كتَبَة الدستور العراقي لـ"العربي الجديد": الضغوط أضفت الطابع الطائفي عليه

30 مايو 2022
استغرقت عملية كتابة الدستور أقل من عام (أحمد الربيعي/فرانس برس)
+ الخط -

لا تمثّل المطالبة بتعديل الدستور العراقي الذي أقر في عام 2005، بعد عامين من الغزو الأميركي للبلاد، قضية جديدة على المشهد السياسي في البلاد، إذ تتكرر مع كل أزمة سياسية، وتحديداً منذ عام 2010، عقب الانتخابات التشريعية.

وتفجّر الجدل بخصوص المادة 76 من الدستور، المتعلقة بتحديد "الكتلة الكبرى" التي لها حق تشكيل الحكومة، إذ حرم تفسير المحكمة الاتحادية الفائز في الانتخابات من تشكيل الحكومة، ومنح الحق للتحالف الذي يتكون داخل البرلمان في أول جلسة له بعد الانتخابات.

وتُلقي قوى مختلفة في العراق جزءاً من المسؤولية في الأزمة السياسية الحالية، على طريقة كتابة الدستور، وعدم وضوح فقراته، بشكل جعله قابلاً للتأويل والاجتهادات المتكررة.

أقل من سنة لكتابة الدستور

ومن بين أبرز ما يواجهه الدستور الذي استغرقت كتابته أقل من عام واحد، عبر لجنة تم اختيار أعضائها وفقاً للأوزان الطائفية في البلاد، ديباجته التي تجنبت الإشارة إلى أن العراق دولة عربية والاكتفاء بعبارة العراق عضو في الجامعة العربية.


أكد قيادي في التيار الصدري أن غالبية القوى السياسية مع تعديل الدستور، لكنّ الخلاف حول المواد التي يجب تعديلها

كما أن هناك عدم وضوح في بنود مختلفة فيه، تتعلق بالفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية، وصلاحيات إقليم كردستان، وصلاحيات مجالس المحافظات والمحافظين، وآلية تشكيل الحكومة وانتخاب رئيس الجمهورية والبرلمان والتقاطع في صلاحيات بينهم.

كما أنه يتعرض إلى اتهامات بترسيخه الطائفية والانقسام المذهبي والعرقي، واعتباره مُعرقلاً لقيام دولة مدنية قائمة على أساس المواطنة، وصولاً إلى ما تم اعتباره ألغاماً، مثل المادة 140 (قضية كركوك والمناطق المتنازع عليها)، وملف النفط والغاز، وخلط مفاهيم دينية في بلد متعدد الطوائف والثقافات، وعدم الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية وحقوق الأقليات.

ومنتصف فبراير/شباط الماضي، دعا رئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان البرلمان إلى إجراء تعديلات على الدستور، وهي أول دعوة تصدر عن القضاء، وتؤيد وجود مشاكل في هذا الدستور. وأقرَّ زيدان بخطأ تفسيرات سابقة في الدستور، معتبراً أن أمام البرلمان "مسؤولية تاريخية تتمثل بضرورة العمل على تعديل المواد الدستورية، لا سيما أن المواد المعنية ليست خلافية، وإنما قابلة لإعادة الصياغة بشكل يضمن عدم دخول البلد في حالة خرق أو فراغ دستوري مستقبلاً".

التيار الصدري عازم على فتح ملف الدستور

وقال قيادي في التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر، لـ"العربي الجديد"، إنهم عازمون على فتح ملف الدستور، وقد يتم ذلك عبر استغلال موعد الانتخابات لمجالس المحافظات المقبلة (لم يُحدد موعد لها) حتى نطرح التصويت على التعديل.

وأضاف أن "غالبية القوى السياسية مع تعديل الدستور، لكن الخلاف حول المواد التي يجب تعديلها، خاصة أن هناك كتلاً سقف مطالبها عالٍ، مثل تعديل النظام من برلماني إلى رئاسي". واعتبر أن "الدورة الحالية للبرلمان يقع على عاتقها حسم الملف، كون بعض بنود الدستور الحالي باتت مصدر خلافات موسمية، وتتكرر مع كل انتخابات في العراق". 

