تشهد الساحة اللبنانية تأهباً أمنياً، مع ارتفاع منسوب الخطاب السياسي التهويلي والتحريضي، والذي ارتقى إلى مستوى الحرب الكلامية متعدّدة الجبهات، ليس فقط بين الخصوم السياسيين، بل طاولت رشقاتها المحور الحليف الواحد، ووصلت إلى حدِّ زجّ الجيش اللبناني بالأزمة، واتهامه بافتعال أحداث منطقة الطيونة – بيروت يوم الخميس الماضي (الاشتباكات وعمليات القنص التي أسفرت عن سقوط قتلى وجرحى إثر تظاهرة لحركة "أمل" التي يتزعمها رئيس مجلس النواب نبيه بري و"حزب الله" رفضاً لعمل المحقق العدلي بانفجار مرفأ بيروت طارق البيطار).
اتهم "حزب الله" الجيش اللبناني بتبديل الرواية حول أحداث الطيونة بضغط أميركي
وتوزّعت جبهات الحرب الكلامية، بشكل أساسي، بين ضفّتي حزب "القوات اللبنانية" برئاسة سمير جعجع و"حزب الله"، أشدها ما خرج على لسان نائب "حزب الله"، محمد رعد، ووصل إلى حدِّ طرح تحديي "حلّ القوات" و"قوات الحلّ"، وبين "حزب الله" وحليفه "التيار الوطني الحرّ" بزعامة صهر رئيس الجمهورية النائب جبران باسيل، كما على ضفة باسيل وجعجع اللذين يخوضان ما يمكن وصفه بالمعركة الانتخابية الأشرس رئاسياً ونيابياً (الانتخابات النيابية والرئاسية مقررة العام المقبل)، لاعبين على شدّ العصب المسيحي، كأبرز سلاح لهما. ويتوسط المشهد السياسي العام رشقات كلامية تطلقها حركة "أمل"، بـ"حنكة" رئيسها نبيه بري.
وبدأت أحداث الخميس الماضي بإطلاق نار كثيف مجهول البادئ به حتى الساعة، خلال تظاهرة نفّذها مناصرون لـ"حزب الله" و"حركة أمل" حدّدت وجهتها أمام قصر العدل في بيروت، قبل أن تتطوّر إلى اشتباكات أسفرت عن سقوط 7 قتلى وأكثر من 30 جريحا.
الرواية الأمنية الأولى أشارت إلى أنه أثناء توجه محتجين إلى منطقة العدلية (قصر العدل – بيروت)، تعرضوا لرشقات نارية في منطقة الطيونة، وقد سارع الجيش إلى تطويق المنطقة والانتشار في أحيائها وعلى مداخلها. واستند "حزب الله" ومناصروه إلى هذا البيان وتصريح وزير الداخلية بسام مولوي الأول، لتعزيز وتأكيد نظرية وجود كمين تعرّض له المحتجون، متهمين حزب "القوات اللبنانية" بالوقوف وراءه، خصوصاً أن منطقة عين الرمانة المتاخمة للشيّاح، تعد حاضنة شعبية لـ"القوات". وكانت تحضيرات أنجزت من جانب "القوات" ليل الأربعاء – الخميس الماضيين، استعداداً للخميس، وسبقها خطاب اعتبره "حزب الله" تحريضيا فتنويا، من جانب جعجع، دعا فيه رئيس "القوات" للنزول إلى الشارع بوجه آخر.
وبعد ساعاتٍ على الاشتباكات، تراجع وزير الداخلية بشكل غير مباشر عن نظرية الكمين، كما عادت قيادة الجيش ونشرت رواية نهائية قالت فيها إنه "أثناء توجه عدد من المحتجين إلى منطقة العدلية للاعتصام، حصل إشكال وتبادل لإطلاق النار في منطقة الطيونة، ما أدى إلى مقتل عددٍ من المواطنين وإصابة آخرين بجروح"، فسارع جمهور "حزب الله" للهجوم على الجيش في خطوة "نادرة"، متهماً إياه بتبديل الرواية بضغط أميركي، وذلك بعد زيارة نائبة وزير الخارجية الأميركية للشؤون السياسية فيكتوريا نولاند، قائد الجيش العماد جوزف عون وإعلانها تقديم مساعدات إضافية للجيش اللبناني. وانهالت الاتهامات ضد الجيش، مرفقة بخطاب التخوين ليتبعها تسريب مقاطع فيديو تتهم الجيش بأنه أول من أطلق النار في أحداث الخميس.
الجيش اللبناني يحقق في فيديو إطلاق عسكري النار
وعلّق الجيش اللبناني على مقاطع فيديو انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، وتظهر عسكرياً يطلق النار باتجاه المتظاهرين، مؤكداً أن العسكري يخضع للتحقيق بإشراف القضاء المختص. فيما أكد وزير الدفاع موريس سليم في أكثر من تصريح إعلامي، أن ما حدث الخميس الماضي ليس كميناً، وهناك 19 موقوفاً، وأن التحقيق جارٍ معهم لكشف كل الملابسات.
العميد خالد حمادة: الجيش قادر على إجراء تحقيق شفّاف بأحداث الطيونة، استناداً لقدراته وما يمتلكه من "داتا"
وتعليقاً على أحداث ومجريات ما حصل في منطقة الطيونة الخميس الماضي، يقول العميد الركن خالد حمادة، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "التظاهرة لم تكن سلمية أبداً، بدليل مقاطع الفيديو التي انتشرت وأظهرت مئات المسلحين المنتشرين في المنطقة المؤدية إلى الطيونة وتلك المجاورة، والذين دخلوا الأحياء السكنية التي لا علاقة لها بالمحور الرئيسي للتظاهرة نحو قصر العدل على خلفية التصعيد من قبل حركة أمل وحزب الله لإقالة المحقق العدلي القاضي طارق البيطار". من ناحية ثانية، فقد استخدم فريق "حزب الله" وحركة "أمل" أسلوب الاستفزاز نفسه الذي اعتمده لمواجهة وتهديد سلامة كل التحركات، خصوصاً منذ انتفاضة اللبنانيين في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 عبر رفع مناصريهما شعار "شيعة شيعة"، وهو ما أضحى مسبباً لاحتقان شعبي ضدّ "حزب الله" و"أمل" بشكل أساسي، بحسب العميد.
تبعاً لذلك، يعتبر العميد حمادة أن "كل الوقائع وما أسفرت عنه الاشتباكات من سقوط قتلى وجرحى، تلغي سلمية التظاهرة، وتؤكد أن منظميها كانوا مستعدين لافتعال إشكالات أو مجابهة أي عمل مضاد، بدليل اختراقهم لحواجز الجيش ودخول أحياء شعبية وسكنية وإطلاق النار في داخلها".
ويتوقف العميد حمادة عند الاتهام المحضّر لحزب "القوات اللبنانية"، ومن ثم الفيديوهات التي انتشرت فجأة تتهم الجيش بفتح النار أولاً. ويقول في هذا الصدد، إن الجيش والشرطة العسكرية تحديداً قادران على إجراء تحقيق شفّاف، استناداً لقدراتهما في هذا المجال، وما يمتلكانه من "داتا" (بنك معلومات) وصور ومقاطع مصوّرة حصلا عليها من الكاميرات الموجودة في النقاط التي شهدت اشتباكات، وبالتالي كشف جميع الملابسات، مشدداً على أن "الاتهامات المباشرة لا معنى لها".
هل يتحول الشارع إلى صندوق بريد لتبادل الرسائل السياسية؟
ويشير العميد حمادة إلى أن "هناك ازدواجية في الخطاب داخل الفريق الواحد، بمعنى أن الحزب يتهم القاضي طارق البيطار بالتسييس، والرئيس ميشال عون يتهم حزب القوات بالوقوف خلف أحداث الطيونة، وذلك لإرضاء حزب الله، وهو (التيار الوطني الحر) في الوقت نفسه، لا يجرؤ على طلب تنحية القاضي أمام هول جريمة تفجير المرفأ، نظراً لوقعها الوطني والمسيحي خصوصاً، علماً أنه أيضاً لا يعطي الإذن بملاحقة المدير العام لأمن الدولة اللواء طوني صليبا". أما "حزب الله" المطالب بتنحية البيطار، فيرى العميد أنه "لا يجرؤ كذلك على المغامرة بفضّ التحالف مع شريكه المسيحي، هو المأزوم داخلياً وخارجياً".
