صندوق النقد الدولي: ثلاث كلمات تسكن الأخبار الاقتصادية للعديد من الدول الجديدة التي أصبحت مستقلة بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945). تقوم المؤسسة المالية الدولية بإرسال خبرائها "لتقديم النجدة" إلى بلدان تواجه صعوبات في جميع القارات. لماذا وكيف؟
لماذا تلجأ دولة ذات سيادة إلى صندوق النقد الدولي؟
من بين 193 دولة عضواً في الأمم المتحدة، ثلاث دول فقط ليست أعضاءً في صندوق النقد الدولي. هناك مفارقة مدهشة تجعل دولة ذات سيادة، ويفترض بالتالي أنها قادرة على اتخاذ قراراتها السياسية أو الاقتصادية أو الدبلوماسية بكل استقلالية، تشارك مؤسسة مالية بعيدة في اتخاذ تدابير قد تؤثر بشكل خطير في الحياة اليومية لمواطنيها. بخصوص الدول الـ 33 الموقعة حالياً على اتفاقية مع المؤسسة المالية، الجواب هو نفسه: الأزمة الاقتصادية والاجتماعية هي ما يجعلها تطرق بابها.
لم يسجل التاريخ إلا حالات قليلة نجاحات دولة بمعزل عن اتفاق مع الصندوق
أصول مصائب أولئك وهؤلاء متعددة، لكنها في الغالب تتراكم. على الصعيد الداخلي، تؤدي السياسة النقدية، والممارسات الجبائية، والإنفاق العام المفرط، أو سعر صرف غير مناسب، عاجلاً أو آجلاً، إلى توقف النمو الاقتصادي بالتوازي مع ندرة متزايدة في العملة الأجنبية.
ويصبح بالتالي من غير الممكن شراء الضروريات، الغذاء أو الطاقة، وشحن السفن التي تنقلهم، وتأمين الصادرات، وإجلاء كبار المرضى إلى أحدث المستشفيات بالخارج. باختصار، "سوء الحوكمة" هو المسؤول عن ذلك في باكستان، كما في تونس وسريلانكا أو في غانا.
خارجياً، يعود الأمر إلى حدث ما، مثل الاختفاء شبه الكلي للسياح في أعقاب وباء، أو حملات إرهابية تثني المسافرين عن الذهاب إلى هناك، أو انهيار سعر مادة خام ذات أهمية خاصة في الاقتصاد الوطني (مثل النحاس في تشيلي)، أو ارتفاع أسعار الفائدة حول العالم.
عملياً، النتيجة واحدة في كلتا الحالتين، داخلية كانت أو خارجية: يجب إيجاد بصفة استعجالية مُقرض يمنح الدولة التي تواجه صعوبة مساعدات مالية كبيرة. باختصار، يجب توفير عملة أجنبية لإعادة تشغيل المضخة.
هل توجد بدائل؟
إذا كان الاتفاق غير ممكن بين الصندوق والدولة التي تطلب مساعدته، سواء بسبب طرف أو آخر، فهل هناك باب آخر يمكن طرقه؟ في الواقع، كلا.
من جانب القطاع الخاص، إن الأسواق المالية المنظمة، التي تراقبها وكالات التصنيف الرئيسية مثل "ستاندرد آند بورز" و"موديز" الأميركيتين، أو وكالة "فيتش" الفرنسية، تنغلق تماماً. وقد يقوم مُقرضون هامشيون بمنح قليل من الفتات، ولكن بشروط مالية باهظة تؤدي في الواقع إلى تفاقم محنة "المستفيد".
تاريخياً، استمرت الإمبراطوريات الاستعمارية، مثل فرنسا، بعد الاستقلال بفترة وجيزة في مساعدة مستعمراتها السابقة لمنع منافسيها من زج أنوفهم في شؤون "فرانس أفريك" (فرنسا الأفريقية). لكن انتهى ذلك منذ فترة طويلة.
ينطبق الشيء نفسه على الدول التابعة سابقاً للاتحاد السوفييتي. وحتى اختفائه، استبعد الاتحاد السوفييتي لجوء محمياته إلى صندوق النقد الدولي وكان يدفع ديونها بنفسه حتى.
