لم يكن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ينتظر أن تنفجر الأزمة الأوكرانية في هذا الوقت، وهو على بعد خمسة أسابيع من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، التي سيخوضها من أجل الفوز بولاية ثانية، في منافسة ذات طبيعة خاصة مع ثلاثة مرشحين، فاليري بيكريس من اليمين التقليدي، وكل من مارين لوبان وإريك زيمور من اليمين المتطرف.
حسابات ماكرون: سوء تقدير لخطوة بوتين التالية
داهمت التطورات الأوكرانية ماكرون وهو لا يزال يلملم شظايا الوضع في مالي، الذي انفجر في وجهه بعدما طلب الحكم العسكري في هذه الدولة الأفريقية من فرنسا أن تسحب قواتها من أراضيها على نحو عاجل، بعد حوالي تسعة أعوام من عملية عسكرية لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل، وبدء مالي الاعتماد على مرتزقة "فاغنر" الروسية.
وفي كل الأحوال، لم يكن في حسابات الرئيس الفرنسي أن يقوم صديقه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالخطوة التي أقدم عليها الاثنين الماضي بإعلان اعتراف روسيا بالجمهوريتين الانفصاليتين لوغانسك ودونيتسك، في شرق أوكرانيا، ثم إطلاق عملية عسكرية موسعة أمس الخميس.
داهمت التطورات الأوكرانية ماكرون وهو لا يزال يلملم شظايا الوضع في مالي
وأعلن ماكرون، أمس، أن بلاده تدين بشدة قرار روسيا شنّ الحرب، داعياً موسكو إلى "إنهاء عملياتها العسكرية فوراً". وكتب الرئيس الفرنسي على "تويتر": "فرنسا تتضامن مع أوكرانيا وتقف إلى جانب الأوكرانيين، وتعمل مع شركائها وحلفائها لإنهاء الحرب".
موسكو تتلاعب بالوساطة الفرنسية
وحزّ في نفس ماكرون أن بوتين لم يعلمه بنيته الذهاب نحو هذا الخيار في الوقت الذي كان الرئيس الفرنسي يؤدي دور الوسيط. وقبل حدوث الغزو الموسع، ومن أجل تجريب محاولة أخيرة، ضرب وزير خارجيته جان إيف لودريان موعداً مع نظيره الروسي سيرغي لافروف يوم الخامس والعشرين من شهر فبراير/شباط الحالي (اليوم الجمعة)، في بروكسل، ولكن تبين أن موسكو لم تعر وساطة باريس اهتماماً فعلياً.
وكشف لودريان أن لافروف وافق على اللقاء ومبدأ الوساطة في مكالمة هاتفية، بالتزامن مع المؤتمر الصحافي الذي أعلن فيه بوتين الاعتراف بالجمهوريتين الانفصاليتين، ولم يعلمه بقرار موسكو.
تراجع لودريان عن لقاء لافروف، وانتقلت فرنسا إلى جبهة إعلان العقوبات على روسيا بحكم موقعها في رئاسة الاتحاد الأوروبي، ومنها جرى الإعلان عن حزمة العقوبات الأوروبية الأولى ضد روسيا، لتضع نهاية لمرحلة طويلة من أوهام ماكرون ورهاناته على بوتين.
وجاء ذلك بعدما كاد الرئيس الفرنسي يصدق أنه يمكنه أن يؤدي دور الوسيط بين بوتين والغرب. وشاركه هذا الوهم المستشار الألماني أولاف شولتز، الذي قصد موسكو بعد زيارته الولايات المتحدة، وكان آخر القادة الغربيين الذين التقاهم الرئيس الروسي، قبل أن يفصح عن قراره الذي اتخذه منذ عدة أشهر.
وما كان بوتين ليقبل وساطة ماكرون وشولتز إلا من باب محاولة شقّ وحدة الصف الغربي، وقد جرّب ذلك مرات عدّة في السابق. وبعدما فشل في ابتزاز الولايات المتحدة، أراد الرئيس الروسي الإيحاء، خلال الشهرين الماضيين، بأنه يقوم بمحاولة أخيرة لإحياء "اتفاقية مينسك" من خلال وساطة راعيين أساسيين لها، هما فرنسا وألمانيا.
