لبنان: آخر معارك "حزب الله" على الحدود الشرقية مع سورية

22 يوليو 2017
عشرات العائلات عادت إلى بلدة عسال الورد (فرانس برس)
+ الخط -
يخوض "حزب الله" اللبناني آخر معاركه على حدود لبنان الشرقية مع سورية، وتحديداً في الجرود المتصلة بين بلدات قارة وفليطة وجراجير السورية، وبين جرد بلدة عرسال اللبنانية، بمواجهة مقاتلي عناصر تنظيمي "داعش" و"جبهة فتح الشام" (النصرة سابقاً) فعلياً، ذلك أن بقية المقاتلين الذين كانوا منضوين في فصائل من "الجيش الحر" قضى عليهم "داعش" في السنوات الثلاث الماضية في تلك المنطقة، وبعض من بقي منهم موجوداً في تلك المنطقة، أصبح يقاتل إلى جانب "النصرة"، نظراً إلى كونها الغريم الرئيسي لـ"داعش". وهي معركة جديدة للحزب اللبناني يتجاوز فيها المقررات الدولية الداعية لنزع سلاحه، وقرارات الشرعية اللبنانية التي كلفت الجيش اللبناني بتنفيذ عملية عسكرية في المنطقة الجردية اللبنانية التي ينتشر فيها عناصر التنظيمين.

تخطي السلطات
انتظرت السلطات اللبنانية كما بقية المواطنين تحديد ساعة الصفر من قِبل "حزب الله" المنتشر شمالي وجنوبي منطقة العمليات الجديدة في المناطق الجردية المتداخلة بين لبنان وسورية، والتي تمتد من جرود بلدات جراجير وفليطة وقارة السورية لتصل إلى جرود بلدة عرسال التي تبعد عن قلب البلدة مسافة حوالي 20 كيلومتراً. وقال رئيس الحكومة سعد الحريري الأسبوع الماضي، إن حكومته "كلفت الجيش اللبناني بتنفيذ عملية عسكرية نظيفة في جرود بلدة عرسال"، ولو أن كل المعطيات الميدانية تدلّ على أن التحضيرات الوحيدة هي لعناصر الحزب المنتشرين بين حدود البلدين، وفي مواقع متقدمة على مواقع الجيش اللبناني. وما إعلان "الإعلام الحربي" عند منتصف ليل الخميس ــ الجمعة بداية المعركة، سوى تهميش رسمي من حزب الله للجيش اللبناني ولقرار الحكومة التي تحدث باسمها رئيسها، الحريري، وطمأن، في البرلمان، إلى أن الجيش اللبناني وحده من سيتولى المعركة، وخصوصاً أن للجيش "ثأر" مع التنظيمين في تلك المنطقة، أي النصرة وداعش، بما أنهما خطفا وقتلا عدداً من عناصره، وأعلنا مسؤوليتهما عن إرسال سيارات مفخخة إلى الأراضي اللبنانية في السنوات الماضية. 

وتسارعت وتيرة الحديث عن بدء المعركة بالتزامن مع ارتفاع وتيرة التجييش العنصري الحاد ضد اللاجئين السوريين في لبنان، مع تحوّل عملية "أمنية" للجيش في بلدة عرسال قبل 3 أسابيع إلى مجزرة قُتل على أثرها حوالي 11 لاجئاً سورياً (بينهم طفلة واحدة و10 لاجئين ماتوا تحت التعذيب وهم قيد التوقيف بعد العملية)، ومردّ حملة العنصرية تفجير 5 انتحاريين لأنفسهم بقوات الجيش التي كانت تداهم مخيمين للاجئين السوريين عند أطراف بلدة عرسال بعيداً عن مناطق انتشار الجيش، ما أدى إلى إصابة 7 عسكريين بجروح. ظهّرت هذه العملية بشكل واضح وراثة الجيش اللبناني لأزمة المخيمات السورية بعد سنوات من تراكم الفشل السياسي اللبناني في تكوين رؤية موحّدة للتعامل مع هذه المخيمات العشوائية، ورفض إنشاء مخيمات نظامية، ورفض الاعتراف بصفة اللجوء للسوريين في لبنان للتهرب مما يترتب عن هذه الصفة من واجبات على الدولة اللبنانية، بعد أن تضاربت مواقف القوى السياسية من أزمة اللجوء وتجاوزت الوقائع الميدانية كل التصريحات السياسية التي أعلنت عن رفض استقبال اللاجئين ثم رفض إقامة مخيمات لهم. وتزامنت هذه الحالة مع استغلال "هيئة تحرير الشام" و"داعش" للمخيمات في بلدة عرسال لأغراض أمنية وعسكرية، ليكون اللاجئون السوريون وأهالي عرسال اللبنانيون أبرز ضحايا هذين التنظيمين. 