وتحدث لـ"العربي الجديد" عدد من أعضاء لجنة كتابة الدستور الأساسيين التي تألفت من 25 عضواً، غالبيتهم من القوى السياسية الشيعية والكردية، قبل أن يتقرر توسيعها لاحقاً بإضافة 15 ممثلاً عن العرب السنّة، ثم إلى 55 عضواً، بعد قرار آخر بإضافة ممثلين عن مكونات أخرى، أبرزها المسيحيين والصابئة والإيزيديين والتركمان، عن ظروف كتابة الدستور والضغوط التي تعرضوا إليها خلال فترة صياغته.

وقال مقرر لجنة كتابة الدستور، ضياء الشكرجي، الذي استقال بعد خمسة أشهر من عمله في اللجنة، بسبب ما وصفها بـ"المضايقات"، لـ"العربي الجديد"، إن "تأثيرات كانت موجودة داخل اللجنة ساهمت بشكله (الدستور) الحالي". 

تأثيرات على أعضاء اللجنة

ووفقاً للشكرجي، فإن "التأثيرات على أعضاء اللجنة التي تتولى كتابة بنود الدستور كانت من قبل المجلس الأعلى الإسلامي، والائتلاف العراقي الموحد، بزعامة عبد العزيز الحكيم وهمام حمودي، وكانا يؤثران على أغلبية الأعضاء الذين يبلغ عددهم 55 عضوا"، وفقاً لقوله.

ضياء الشكرجي: التأثيرات على اللجنة كانت دينية سياسية، عملت على إضفاء طابع طائفي على الدستور

وأوضح أنها كانت "تصل إلى حد تزوير محاضر اجتماعات اللجنة، وما توصلت إليه في فترة إعداد المبادئ الأساسية للدستور العراقي". واعتبر أن "التأثيرات كانت دينية سياسية، عملت على إضفاء طابع طائفي على الدستور العراقي. وقد كانت معظم جلسات لجنة كتابة الدستور تعقد في منزل عبد العزيز الحكيم، برئاسة همام حمودي، وهو ما يؤكد مدى تدخل أهواء الإسلاميين في الدستور".

تركيبة اللجنة بنيت بغالبية شيعية

من جانبه، قال عضو لجنة كتابة الدستور سليم الجبوري، وهو أحد قيادات الحزب الإسلامي (الجناح السياسي لحركة الإخوان المسلمين) في العراق، إن "تركيبة لجنة صياغة الدستور بنيت في البداية بغالبية سياسية شيعية، وأضيف إليها لاحقاً 15 عضواً ممثلين عن المناطق السنية".

وبحسب الجبوري، الذي شغل لاحقاً منصب رئيس البرلمان، فإنه "خلال تلك الفترة كانت هناك هواجس متفرقة تسود مرحلة كتابة الدستور من كل الأطراف، القوى الشيعية والتجربة السابقة (نظام صدام حسين) في رئاسة الجمهورية، والهواجس الكردية للحفاظ على مصالح المكون الكردي، رغم أن الأعضاء الأكراد كانوا أكثر تنظيماً، وهواجس سنية من تفتيت العراق".

وأضاف الجبوري، لـ"العربي الجديد"، أن "طبيعة الضغوط كانت تأتي بشأن سرعة الإنجاز، لذلك كان الجانب الأميركي يضغط في سبيل إنهاء إنجاز الدستور".

وتابع: "حدثت خلافات أيضاً حول مفهوم السيادة، ووصف العراق إن كان عربياً أم إسلامياً، وحول الفيدرالية والتقسيم، وصلاحيات الأقاليم في الأمن والعلاقات الخارجية، وحتى ما تتضمنه بعض فقرات المادة 40 الخاصة بالأحوال الشخصية للفرد العراقي، وبعض الفقرات الخاصة بالطقوس الدينية، وتوزيع الثروات". 

وأشار إلى حصول "خلافات أكبر مرتبطة بتوزيع الصلاحيات الاتحادية، والمادة 115 الخاصة بحق التشريع. لذلك فإن الدستور بحاجة إلى إعادة هيكلة والنظر فيه، وليس هناك مانع في تغيير النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي بسبب الفوضى العارمة" في البلاد.

