منتصف ليل الثلاثاء-الأربعاء، أقفل باب الترشح للانتخابات النيابية في لبنان، المقررة في 15 مايو/أيار المقبل، على 1043 مرشحاً، لتُفتح في المقابل غرف الاجتماعات الخاصة لتركيب اللوائح وعقد التحالفات التي تعدّ ممراً أساسياً للعبور إلى البرلمان بكتلٍ وازنة.
وعلى الرغم من حجم الانهيار الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي الذي يعيشه لبنان، والظروف الجديدة التي أوجدتها انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، إلا أن معظم القوى السياسية، الموجودة في الساحة منذ سنوات، تتعاطى مع الانتخابات على أنها حاصلة بموعدها، في حين لم تستطع القوى المدنية التي برزت بعد الانتفاضة الإجماع على خوض هذا الاستحقاق ككتلة واحدة، مما دفع لتشتتها وإضعاف فرص فوزها.
غموض خريطة التحالفات
ويشوب غموض غير مسبوق خريطة التحالفات، في ظل النفور الشعبي من الطبقة الحاكمة، وتشرذم القوى السياسية بغالبيتها، باستثناء ثنائي "حزب الله" و"حركة أمل" (يرأسها رئيس البرلمان نبيه بري).
وكان الحدث الأبرز الذي خطف الأضواء إعلان رئيس "تيار المستقبل"، رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، عدم خوضه السباق الانتخابي وإخراج تياره السياسي للمرة الأولى من المعركة، ما شكّل ضربة كبيرة للعديد من الأحزاب والشخصيات التي كانت تعوّل على تحالفها معه لحصد المقاعد وتأمين الحواصل الانتخابية.
التحالف الأوضح هو بين "حزب الله" و"حركة أمل"
وبدأت الأحزاب السياسية والقوى المدنية تتحضر للمعركة على مساحة 15 دائرة انتخابية وتقيم ورش نقاشات وبحث مكثفة لتركيب وتسجيل اللوائح قبل انتهاء المهلة في 4 إبريل/نيسان المقبل، الأمر الذي من شأنه أن يخفض عدد المرشحين في المرحلة اللاحقة باعتبار أن أولئك غير المنضوين في لائحة انتخابية يلغى طلب ترشحهم.
وأعلنت غالبية الأحزاب السياسية قوائم مرشحيها التي لم تلحظ تغييراً كبيراً على صعيد الأسماء عن تلك التي خاضت بها معركة انتخابات 2018 خصوصاً من جهة "حزب الله" و"حركة أمل" و"التيار الوطني الحر"، في حين قرر عددٌ من نواب "تيار المستقبل" الترشح بصفاتهم الشخصية بينما فضّل العدد الأكبر احترام رغبة الحريري وقراره.
ويعدّ التحالف الأوضح حتى الساعة هو بين "حزب الله" و"حركة أمل"، الثنائي الطامح للاستحواذ على كل المقاعد الشيعية (عددها 27 مقعداً من أصل 128 في البرلمان)، بل وضع اليد على بعض المقاعد السنّية (عددها 27 مقعداً أيضاً) بعد انسحاب الحريري وعزوف شخصيات سنّية أساسية عن الترشح، أبرزها رئيس الوزراء نجيب ميقاتي، ورئيس الوزراء الأسبق تمام سلام، ورئيس الوزراء الأسبق فؤاد السنيورة، والنائب بهية الحريري وغيرهم.
وبلغت نسبة الاقتراع لصالح "تيار المستقبل" عام 2018، نحو 250 ألف صوت، أكثرها في عكار شمالاً بـ76 ألف صوت، ودائرة بيروت الثانية بـ63 ألف صوت، بينما وصلت في الشمال الثانية (طرابلس، الضنية، المنية) إلى 52 ألف صوت، بحسب ما يؤكد الباحث في "الدولية للمعلومات" محمد شمس الدين، لـ"العربي الجديد"، مع الإشارة إلى أن نسبة الاقتراع عامةً بلغت في جميع الدوائر 49.7 في المائة.
