ماكرون يراهن على خلافات اليسار الفرنسي

10 يوليو 2024
ميلانشون في باريس احتفالاً بالفوز، 7 يوليو 2024 (سمير الدومي/فرانس برس)
+ الخط -

ينتظر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، انقسامات اليسار الفرنسي أو ما يعرف بالجبهة الشعبية الجديدة، وهي تحالف اليسار بكل أطيافه والبيئيين، والذي حلّ أولاً في الدورة الثانية بالانتخابات التشريعية، يوم الأحد الماضي، من دون الحصول على الأغلبية المطلقة، ليبني على الشيء مقتضاه، مع إبقائه على رئيس الحكومة غابريال أتال، من جناح حزبه "النهضة"، بانتظار تبلور صيغة الحكم خلال الفترة المقبلة. ويرى الفرنسيون، أن ماكرون لا يزال يراوغ، بعدما لم يفهموا أصلاً دعوته إلى انتخابات مبكرة إثر فوز اليمين المتطرف الفرنسي بصدارة نتائج الانتخابات الأوروبية، أواخر الشهر الماضي.

اليسار الفرنسي يريد أن يحكم

في هذه الأثناء، يؤكد تحالف اليسار الفرنسي أنه يريد تأليف الحكومة في فرنسا، التي منحت فيها الجمهورية الخامسة (1958)، صلاحيات واسعة للرئيس، وعزّزت فيها سلطة الرئاسة على حساب البرلمان والحكومة. ويضم هذا التحالف، معضلة كبيرة، اسمها حزب فرنسا الأبية، أو حزب فرنسا غير الخاضعة، الذي يمثّل اليسار الراديكالي، أو اليسار الجذري كما يسميه البعض، برئاسة جان لوك ميلانشون، الذي ربما قد يكون مثل جوردان بارديلا، رئيس حزب التجمع الوطني عن اليمين المتطرف، الذي لا يريد أي طيف سياسي في البلاد، ما عداه، رؤيته رئيساً للحكومة، حتى من داخل اليسار نفسه، خصوصاً الاشتراكيين.

قد يتجه اليسار إلى التصويت بين نوابه على مرشحه للحكومة

ويرى فريق ماكرون "الوسطي"، ضمن تحالف "معاً من أجل الجمهورية" الذي شارك بصفته تحالفاً عموده الأساسي حزب النهضة في الانتخابات التشريعية (وعمل مع اليساريين لصد اليمين المتطرف الذي حلّ أولاً في الدورة الأولى عبر انسحاب مرشحين له بالدورة الثانية)، أن تحالف اليسار الفرنسي قد لا يكون متوجباً منحه رئاسة الحكومة، لأن نتائج الانتخابات لم تعطه الأغلبية المطلقة، لكنه يعتبر كما يعلن في الإعلام، أنه يجب إعطاء اليسار دوراً في المرحلة المقبلة، فيما تسير فرنسا نحو "منطقة غامضة"، بعد الانتخابات، حيث برزت 3 كتل كبيرة في البرلمان، هي اليمين المتطرف وتحالف اليسار ووسطيو ماكرون، من دون أغلبية واضحة (البرلمان الفرنسي مؤلف من 577 مقعداً، والأغلبية المطلقة هي 289 مقعداً، بينما حصل اليسار على حوالي 182 مقعداً، يليه تحالف ماكرون ثم اليمين المتطرف).

والتقى قادة تحالف اليسار الفرنسي أو الجبهة الشعبية الجديدة، خلال اليومين الماضيين، مرات عدة منذ صدور نتائج انتخابات مساء الأحد، والتي شكّلت صدمة في البلاد، بعدما كانت استطلاعات الرأي تمنح اليمين المتطرف الصدارة. ويحاول هؤلاء التوصل إلى اتفاق، على اسم مرشحهم لرئاسة الحكومة، وكيفية مقاربتهم للحكم من دون أغلبية، وبطريقة موحدة. ويعتبر ميلانشون، الأكثر تشدداً في هذه المسألة، أن على حكومة للجبهة فرض برنامجها بالكامل، والذي يتضمن رفع الحدّ الأدنى للأجور، وإعادة خفض سنّ التقاعد إلى 60 عاماً (من 65) وخفض أسعار المحروقات وبعض المواد الغذائية. وقال ميلانشون عبر شبكة "تي أف 1" مساء أول من أمس الاثنين، إن البرنامج الحكومي "يجب ألا يكون مقسماً إلى قطع صغيرة"، رافضاً تشكيل حكومة ائتلافية مع فِرَقٍ من خارج الجبهة. وأضاف ميلانشون: "هذا البلد عانى الكثير من كذب زعمائه الذين وعدوا ببعض الأمور ولم يفوا بها"، ما يجبر الجبهة على الوفاء بتعهداتها.

لكن للوسطيين أو تيار ماكرون الذي يصف نفسه بالوسطي، رأي آخر، إذ يحاجج بأن الجبهة اليسارية لم تحصل على الأغلبية المريحة، وأن عليها أن تنقسم، ليتمكن "معتدلوها" من المشاركة في الحكومة، عبر تشكيل ائتلاف حكومي أوسع مؤلف من يسار الوسط والبيئيين والوسطيين ويمين الوسط، علماً أن اليمين التقليدي لم يحصل سوى على 68 مقعداً في البرلمان الجديد، حتى إنها ليست كلّها من حصة حزب الجمهوريين.