وبشأن المادة 140 من الدستور، قال الجبوري إن "الأكراد أقحموا هذه المادة، ولكن عادل عبد المهدي (عضو في اللجنة) استخدم مصطلح المناطق المتنازع عليها، المتمثلة بالمناطق المختلطة العربية الكردية. وأثارت جملة من الاستفهامات بشأن المصطلح. وكُتبت هذه المادة على مضض من قبل بعض الأطراف، وبقي الأكراد يصرون على ضرورة احترام هذه المادة".

في المقابل، أكد القاضي وائل عبد اللطيف، وهو أحد أعضاء اللجنة الأساسية، وجود ما وصفه "خللاً بنيوياً في الدستور". وأوضح عبد اللطيف، وهو نائب سابق عن البصرة، أن "هناك نصاً في الدستور يؤكد أن تكون التعديلات بعد مدة لا تزيد على أربعة أشهر من تاريخ انعقاد أول حكومة دستورية في البلاد، وذلك بناءً على طلب السياسي إياد السامرائي (عن الحزب الإسلامي العراقي)، لكن لم يتحقق التعديل بسبب الامتناع الكردي عن إجرائه".

توافق شيعي كردي لرسم شكل الدستور

وأضاف، لـ"العربي الجديد": "الحقيقة أن اللجنة اعتمدت في وقتها على التوافق الشيعي الكردي لرسم شكل الدستور، بالانطلاق من مفهوم حقوق المكونات، وهو مصطلح ورد مرة واحدة في ديباجة الدستور، في حين أُهمل مصطلح المواطنة الذي ذكرته المادة 14 من الدستور العراقي".

وأوضح أن "جميع اللجان التي تشكلت في العراق منذ عام 2005 ولغاية الآن لم تُوفّق في الوصول إلى صيغة مشتركة لعرض المواد المراد تعديلها على البرلمان، وهذا الفشل بسبب تعطيل مقصود من قبل جهات عديدة، حتى وصل الحال إلى اعتبار الدستور العراقي من الدساتير الجامدة".

سليم الجبوري: الأكراد أقحموا المادة 140 في الدستور

وأشار عبد اللطيف إلى أن الحديث الأخير لرئيس السلطة القضائية فائق زيدان بشأن إجراء تعديلات على الدستور "مهم جداً"، بسبب ما اعتبره "الكم الهائل من التفسيرات للمحكمة الاتحادية والقضاء الإداري للدستور". واتهم الأطراف السياسية الكردية بـ"تعطيل إجراء التعديلات، وتحديداً ما يتعلق بالمواد التي تمس حقوق الأقاليم".

الدستور عزز الطائفية

وأقر العضو الرابع في اللجنة وهو النائب يونادم كنّا بأن "الدستور العراقي عزز الطائفية في البلاد"، لكنه أكد أن ذلك "ليس بسبب أعضاء لجنة صياغة الدستور، بل بسبب المرجعيات السياسية للأعضاء، الذين أرادوا أن يدعموا مكوناتهم بنصوص تحمي حقوقهم".

وقال، لـ"العربي الجديد"، إن "القصة تعود إلى مرحلة حكم حزب البعث، وما حصل خلال تلك المرحلة من كوارث استهدفت الشيعة والأكراد، ومنها تجفيف الأهوار وحادثة الأنفال وغيرها، لذلك سعت المرجعيات السياسية إلى ضمان حقوق المكونات على حساب المواطنة".

وأشار إلى أن "المرجعيات السياسية التي أثرت على كتابة الدستور كانت تقصد إحداث هذا الفارق في النصوص، والتقاطع والتناقض أيضاً. إذ إن في الدستور نحو 50 مادة بحاجة إلى تغيير، وهناك مواد بحاجة إلى تعديل لغوي، خصوصاً تلك التي تدعو إلى أسلمة الدولة، في حين أن فقرات أخرى تنص على احترام التعددية والديمقراطية. وبالتالي فإن هذه النصوص غير واضحة".

