضة، بجناحيها اليساري واليميني المتطرف، "منفصلاً عن الواقع".
وعلى حساب رصيده الشعبي المتهاوي، وقّع الرئيس الفرنسي السبت الماضي، قانون إصلاح نظام التقاعد، الذي يرفع سنّ التقاعد في فرنسا من 62 إلى 64 عاماً، بعدما تخطى آخر إمكانية للعرقلة، بمصادقة المجلس الدستوري على القانون، ورفض المجلس طلباً قدّمه اليسار السياسي لعرضه على الاستفتاء. ويدرك ماكرون خطورة مغامرته، خصوصاً مع انقطاع الحوار مع النقابات التي رفضت عرضه للقائها أمس الثلاثاء. بدورها، تدرك النقابات أن عرض اللقاء بمثابة "فخّ"، بعدما مضى الرئيس بمشروعه الذي ظلّ يعدّ أساس أجندته السياسية منذ وصوله إلى السلطة، وتأخر تمريره بعد حراك "السترات الصفراء" عام 2018، ثم انتشار كورونا، ثم الحملة الرئاسية الثانية لزعيم حزب "النهضة" للفوز برئاسيات 2022.
محاولة للتهدئة حتى العيد الوطني
وعلى وقع الامتعاض الشعبي الكبير، والذي عبّر عنه الكثير من الفرنسيين بقرع الطناجر والنزول إلى الشوارع خلال إلقائه كلمته، وهو تحدٍ مرشح لبلوغ ذروته في يوم عيد العمّال بالأول من مايو/أيار المقبل بحسب دعوة النقابات، ألقى ماكرون كلمة إلى الشعب، أقرّ فيها بأن قانون إصلاح التقاعد رُفض شعبياً، لكنه "أساسي وضروري" لرفع الإنتاجية في فرنسا، محدّداً مائة يوم من التهدئة (حتى عيد الباستيل - اليوم الوطني الفرنسي في 14 يوليو/تموز المقبل)، على أن يخرج في جولات ميدانية خلال الأيام المقبلة لبحث موضوع التربية.
ربط ماكرون بين قانون التقاعد و"استقلالية أوروبا"
ولم يستمر خطاب ماكرون أكثر من 15 دقيقة، وربط فيه مراراً بين قانون التقاعد و"استقلالية أوروبا"، بعدما ظلّت فرنسا تتمتع بأدنى سنّ للتقاعد مقارنة مع دول الاتحاد الأوروبي الأخرى. ومن المعروف "هوس" ماكرون بأوروبا، وجاء اعتباره الإثنين أن القانون أساسي لاستقلالية أوروبا عن "القوى الخارجية"، كصدى لتصريح آخر أثار جدلاً حين رأى أن على القارة تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة، محذراً من الانجرار إلى أزمة تايوان بـ"إيقاع أميركي وردّ فعل صيني مبالغ فيه".
لكن تأطير مسألة التقاعد "أوروبياً" لن يخدم الرئيس الفرنسي على المدى القريب، ولا تأكيده تفهمه "غضب" الشعب، الذي ترى غالبيته أن الرئيس فرض القانون من الأعلى، من دون أي اعتبار للرغبة الشعبية، أو لإمكانية للحوار. وإذ أعرب ماكرون عن "أسفه" لعدم حصول توافق حول المشروع، أكد أن بابه "لا يزال مفتوحاً" للحوار مع النقابات.
وجاءت كلمة ماكرون، محاولة لتهدئة الفرنسيين، من دون أن يعني ذلك أنه أفلت من تداعيات الأزمة، التي لا يمكن حصرها بإقرار القانون، بل تتخطى ذلك للتحذير في الإعلام الفرنسي من "أزمة ديمقراطية" ورئيس "ديكتاتوري" و"ملكية رئاسية"، بعدما استخدم ماكرون صلاحيات الحكومة الاستثنائية (المادة 49.3 من الدستور)، لتمرير القانون من دون تصويت البرلمان، في وقت لا يملك فيه هو وحكومته أغلبية مريحة في الجمعية الوطنية. كما واصل ماكرون التحدي، حين لم ينتظر مهلة الأسبوعين للتوقيع على القانون بعد مصادقة المجلس الدستوري، بل وقّع القانون لينشر في الجريدة الرسمية غداة المصادقة، مهمّشاً النقابات التي دعته للتروي، ما يجعل مهمة التهدئة شاقة.