وعلى وجه التحديد، في الأسابيع الأخيرة، حاول ماكرون أن يميّز نفسه من خلال التأكيد على رغبته في السعي لإيجاد حلّ تفاوضي للأزمة مع موسكو. وعلى عكس سلوكه السابق القائم على التشاور مع شركائه الغربيين واحترام وحدة الموقف عبر المحيط الأطلسي، ظهر الرئيس الفرنسي كأنه متسابق وحيد، ما أثار الشك لدى شركائه في أنه يميل في اتجاه موسكو.
وثمّة ما أغرى ماكرون في هذه اللعبة التي جربها أحد أسلافه، الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، عندما توسط لإنهاء الحرب الروسية الجورجية عام 2008. وبعد ذلك، كان الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند الوسيط الرئيسي في اتفاقيات مينسك إلى جانب المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، ما خلق حافزاً لماكرون من أجل تنفيذ اتفاقيات مينسك، أو للعمل على حل آخر للنزاع الأوكراني.
قبل بوتين وساطة ماكرون وشولتز، من باب محاولة شقّ وحدة الصف الغربي
وسعى ماكرون إلى ذلك مدفوعاً بقناعة أن روسيا تثق بدوره وسيطاً أكثر من ثقتها بالقوى الغربية الأخرى، بينما لا تعارض الحكومة الأوكرانية هذه المهمة، ومنحته تفويضاً قوياً.
الرصيد الذي يتمتع به الرئيس الفرنسي لدى نظيره الروسي ليس بالقليل، حيث بذل ماكرون جهوداً لإعادة روسيا إلى مجموعة السبع (الولايات المتحدة، كندا، اليابان، ألمانيا، فرنسا، بريطانيا وإيطاليا)، بعدما جمّدت عضويتها (كانت مجموعة الثماني) بعد ضم موسكو شبه جزيرة القرم في فبراير/شباط 2014. ومثله فعل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي انفتح على الحوار مع بوتين، ودعاه إلى تغيير سياسته.
التهديدات لأوروبا: وجهة نظر فرنسية
وتقوم وجهة نظر ماكرون على أن التهديد الحقيقي لأوروبا الغربية لا يأتي من موسكو في الشرق، ولكن من الخاصرة الجنوبية. فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لم يعد خطر الشرق من نفس الطبيعة السابقة، وبات تهديد الإرهاب لحلف شمال الأطلسي (الناتو) يأتي من الجنوب، في حين أن الحلف غير مستعد لذلك.
ووجه ماكرون نقداً استفزازياً لـ"الناتو" إلى حد أنه اعتبره في حالة "موت دماغي"، وعكس ذلك انطباعاً بأن أروقة قصر الرئاسة سوف تشهد المزيد من التغييرات الجيوسياسية في الأفق.
وفي ظلّ انقسام العالم بسرعة إلى كتلتين من القوى العظمى، أميركية وصينية، أعلن ماكرون أنه لا يرغب أن تُجبر أوروبا على اختيار إحداهما. وتساءل أمام السلك الدبلوماسي الفرنسي منذ عامين: "هل نقرر أن نصبح حلفاء صغاراً لطرف أو لآخر، أم قليلاً من أحدهما وقليلاً من الآخر، أم نقرر أن نكون جزءاً من اللعبة ونمارس تأثيرنا؟". واستدرك بأن الولايات المتحدة لا تزال حليفاً، إلا أنها لم تعد حليفاً موثوقاً.
المستشارة ميركل لم توافق على وصف الرئيس الفرنسي لـ"الأطلسي"، وقالت: "لا أعتقد أن مثل هذا الحكم الشامل مناسب". وعلّق صاحب ثاني أكبر جيش في الحلف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بقوله إنه "يجب التحقق من موت ماكرون العقلي" قبل إلقاء الحجارة على "الناتو". ولكن ماكرون أراد الاستفزاز ونجح، على الرغم من أن الأمر لم يتم بالطريقة التي كان يأملها، وتضررت علاقات فرنسا مع ألمانيا بسبب اعتماد برلين الغريزي على حلف شمال الأطلسي.
ومن وجهة نظر خبراء أوروبيين، فإن "الناتو" يعمل على نحو جيّد على صعيد التعاون العسكري، لكن لا توجد رؤية سياسية ولا استراتيجية، وبات يفتقر إلى مهمة واضحة منذ انتهاء الحرب الباردة. وعليه، فإن الجيوش دائماً في خدمة السياسة وليس العكس، وهذه هي الطريقة التي يجب أن تفسّر بها رؤية ماكرون، التي لقيت استقبالاً سيئاً في برلين، لكنها، في أوكرانيا ودول الاتحاد السوفييتي السابق الأخرى، دقت أجراس الإنذار بصوت أعلى.