ميلانشون "المشكلة" أو "الحلّ"

وفي هذا السياق، قال وزير الخارجية من تيار ماكرون، ستيفان سيجورنيه، مساء الاثنين، إن "المعسكر الوسطي جاهز للتفاوض مع كل الأحزاب التي تتقاسم قيمنا الجمهورية"، مضيفاً أن "شروطنا المسبقة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، لكن خطوطنا الحمراء معروفة"، معدداً الدعم لأوكرانيا والاتحاد الأوروبي، ومواجهة العنصرية ومعاداة السامية وتسريع مرحلة الانتقال إلى "اقتصاد أخضر"، والحفاظ على الجهود لدعم موقع فرنسا بوصفها جهة استثمارية. وهذا الأمر، بالنسبة لسيجورنيه، "يزيح ميلانشون وفرنسا الأبية من المعادلة".

يعدّ ميلانشون منتقداً شرساً لسياسات ماكرون، ومعه اليمين المتطرف ولو بوجهة نظر معاكسة

وربما يكون هذا نهج جميع الحكومات التي وصلت إلى فرنسا منذ عهد الرئيس اليميني نيكولا ساركوزي، مع انفتاح كبير وتعويل أكبر في عهد فرانسوا هولاند، على الاستثمارات الخليجية، ثم مجيء ماكرون إلى السلطة في 2017، حيث تبنى سياسة اقتصادية فائقة الليبرالية، جاءت معها أزمة كورونا والحرب الروسية على أوكرانيا، لتهدّد المكتسبات الاجتماعية للفرنسيين، الذين رأوا إنتاجهم الصناعي "يصنع" في الخارج، والكثير من الضمانات ضمن دولة "الرفاهية" تغرق في تفاصيل السياسات التي تبناها ماكرون، تلميذ مصرف روتشيلد.

ويعدّ ميلانشون منتقداً شرساً لسياسات ماكرون، ومعه اليمين المتطرف ولو بوجهة نظر معاكسة، حيث يعوّل على غضب "الأرياف"، ولا سيما مع تواصل الأزمة الأوكرانية. فضلاً عن ذلك، قاد ميلانشون خلال الأشهر الماضية، حملة شرسة ضد إسرائيل بعد عدوانها على قطاع غزة، وتعهد أخيراً بالاعتراف بدولة فلسطين، إذا ما وصل فريقه إلى رئاسة الحكومة.

وحتى الآن، يرفض أوليفييه فور، زعيم الحزب الاشتراكي، الذي حلّ ثانياً خلف "فرنسا الأبية" بعدد المقاعد التي فاز بها ضمن تحالف اليسار الفرنسي بالبرلمان الجديد، محاولات تيار ماكرون شرذمة اليساريين، علماً أن فور لعب دوراً كبيراً، في إعادة رصّ صفوف "الاشتراكي" بعد ما أصابه من وهن في عهد فرانسوا هولاند، ولو أن رافاييل غلوكسمان، النائب عن الحزب في البرلمان الأوروبي، قد استحوذ على الكثير من الضجة الإعلامية أخيراً.

وقال أولييفيه فور، لشبكة "أل أس آي" الفرنسية، أول من أمس: "إن الناخبين رفضوا الحكومة الحالية، 3 مرات، في الانتخابات الأوروبية، وفي دورتين من الانتخابات التشريعية. الشعب الفرنسي، كان واضحاً بأنه لا يريد بعد الآن أياً من هذه السياسات التي استمرت 7 أعوام". ولكن داخل تحالف اليسار، لا يبدو أن هناك اتفاقاً بعد على الاسم الذي يمكن أن يحلّ محل رئيس الحكومة غابريال أتال، الذي قدّم استقالته الاثنين لماكرون، لكن الرئيس أبقاه لتصريف الأعمال. ويأتي ذلك خصوصاً لأن تيار ميلانشون يريد اسماً من داخل حزب فرنسا الأبية، على أساس أن هذا الحزب هو الذي حصل على أكبر عدد من المقاعد ضمن تحالف اليسار.

ولم يستبعد ميلانشون، الذي حلّ ثالثاً في انتخابات الرئاسة في 2022 خلف ماكرون وزعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان، أن يكون هو رئيس الحكومة المقبل، لكنه قال أيضاً إنه ليس بالضرورة أن يكون هو. وقال حول ذلك: "أنا جزء من الحل، ولست المشكلة، سنتحدث عن ذلك بيننا، ونحن لدينا داخل الحزب عدد من المرشحين"، مسمياً مانويل بومبار، وماتيلد بانو، وكليمانس غيت.

لكن زعماء التحالف اليساري، يرون أن ميلانشون شخصية جدلية و"تقسيمية" (وهي عبارة استخدمها أوليفييه فور لوصف ميلانشون)، ولا يقرّون بأن على رئيس الحكومة المقبل أن يكون من "فرنسا الأبية". وبينما لم يطرحوا أي اسم بعد، لكنّ عدداً من الأسماء يتم تداولها، مثل فور، وغلوكسمان، وزعيمة الخضر مارين توندولييه (الأخيرة قالت في حديث إذاعي أخيراً إنها لا تمانع أن يكون رئيس الحكومة من حزب فرنسا الأبية أو الخضر أو الاشتراكيين). وقالت وجوه في تحالف اليسار، لوكالة رويترز، شرط عدم الإفصاح عن اسمها: "ميلانشون فعلاً مشكلة". وبحسب صحيفة لوموند الفرنسية، طرح قادة تحالف الجبهة الشعبية الجديدة، أمس الثلاثاء، أن يتم التصويت من نواب التحالف للخروج باسم مرشح الحكومة، والخروج من حالة المراوحة.