واعتبر ماكرون أن "العمل الإضافي يعني إنتاج ثروات أكثر لبلادنا"، معلناً عزمه البدء في مفاوضات خلال الأشهر المقبلة حول "مسائل أساسية" تدور في فلك "العدالة الاجتماعية"، مثل تحسين مداخيل الموظفين والدفع بالوظائف المهنية قدماً، وتقاسم أفضل للثروات، وتحسين شروط العمل.
خريطة طريق للحكومة الفرنسية
وبينما يتوقع أن تقدم رئيسة الحكومة إليزابيث بورن الأسبوع المقبل خريطة طريق مفصلة لهذه الأجندة، يخاطر الرئيس بمواجهة انسداد في وجهه في البرلمان، حيث يحتاج إلى دعم اليمين المعتدل ("الجمهوريون")، للمضي بأي مشروع، وهو ما قد يفاقمه نجاح اختبار حشد النقابات في الأول من مايو، ودفع المعارضة لضرورة إجراء استفتاء على القانون. ولا يزال على المجلس الدستوري أن يبتّ في 3 مايو المقبل بطلب آخر قدّمه اليمين المتطرف بزعامة مارين لوبان (حزب التجمع الوطني) لإجراء استفتاء على القانون.
تدرك النقابات أن عليها الجلوس مع الرئيس في نهاية المطاف لبحث تشريع جديد لتحسين شروط العمل والأجور
وكان ماكرون وجد صعوبة في إقناع جميع نواب اليمين المعتدل بدعم الإصلاح، ما جعله يختار الطريق الأقصر عبر تمريره من خارج البرلمان، ما أضرّ كثيراً بسمعته السياسية، ويجعل وعوده المقبلة في مهب الريح إذا لم يتمكن من تأمين الدعم البرلماني.
وليس معروفاً أيضاً مدى استجابة النقابات لدعوة ماكرون إلى الحوار، بعدما رفضت عرض لقائه أمس الثلاثاء. إذ إنه بينما تعهدت النقابات التصعيد في الشارع بعيد العمال، إلا أنها تدرك أن عليها الجلوس مع الرئيس في نهاية المطاف لبحث تشريع جديد لتحسين شروط العمل والأجور، وآخر لتحسين التدريب المهني للشباب للتميّز في سوق العمل. ويأتي ذلك مع وصول زعيمة جديدة إلى الاتحاد العمالي العام (سي جي تي – الكونفدرالية العامة للشغل)، هي صوفيه بينيه، والتي تعد نسخة أكثر تشدداً من سلفها الأمين العام السابق فيليب مارتينيز. ودعت بينيه إلى "مدّ شعبي تاريخي" في الأول من مايو، متسائلة "على أي كوكب يعيش ماكرون؟"، بعد كلمته، فيما اعتبر الأمين العام للاتحاد الديمقراطي الفرنسي للعمل (سي دي أف تي) لوران برجيه أنه لا يمكن تخطي أزمة قانون التقاعد، آملاً "أن نحقق في الأول من مايو نجاحاً مدوياً".
هكذا، رغم تمريره القانون، يجد الرئيس الفرنسي نفسه محاصراً بـ"انتصار قصير الأمد" (وصفه الإعلام الفرنسي بالانتصار البيروسي نسبة للملك الإغريقي بيروس الذي هزم الجيش الروماني لكن خسر معظم جيشه)، في مواجهة معارضة شرسة، ووسط تحرك سياسي للفريق الرئاسي يبقى في إطار "المقامرة" التي قد تكلّف حزب "النهضة" وخطّه الوسطي كما يوصف، بخسارة الانتخابات المقبلة في ظلّ فوضى المشهد السياسي والاجتماعي في البلاد والذي يمنح من دون شكّ زخماً قوياً لـ"المتطرفين".