واليوم، لا تزال الممالك النفطية الخليجية تمضي صكوكاً "لأصدقائها" السياسيين، ولكن فقط بعد أن يوقعوا اتفاقاً مع المؤسسة الدولية. لكنه يبقى مجرد مكمل غير قادر على أن يكون بديلاً لما هو أساسي، والذي يأتي دائماً من صندوق النقد الدولي.
ماذا يحدث في غياب اتفاق؟
من دون اتفاق مع الصندوق، يتعين على الدولة المُقصاة أن تبذل جهداً فردياً لاستعادة حساباتها الخارجية والعامة. يجب عليها تخفيض نفقاتها بالنقد الأجنبي والعملة الوطنية بنسب أهم. ومن هنا، لم يسجل التاريخ إلا حالات قليلة.
عاجلاً أو آجلاً، يسترجع الصندوق الزمام ويباشر مفاوضات مع "المخطئ" للتوصل إلى حل أقل تكلفة من التعديل الوحشي، ولكنه أكثر كلفة من المشروع الأول قبل القطيعة.
المجهود الفردي حالة استثنائية، ولم يتمكن من خوضه إلا عدد قليل (أو لا) من البلدان. وتبقى رومانيا في عهد نيكولاي تشاوشيسكو مثالاً يذكر، إذ جوّع شعبه لمدة 20 عاماً من أجل سداد الدين الخارجي للنظام. وقد مات معدماً بالرصاص.
في أغلب الأحيان، في مثل هذه الحالة، تتفاقم الأمور وسرعان ما تصبح الدولة نفسها مهددة بالإفلاس. ولعل الصومال أحد الأمثلة النادرة، وهو فريسة لحرب أهلية منذ 30 سنة.
ما هي مبالغ القروض؟
كل عضو في الصندوق يملك رأسمالاً مكوّناً من الاشتراك المدفوع عند الانخراط ومن توزيع أسهم مجانية على مرّ السنين. تأخذ القروض عدة أشكال بحسب مدتها الزمنية، التي هي قصيرة في المبدأ (بين 3 و4 سنوات في المعدل).
في المقابل، تشمل الثلاثية الأساسية إجراءات في ثلاثة مجالات: استعادة الحسابات العامة، إصلاحات هيكلية وتطهير ديون ثقيلة بشكل مفرط. وتخضع الأهداف، وهي متعددة، لشروط أقل أو أكثر قسوة حسب حجم القرض المطلوب. وكلما زادت الأموال التي نريدها، كانت الشروط أقسى وأطول.
للصندوق ثلاثية أساسية: استعادة الحسابات العامة، إصلاحات هيكلية وتطهير ديون ثقيلة
ويكون الدفع بشكل ممدد في الوقت (غالباً مرة كل ثلاثة أشهر)، وهي مسوّاة إذا احترمت الحكومة التي وقعت الاتفاقية مع الصندوق البنود المرفقة بالقرض.
ويرتبط حجم القرض بالمساحة الاقتصادية والدبلوماسية للمقترض، والظرف الاقتصادي وعلاقته بواشنطن. لنأخذ تونس التي تتفاوض منذ أشهر طويلة مع الصندوق مثالاً، إذ تتوقع الخزينة التونسية لسنة 2022 عجزاً في الميزانية يقدر بـ408 ملايين دينار تونسي، أي حوالى 128 مليون يورو، والتزامات خارجية بنحو 293 مليون دينار تونسي (92 مليون يورو)، وخدمة ديون ضخمة تقدر بـ5 مليارات دينار تونسي (1.569 مليار يورو)، ما يمثل عشرة أضعاف عجز ميزانية البلاد.
ولا ترقى احتياطات النقد الأجنبي الرسمية للدولة التونسية إلى مستوى المواعيد، ويحوم شبح التخلف عن السداد، أي عدم القدرة على احترام الموعد النهائي، على كاهل المالية العامة للبلاد.
وتبلغ الاحتياجات التمويلية لتونس حوالى مليارَي دولار سنوياً (الدولار يعادل اليورو حالياً). كم يمكن الصندوق أن يمنح تونس؟ ويعتمد ذلك جزئياً على حصتها البالغة 545.2 مليوناً من حقوق السحب الخاصة، وهي عملة حساب يمثل فيها الدولار واليورو أكثر من 70 في المائة من قيمتها.