والنقاش الذي دار في قصر الإليزيه خلال ولاية ترامب، وتواصل بعد وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، يقوم على قاعدة أن أوروبا تعيش مرحلة خمول ما بعد الحرب الباردة، ولا تزال تتخذ نفس الأعداء والأصدقاء رغم تغير المعادلات. وعلى سبيل المثال، جاء انهيار "معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى" بعد انسحاب واشنطن منها في أغسطس/آب 2019، الأمر الذي أثر بشكل مباشر على الأمن الأوروبي.
وكشف ذلك عن خلل في أن أوروبا تركت قضية السلاح تحت سيطرة المعاهدات التي سبقت نهاية الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وروسيا. وهذا يتعارض مع مشروع أوروبا الذي يفكر القادة الأوروبيون الجدد ببنائه.
تقوم وجهة نظر ماكرون على أن التهديد الحقيقي لأوروبا الغربية لا يأتي من موسكو في الشرق، ولكن من الخاصرة الجنوبية
ومن هنا، حثّ ماكرون مستشاريه على إعادة النظر في العلاقات مع روسيا، مع التشديد على بناء علاقات أوثق مع بوتين، والحفاظ على صيغة النورماندي بين قادة فرنسا وألمانيا وروسيا وأوكرانيا، لمحاولة إنهاء أزمة روسيا مع أوكرانيا.
يحاول ماكرون أن يظهر اليوم باعتباره صوت أوروبا الطبيعي أكثر من المستشار الألماني، الذي تعد مساحة مناوراته أكثر صعوبة لأسباب تتعلق بالسياسة الداخلية الألمانية. كما أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قلّل من تأثير المملكة المتحدة وحولّها إلى قوة أطلسية، وكون فرنسا هي التي تتولى الرئاسة الأوروبية في النصف الأول من العام الحالي.
وإلى حد الآن، يتصرف المسؤولون الفرنسيون على أساس أن الوضع السياسي الحالي في أوروبا مؤاتٍ لدور فرنسي أكثر فاعلية. في غضون ذلك، يرون أنه من المستحيل أن تحل المجموعة الأوروبية العديد من المشاكل المهمة لها من دون روسيا. وتعتبر علاقة الثقة بين فرنسا والقيادة الروسية، وفرصة تمثيل روسيا أمام الغرب، رصيداً دبلوماسيًا مهمًا لا تحبذ فرنسا خسارته.
ويعتقد ماكرون أنه فعل الكثير بالفعل لضمان بقاء روسيا جزءاً من أوروبا. وصرّح أكثر من مرة: "لقد بذلت فرنسا كل ما في وسعها من أجل عودة روسيا إلى مجلس أوروبا، وبما أن فرنسا تترأس الاتحاد الأوروبي، فقد تمكنا من اغتنام هذه الفرصة لاتخاذ الإجراءات اللازمة."
وأفضل طريقة لتذكير الحكومة الروسية بذلك هي تذكيرها بهويتها الأوروبية ومهمتها. الوعظ المتغطرس لا ينجح مع حكومات دول من هذا النمط، سواء كانت الهند الديمقراطية أو روسيا الاستبدادية. هذه هي الطريقة التي يحاول بها ماكرون تأطير القضية بتصريحاته بأن روسيا دولة أوروبية، ولها مكانة كاملة في الأسرة الأوروبية. وهذا يعني ضمنياً أن على روسيا مراعاة المبادئ الأوروبية وحل الخلافات بالحوار.
ومن وجهة نظر استراتيجية، لا تريد الحكومات الأوروبية خسارة روسيا بالكامل لصالح آسيا. إنهم لا يريدون أن تصبح الحدود الفنلندية الصينية، التي كانت موضوع نكتة من الحقبة السوفييتية، حقيقة سياسية واقتصادية.
كتب المحلل السياسي جليب بافلوفسكي، القريب من الكرملين، أن روسيا أثقل من أن تتم إزالتها من لوحة اللعبة. واستمراراً لهذا الاستعارة، لا يمكن ابتلاع روسيا أيضاً، ويمكنها أن تبتلع القطع الأخرى بسهولة.
إن محاولة استبعاد روسيا من اللعبة تماماً سيجعلها تبدأ بلعب لعبتها الخاصة، التي ستكون قواعدها غير منسقة وغير متوقعة. لهذا السبب، من الأفضل تضمينها في اللعبة. هذا ما أراد أن يقوم به ماكرون، ولكنه فشل.