وكسر وزير العدل السابق أشرف ريفي حال العزوف السنّي، بترشحه في دائرة الشمال الثانية، محاولاً الاستفادة من الفراغ الحاصل في خطوة تصب بالدرجة الأولى في عدم ترك الساحة لحزب الله وحلفائه ولتحرير لبنان من وصاية المشروع الإيراني على الدولة اللبنانية، وفق تعبيره.
ويكتفي ريفي بالإشارة، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إلى أنه ينتظر أسماء المرشحين الأساسيين للاختيار بينهم وتكوين اللائحة، والصورة ليست واضحة بعد. كذلك كسر القيادي المستقيل من "تيار المستقبل"، المنتفض على قرار الحريري عدم المشاركة، مصطفى علوش العزوف، وقرر الترشح في دائرة الشمال الثانية وهو يخوض مشاورات مع ميقاتي وعدد من القوى السياسية التي تشبه خطابه لتكوين اللائحة، وفق ما يؤكد لـ"العربي الجديد".
ويشير علوش إلى أن السنيورة سيكون في خلفية الحراك على مستوى كل لبنان وعزوفه لا يعني استقالته من العمل السياسي، لافتاً إلى أن الماكينة الانتخابية في طرابلس ستكون مختلفة عن باقي المناطق نظراً للتنوع الموجود.
ولا يرى علوش أن "للقوى المدنية أملاً جدياً بالكسب نظراً لتشرذمها وعدم بروز شخصيات متفق عليها مع برنامج واضح، فالشعارات تبقى فضفاضة ومبنية على رفض الآخر"، معتبراً أن "المستفيد الأكبر سيكون حزب الله أو المتمولين الطارئين على الساحة السياسية".
من جهته، يقول المرشح في الشمال الثانية مصطفى العويك، لـ"العربي الجديد"، إن "الساحة السنّية تعيش تخبطاً في أكثر من دائرة ليس فقط في الشمال الثانية سواء مع قرار الحريري وتيار المستقبل وبعض الشخصيات الوازنة والمؤثرة، ومن ثم عزوف ميقاتي، وهذا من شأنه أن يفتح لنا آفاقاً جديدة للمعركة ويحمّلنا مسؤولية أكثر بمخاطبة شريحة أوسع من الناس ونكون البديل المطلوب الذي تركن له لبلورة الثقة في صندوق الاقتراع".
ويضيف العويك: أطلقنا "انتفض" وهو عبارة عن ائتلاف قوى تغييرية بدائرة الشمال الثانية ونحاول التحالف مع أشخاص يشبهوننا ويتمتعون بالنفس نفسه المنبثق عن الثورة، وذلك للخروج بلائحة تغييرية بمسار جدي. ورأى أن حركة المرشحين التغييريين المكثفة هي سيف ذو حدين، فمن ناحية تعطي مؤشراً بمدى حيوية القوى التغييرية واندفاعها، لكن في المقابل أن انتشارها في أكثر من لائحة ينعكس على قرار الناخب الذي ستصبح خياراته متعددة.
احتمال انخفاض الاقتراع
أما الاختصاصي في الشأن الانتخابي كمال فغالي، فيقول لـ"العربي الجديد" إنه "عندما ننظر بشكل "ماكرو" للخريطة الانتخابية يمكن أن نلاحظ مدى إرباك القوى التقليدية والأحزاب التاريخية، وهو لم نرَه منذ عام 1992، إذ يسود اليوم الغموض والضبابية، خصوصاً على صعيد اللوائح والتحالفات".
لا أمل للقوى المدنية بسبب تشرذمها وغياب برنامجها الواضح
ويلفت في هذا السياق إلى أن "التحالف الأوضح حتى الآن على صعيد جميع الدوائر الانتخابية عند حركة أمل وحزب الله، بينما بقية الأحزاب لم يتضح المشهد لديها بعد، وبمجرد اكتماله يمكن تقييم وضعها الذي سيعتمد بشكل كبير على التحالفات الواسعة لكسب المقاعد النيابية".
ويلفت فغالي إلى أن الحريري عندما قرر المغادرة وتعليق عمله في الحياة السياسية وعزوفه و"تيار المستقبل" عن خوض الانتخابات، فعل ذلك بينما لم يكن في أوجّ شعبيته، حتى أنه وفق استطلاعات الرأي كان أمام تراجع يصل إلى نسبة 70 في المائة، مع الإشارة إلى أن وضع المنظومة الحاكمة ليس أفضل فهي باتت منهارة بعقل الناس بكل أشكالها، والمواطنون ما عادوا يريدون الأحزاب التقليدية.