وإذا كان القرض يمثل ثلاثة أضعاف قيمة الحصة، وهو المعيار الذي يُحصَل عليه عادة، ولكنه ليس تلقائياً، تُضمَن احتياجات التمويل التونسية بصفة عامة للسنة المقبلة.
غير أن هذه التسديدات ستُقسَّم على مدى عامين أو ثلاثة أعوام، وبالتالي ستسمح بتغطية جزء فقط من الحاجة التمويلية التونسية. لا يتعلق الأمر هنا بالحسابات، بل بالسياسة.
فإذا استرجعت تونس، بفضل الاتفاقية والتطبيق الذي تنتهجه، ثقة دائنيها، ستأتي قروض أخرى، تضاف إلى ذلك الممنوح من طرف الصندوق، من مؤسسات دولية أخرى (البنك الدولي، البنك الأفريقي للتنمية، مصارف عمومية أوروبية وغيرها) ومن الشركاء الدبلوماسيين والتجاريين لتونس. وهكذا تكون العملية قد نجحت وأُنقذ البلد من الغرق.
قامت باكستان بحسابات أخرى، لا يطلب وزير ماليتها الجديد سوى 1.17 مليار دولار من المؤسسة المالية الدولية، فيما تفوق احتياجاتها التمويلية 35 مليار دولار.
والصين، وهي دائنها الرئيسي، مثل المملكة العربية السعودية، مستعدة لتأجيل السداد، كذلك فإن الأوساط المالية، خصوصاً السعودية، مستعدة للاقتناع بأن الآفاق أفضل من المتوقع.
مثال آخر كاريكاتوري نوعاً ما: يطلب محافظ المصرف المركزي الأوكراني 20 مليار دولار. بلاده في حالة حرب، غير أن المؤسسة تتردد خشية أن توصف على أنها أداة للدبلوماسية الغربية، وليست منظمة عالمية غير منحازة. فيما يتحدث مستشار للرئيس فولوديمير زيلينسكي، بصفة أكثر حذراً، عن خمسة مليارات دولار.
من أين تأتي أموال القروض؟
في المبدأ، تحدد ترتيبات مداها سنوات عديدة مساهمة الدول الأعضاء وتمول سياسة المؤسسة. وتكون احتياطاتها قد فاقت حالياً ألف مليار دولار. وفي الصيف الماضي، استُحدِث ما يعادل 650 مليار دولار من حقوق السحب الخاصة موزعة على الدول الـ 189 الأعضاء وفق مشاركتها في رأس المال.
وإذا تجاوزت الالتزامات، وهي حالياً تفوق 200 مليار دولار، المبالغ المرخصة، فإن اللجوء إلى السوق المالية الدولية يعد خياراً. يبقى الصندوق جداً كتوماً بشأن سياسته المالية الخاصة التي لا يُعرف عنها الكثير. والشيء الوحيد المؤكد، أن قروضه تتمتع بامتياز السداد قبل جميع القروض الأخرى في حالة صعوبات مالية للبلد المقترض.
من يقرر؟
يدير صندوق النقد الدولي مجلس إدارة مكوّن من 24 عضواً، 8 منهم دائمون. تعد الخزانة الأميركية المساهم الرئيسي (16.50 في المائة) تليها اليابان (6.14 في المائة) ثم الصين (6.08 في المائة). تمتلك الدول الأوروبية مجتمعة العدد نفسه لأسهم الولايات المتحدة.
وهناك انسداد في إصلاح الصندوق منذ سنة 2010 بسبب معارضة الولايات المتحدة تخفيض مساهمتها لمصلحة الوافدين الجدد مثل الصين.
يمتلك الجانب الأميركي حق النقض (الفيتو) بحكم الأمر الواقع، يسمح له بمنع أي عملية يعتبرها مخالفة لمصالحه. على سبيل المثال، في خريف 1956، عندما هاجمت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل مصر، منع البيت الأبيض قرضاً طلبته لندن، ما وضع الجنيه الإسترليني في وضع صعب، وأجبر الحكومة البريطانية على التخلي عن حملة السويس.