وبعد استقرار الرأي الرسمي في لبنان على إعادة اللاجئين السوريين إلى "المناطق الآمنة" (التي أعاد النظام السوري السيطرة عليها) في القلمون، كان "حزب الله" متقدماً في هذه النقطة أيضاً، على الرغم من النتائج المتواضعة التي حققها في المفاوضات غير المباشرة التي رعاها لإقناع اللاجئين بالعودة إلى بلداتهم من تلقاء أنفسهم. وقد عادت عشرات العائلات إلى بلدة عسال الورد قبل أسبوع من بدء العملية العسكرية للحزب، التي أقفلت الباب مؤقتاً أمام أي مرور للمدنيين في الجرود ولو لفترة مؤقتة. علماً أن مصادر إغاثية محلية تُقدّر عدد اللاجئين السوريين المقيمين في مثلث جرود قارة - فليطا - عرسال بحوالي 20 ألف مدني يقيمون في بعض المخيمات العشوائية القريبة من بلدة عرسال، ومنها المخيمان اللذان داهمهما الجيش في عمليته الأمنية.

وإلى جانب المفاوضات ذات الطابع المدني مع اللاجئين، حاول "حزب الله" فتح تواصل غير مباشر مع "أمير فتح الشام" في القلمون، أبو مالك التلي، عبر "سرايا أهل الشام"، وهي تنظيم مسلح كان أحد فصائل الجيش الحر ويملك اليوم قنوات تواصل ثابتة مع النظام السوري وحزب الله في القلمون الغربي. وشملت المفاوضات، بحسب ما أفادت مصادر لبنانية متابعة لـ"العربي الجديد"، عودة أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين المقيمين في بلدة عرسال إلى بلدات محددة في منطقة القلمون، كفليطة وجراجير وقارة وعسال الورد، مع استثناء اللاجئين من محافظة حمص وريفها من العودة بعد أن حوّل "حزب الله" بلداتهم إلى مناطق عسكرية مغلقة.


وشملت المفاوضات أيضاً تحديد شروط انسحاب عناصر "فتح الشام" إلى الداخل السوري لجهة نوعية السلاح المسموح للعناصر المغادرة به، وهو السلاح الخفيف فقط مع "بيع" السلاح الثقيل لـ"حزب الله" الذي أبدى، وبحسب المصادر، استعداداً لدفع أموال مقابل تسليمه له، وتحديد مسار انتقال عناصر "فتح الشام" من الجرود اللبنانية والسورية إلى الشمال السوري.

وسجلت ليلة الخميس - الجمعة، وهي آخر ليالي المفاوضات بين الحزب والتلي عبر وسطاء، زيارة مفاجئة قام بها شقيق رئيس بلدية عرسال السابق، الشيخ مصطفى الحجيري، المعروف باسم "أبو طاقية"، إلى جرود عرسال، حيث التقى التلي وعاد لينقل عنه رفضه استمرار التفاوض وإعلان نيته القتال. علماً أن الحجيري كان بعيداً كلياً عن أجواء المفاوضات وهو يُعدّ من الوجوه "التصعيدية" في عرسال، واسمه مرتبط بتسليم العسكريين المخطوفين خلال معركة عرسال عام 2014 إلى "فتح الشام" وبإيواء عناصر متطرفة في البلدة خلافاً لإرادة أبنائها.
فشلت المفاوضات التي امتدت أشهراً عديدة، في تجنّب المعركة، نتيجة رفض متبادل للشروط بشأن تسليم السلاح الثقيل من قبل "فتح الشام" وتحديد مسار انسحاب عناصر التنظيم إلى الداخل السوري. فيما غيّبت التطورات الميدانية الأثر المُرتقب لزيارة رئيس الحكومة سعد الحريري وقائد الجيش العماد جوزيف عون إلى العاصمة الأميركية، واشنطن، منتصف الأسبوع المقبل، على ملف "مكافحة الإرهاب".