ويعتبر فغالي أن مشاركة الناخبين السنّة ستكون ضعيفة جداً وقد تتراجع بأكثر من ستين وسبعين في المائة، في مشهدية ستنطبق على كافة الناخبين الذين لن يتوافدوا بكثرة إلى مراكز الاقتراع لأسباب عدة منها "الحرد"، "فقدان الأمل"، وارتفاع أسعار المحروقات، وغيرها من العوامل، وهو ما قد تستفيد منها الأحزاب التاريخية التقليدية إلا في حال تمكّنت قوى التغيير من تشكيل لوائح قوية وموحدة تحت شعار واحد على امتداد الوطن وتضم شخصيات ذات ثقة عندها ستجذب الناخبين وتدفعهم للتصويت.
سنّياً أيضاً، لم يظهر لرجل الأعمال بهاء الحريري، شقيق سعد الأكبر، أي أثر بعد على الرغم من تصريحه القوي يوم إعلان سعد عن قراره ولكنه سرعان ما تراجع، "وقد يقتصر دوره على دعم بعض المرشحين واللوائح ولن يتمكن من استقطاب قاعدة شقيقه كونه استهدفه بمواقفه واختار موقعاً آخر برفعه شعارات الثورة والتغيير"، يقول فغالي.
ويشير فغالي في المقابل، إلى أن الوزير السابق أشرف ريفي إذا تمكن من الانضواء في لائحة جيدة ستكون له حظوظ بكسب مقعد نيابي، خصوصاً أن لا خصم أمامه من الطائفة السنّية، وهو حال فيصل كرامي الذي قد يحظى بمقعدين وكذلك الامر بالنسبة إلى جهاد الصمد في طرابلس المنية الضنية.
أمام هذا الواقع كله، يرى فغالي أن حزب الله وحلفاءه قد يحصدون أكثرية مجلس النواب والأكثرية الميثاقية على صعيد الطوائف سواء السنّية والمسيحية والدرزية والشيعية، لكن في المقابل شرعيتهم لن تكون قوية من ناحية نسبة المقترعين.
ويلفت فغالي إلى أنه على سبيل المثال، إلى أن لائحة "المستقبل" كانت الأولى في بيروت ومن ثم يأتي حزب الله وحلفاؤه وبعدهم فؤاد مخزومي، في الانتخابات الأخيرة عام 2018، فيما بات حزب الله "الرقم واحد" اليوم، ومن ثم مخزومي، وبعدهما قوى التغيير إذا كان لها حضور والجماعة الإسلامية وآخرون.
ويشير إلى أنه في القانون الانتخابي المعتمد لم يعد هناك معارك شرسة، بل دوائر صعبة، مثل زحلة بقاعاً، فإن الثنائي أمل وحزب الله لديهما الحاصل الانتخابي كقوة ذاتية فيما باقي القوى تحتاج إلى تحالفات لتؤمن العتبة الانتخابية.
ويلفت فغالي إلى أن "حزب الله وحركة أمل يحاولون نيل 27 مقعداً شيعياً، يعني تركيزهما سيكون على عدم حصول أي اختراقات خصوصاً في الجنوب الثانية والثالثة وبعلبك وبعبدا على أن ينجح مرشحوهم في زحلة وجبيل والبقاع الغربي وهذه الخروقات التي تبقى واردة تبعاً للخصم المقابل ووضعه".
أما "التيار الوطني الحر" (يرأسه جبران باسيل صهر الرئيس ميشال عون) فإذا شكل لوائح لوحده فسيتمكن من تأمين 11 مقعداً بالحد الأقصى، مع الإشارة إلى أن المقاعد التي حازها في الدورة الماضية أتت بفعل التحالفات التي دخل بها سواء مع "المستقبل" أو الجماعة الإسلامية وشخصيات سياسية عدة، وبالتالي فإن التيار سيخسر الكثير من مقاعده النيابية إلا في حال دخل في تحالفات عريضة قد تغير المعادلة، يقول فغالي.