قروض الصندوق تتمتع بامتياز السداد قبل جميع القروض الأخرى
وبشكل أقرب، يعمل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حالياً على التواصل مع "أصدقائه" الأوروبيين لتليين موقف الصندوق بخصوص حجم قرضه، في مقابل تخفيض قيمة الجنيه المصري.
وتتطلع القاهرة إلى قرض كبير وتخفيض بسيط في قيمة عملتها. يقاوم صندوق النقد الدولي ذلك، وهو بلا شك مدعوم من طرف الخزينة الأميركية، فحشد الدعم الأوروبي يمكن أن يلين الشروط.
تجرى مثل هذه المناقشات في مجلس الإدارة، وهو في وضعية أفضل من الخبراء لتقييم الرهانات الأمنية والدبلوماسية والسياسية التي قد يخفيها الإصلاح التقني لسوق الصرف الأجنبي. فتحرير واسع قد يهدد بتخفيض قيمة العملة الوطنية وزيادة تكلفة الواردات، ولا سيما المنتجات الغذائية.
في العديد من البلدان "الزبائن" للصندوق، يكرس السكان على الأقل نصف مواردهم للغذاء، وتفوق النسبة لدى الخمس الأكثر فقراً من السكان.
وقد يسبب ارتفاع كبير للأسعار حدوث تظاهرات وأعمال شغب، بل وحتى ثورات، وهي مخاطرة لا ينبغي الاستخفاف بها: وصل التضخم في أسعار الغذاء على مدى عام واحد 332 في المائة بلبنان و94 في المائة بتركيا و80 في المائة بسريلانكا.
وتخشى أوروبا زعزعة استقرار الدول المجاورة التي قد يسيء صندوق النقد الدولي معاملتها وتسبب وصول مهاجرين إلى شواطئها، ومن ثم يُفسر عموماً "تفهمها" النسبي لمشاكلها.
وتسمح المراقبة الدائمة للصندوق، الذي له ممثلون لدى زبائنه الرئيسيين و17 دائرة متخصصة في مقره الرئيسي، بمراقبة السياسات التي يمارسها المدينون من كثب، وذلك بفضل المادة الرابعة من نظامه الأساسي التي تشترط من الدول الأعضاء تقديم تقرير سنوي عن وضعيتها، يقوم موظفون من الصندوق بصياغة جزء منه مرفقاً بردود السلطات الوطنية.
ولصندوق النقد الدولي وجود دائم في العديد من البلدان المستعمرة سابقاً. غانا، المستقلة منذ سنة 1957، طبقت 17 برنامجاً مع المؤسسة، أي برنامجاً واحداً كل عامين ونصف، وهي تتفاوض حالياً بشأن البرنامج الـ18.
هل هناك آراء إيديولوجية مسبقة؟
الأهداف الرسمية للصندوق هي التعاون الدولي والدفاع عن العملة والسعي نحو نظام مالي تكون فيه الحواجز للتبادل التجاري منخفضة قدر الإمكان.
وتشكّل حرية حركة الرساميل، وقبل ذلك إنشاء أسواق الصرف مع غياب يد الدولة، أهدافاً مركزية للصندوق. وتجدر الإشارة إلى أنه أُحرِز، على المدى الطويل، تقدم كبير في هذا الاتجاه خلال السنوات الـ30 الماضية.
ويفسر الإيمان، شبه الحصري، بآليات السوق، لكون فكرة انسحاب الدولة كمتعامل اقتصادي تُعَدّ ضرورة متكررة في جميع تقارير صندوق النقد، من بريطانيا إلى باكستان.
لم تنقص مشاريع الإصلاح على مرّ السنين، وخصوصاً مع عولمة الاقتصاد الدولي. ويتجلى من خلالها تطلع عام إلى مزيد من التنسيق بين الفاعلين وإلى هيمنة أقل للأكثر ثراءً على الآخرين.
ولكن لم يمر أي من هذه المشاريع حتى الآن، لكون الكونغرس الأميركي يدافع باستماتة عن إبقاء الوضع القائم، ويشكل حارساً متشدداً لترتيبات تضمن تفوّق العم سام بلا منازع. ولكن إلى متى؟
ينشر بالتزامن مع أوريان 21
(https://orientxxi.info/ar)