وأشار إلى أن "التوجه الديني والقومي في الدستور العراقي شاخص (ظاهر)، لكن للأسف لا تزال المرجعيات السياسية للأحزاب العراقية بذات التوجه، وهناك صعوبة في إجراء أي تعديلات، لا سيما في ما يتعلق بصلاحيات الحكومة المركزية، والنفط والغاز في مناطق شمال العراق، وقضية المناطق المتنازع عليها".

بهاء الأعرجي، عضو لجنة كتابة الدستور عن "التيار الصدري"، آنذاك، قال لـ"العربي الجديد"، إن "أجواء كتابة الدستور شابتها خلافات بدأت من ديباجة الدستور وطبيعة النظام مروراً بالمبادئ والسلطات".

خلاف حول هوية الدولة وديانتها

وأضاف: "لكنّ أهم ما جرى الخلاف عليه هو هوية الدولة العراقية وديانتها وتشريع القوانين، بما لا يتقاطع مع الشريعة الإسلامية وحقوق الإنسان، وصلاحيات رئيسي الجمهورية والوزراء، واجتثاث حزب البعث، وقانون النفط والغاز، والمادة 140 الخاصة بالمناطق المتنازع عليها بين الأكراد والعرب، برغم كونها تمثل حلاً للأزمة، لكن الخلافات استمرت بسبب التوتر الأمني والمخاوف السياسية".

وأوضح الأعرجي أن "السنّة لم يكن لديهم من يمثلهم في كتابة الدستور، وكان هناك مطالبات من بعض الدول العربية وسفارتي الولايات المتحدة وبريطانيا بإدخالهم، إلى أن توصلنا إلى صيغة لإشراكهم في لجنة الكتابة".

ووصف الدستور العراقي بأنه "من أفضل الدساتير التي كتبت في المنطقة، والمشكلة ليست في المواد، بل في آلية تنفيذه وطريقة تفسيره، لا سيما أن هناك تفسيرات سياسية، الأمر الذي تسبب بالتجاوز على الدستور لعشرات المرات". 

واعتبر أن "عملية تعديله ستجبرنا على الاتجاه بنفس الإجراءات، وهو ألا ترفضه ثلاث محافظات، لكن يمكن جمع المواد المختلف عليها وإرسالها إلى المحكمة الاتحادية للوصول إلى تفسير منطقي وعلمي وواضح".

وكان البرلمان السابق قد قرر، في 28 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، تشكيل لجنة لتعديل الدستور على خلفية تصاعد الاحتجاجات الشعبية في البلاد، وكان مطلب تعديل الدستور أحد أبرز المطالب. 


وائل عبد اللطيف: اللجنة اعتمدت على التوافق الشيعي الكردي لرسم شكل الدستور

وأقر البرلمان أربعة أشهر لعمل اللجنة، لكن بعد مرور أكثر من عامين لم يتم اعتماد أي توصيات نهائية للجنة بسبب خلافات بين أعضائها، وذهاب آخرين إلى طرح فكرة إجراء تغييرات كبيرة في الدستور، منها التحول للنظام الرئاسي والتخلي عن النظام البرلماني، وأيضاً تعزيز سلطة بغداد وصلاحيات رئيس الجمهورية، وهو ما رفضته القوى الكردية في إقليم كردستان.

وأوضح الخبير في الشأن الدستوري العراقي علي التميمي أن الدستور "كُتب في وقت قياسي، فكتابته لم تتجاوز ستة أشهر فعلياً، وهذه الفترة لا تكفي لكتابة قانون واحد. وبالتالي فإن الدستور مليء بالمثالب (عيوب)".

وبيّن لـ"العربي الجديد" أن "المواد الواردة في الدستور غلّبت الجوانب السياسية على الدستورية منها. كما أن العراقيين الذين صوتوا على الدستور، لم يكونوا على علم كاف ببنوده، فيما لم يحصل أصلاً على النسبة المثلى للتصويت. وكان من المفترض أن يكون دستوراً مؤقتاً وليس دائماً، لكن الإرادة السياسية هي المتحكمة في العراق وليست قوة القانون".

تقارير عربية
التحديثات الحية
المساهمون