ويؤكد حمادة أن "الدولة سقطت أمام انفجار مرفأ بيروت"، وأن "تداعيات الجريمة ستواكب المشهد السياسي وتطوراته كافة، بما في ذلك التحالفات السياسية القائمة والانتخابات النيابية"، مشدداً على أنه "ينبغي على جميع الأفرقاء التراجع خطوة إلى الوراء، والنظر إلى المشهد من زاوية مختلفة"، مشيراً إلى أن "الترجيحات بالتصعيد واضحة، ولكن على المستوى الأمني يبقى السؤال: هل يتحول الشارع إلى صندوق بريد لتبادل الرسائل السياسية، وربما أبعد من الطيونة - الشياح - عين الرمانة؟".
بدوره، يرى الكاتب السياسي جورج علم، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "ما يجري على الساحة اللبنانية نوعٌ من امتداد للصراع الإقليمي الدولي، وكأن لبنان قد يعطى هدية لإيران إذا ما عادت إلى محادثات فيينا وفق السقوف الأميركية، وحزب الله يحاول بعدما مكّن نفسه كقوّة ضاربة في الداخل، إخضاع مؤسسات الدولة لهيمنته والتمدد اقتصادياً بالتوجه شرقاً".
جورج علم: ما يجري على الساحة اللبنانية نوعٌ من امتداد للصراع الإقليمي الدولي
ويلفت علم إلى "تصويب حزب الله على القضاء بحجة التسييس، وعلى المؤسسة العسكرية، خصوصاً بعد زيارة المسؤولة الأميركية وتعهد واشنطن بمساعدة الجيش بـ67 مليون دولار، وهو ما يزعج الحزب ويشكل عقبة أمام طموحه بأن يكون لبنان تابعاً للاقتصاد الشرقي والمحور الإيراني - الصيني".
كيف استفاد جعجع من حزب الله في أحداث الطيونة؟
من ناحية ثانية، يرى علم أن "حزب الله قدّم هدية كبيرة لجعجع من خلال أحداث الطيونة، بحيث أصبح الأخير الزعيم المسيحي الأوحد والمدافع الأساسي عن المنطقة المسيحية، ولا سيما أن هناك نقمة في الشارع المسيحي على استمرار التحالف بين حزب الله والتيار الوطني الحر، وعلى الرئيس عون، بأنه يريد تسليم لبنان إلى إيران من خلال حزب الله"، لافتاً إلى أن "جعجع استفاد من ذلك مع ما يستدعي من تعبئة نفسية وعقائدية، كما استفاد من مطالب حزب الله، ومن خلفه الحزب القومي السوري الاجتماعي، بحلّ حزب القوات اللبنانية، ليحوز التكاتف المسيحي المطلوب". أما باسيل، وفق علم، فهو "قدم خطاباً غير متصالحٍ، انتقد فيه حزب الله من جهة، ومن جهة أخرى تمسك فيه بالاتفاق بين التيار وحزب الله، حيث ركّز هجومه على جعجع باتهامه بكمين الطيونة".
ويشير علم إلى "ضرورة انتظار التحقيقات لنرى كيف بدأت الاشتباكات وما إذا كانت هناك خروقات، خصوصاً أنها انطلقت على مقربة من مدرسة الفرير، وهي بعيدة مسافات عن مكان التظاهرة في قصر العدل".
ورداً على الروايات المتعددة بشأن أحداث الطيونة، ومنها أن هناك تواطئاً بين الجيش وحركة "أمل" و"حزب الله" لتعبيد الساحة أمام الفتنة التي حذر منها الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله في وقت سابق فيما لو لم يصر إلى إقالة البيطار، يرى علم أن "هناك نظرية ثابتة اليوم وواضحة، تتمثل في غياب الوحدة الوطنية الحقيقية والحوار الجدي بين القيادات الفاعلة وأي مكون، لإنقاذ ما تبقى من وطن، والكل اليوم يعمل انتخابياً ويستخدم ورقة الشارع والتجييش لصالحه، وهو ما رأيناه أيضاً في خطاب رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، حليف حزب الله".
وتمكن فرنجية أخيراً من تصدّر "إعجاب" مناصري "حزب الله" بدفاعه الشرس عن هذا الفريق، هو الذي يقف معه في خندق "ادعاءات القاضي البيطار"، والذين باتوا يعتبرونه الحليف الأول والأساس للحزب والمحور ككلّ، وأنه الرئيس المقبل للبنان والأوفى لخطاب نصر الله ومبادئه، متهمين بطريقة غير مباشرة جبران باسيل ومن خلفه الرئيس ميشال عون، بـ"المصلحة السياسية" التي لطالما وقفت خلف التفاهم الثنائي للوصول إلى الرئاسة الأولى في لبنان.