الجيش اللبناني يراقب
راقب عناصر الجيش اللبناني حركة موفدي "سرايا أهل الشام" الذين غادروا عرسال باتجاه جرودها وعادوا منها مراراً خلال الأشهر الماضية، وواكبوا انتقال دفعتين من اللاجئين السوريين إلى بلدة عسال الورد حتى آخر نقطة لبنانية. أما اليوم فيقتصر دور الجيش اللبناني في معركة جرود عرسال على منع لجوء مقاتلي "فتح الشام" و"داعش" إلى داخل البلدة نتيجة الضغط الناري الكثيف من راجمات "حزب الله" على مناطق انتشارهم في الجرود. وأظهرت لقطات نشرها "جهاز الإعلام الحربي" في الحزب استكمال عملية استطلاع مسبق بالطائرات المسيرة لكشف مواقع التنظيمين في المنطقة الجردية المرتفعة قبل بدء العملية.

وتُشكل المعركة الحالية امتداداً للحرب التي خاضها مقاتلو "حزب الله" في سورية انطلاقاً من مدينة القصير في ريف حمص الجنوبي التي سيطر عليها الحزب عام 2013، لينتقل بعدها المسلحون السوريون الذين كانوا ينتشرون فيها وينتمون إلى فصائل الجيش السوري الحر وإلى "فتح الشام" إلى جرود منطقة القلمون السوري وجرود البلدات اللبنانية الحدودية. شكّلت المناطق التي سيطرت عليها "فتح الشام" وبعدها المقاتلون الذين بايعوا تنظيم "داعش"، منطلقاً لتجهيز وإرسال سيارات مُفخخة إلى لبنان، بالتزامن مع استمرار مشاركة الحزب في القتال إلى جانب النظام السوري على طول الخارطة السورية. وتم تنفيذ عمليات انتحارية استهدفت مدنيين في لبنان من قبل التنظيمين.

كما أطلق عناصر "داعش" و"النصرة" عشرات الصواريخ غير الموجّهة على بلدات البقاع الشمالي التي تُوالي "حزب الله" وينتمي إليها الآلاف من مقاتليه. وهو ما أدى إلى اشتداد حدة النزاع الطائفي بين بلدة عرسال (أكبر بلدة من حيث المساحة في لبنان: 316 كيلومتراً مربعاً بحدودٍ طولها 50 كيلومتراً مع الأراضي السورية، ويقيم فيها 40 ألف عرسالي و100 ألف لاجئ سوري) ذات الأغلبية السنّية، ومحيطها ذي الأغلبية الشيعية. وزاد من النزاع، اجتياح التنظيمين للبلدة عام 2014، بعد اختراق مواقع الجيش على الحدود إثر توقيف قائد إحدى الفصائل السورية التي بايعت "داعش". غيّرت المعركة الأحوال في بلدة عرسال، وانقلب الإهمال الرسمي (أمنياً وإنمائياً) للبلدة إلى قبضة أمنية مشددة تقدّمت معها "الأولوية الأمنية" على كل الاعتبارات الإنسانية. وتكررت التوقيفات الجماعية للاجئين المدنيين في البلدة، كما قُطعت الطريق بين عرسال وجرودها من دون مراعاة اعتماد عدد كبير من أبناء عرسال على العمل في مقالع الحجر والحقول الزراعية المنتشرة هناك.

وإن كانت المعركة اليوم أصغر بالمعنى العسكري والميداني (سيطر حزب الله على ألف كيلومتر مربع خلال المعارك بين عامي 2013 و2015، بينما تبلغ مساحة المعركة الحالية 300 كيلومتر مربع)، فإن الحزب سيحرص على تضخيم النجاح المفترض لعملياته. ولن يكون "تطهير جرود بلدة عرسال" هو عنوان الانتصار، وإنما "إغلاق ملف الحدود الشرقية مع سورية بشكل كامل". وهو هدف عسكري حدده الحزب، ربما تكون نتائجه رهينة التفاهمات السياسية الكبرى في سورية بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا.