- الملاحقات السياسية تطال مختلف شرائح المجتمع، مع تقديم 159 لائحة اتهام أغلبها في القدس، بينما تظاهرة يوم الأرض تُظهر تحدياً للسياسات القمعية وكسر حاجز الخوف.
- مؤسسة ميزان ونقابة العمال العرب تدافعان عن المعتقلين والمفصولين بسبب تعاطفهم مع غزة، مشيرة إلى تغيير في سياسات النيابة والمحاكم نحو التشدد، وتخلق الإجراءات التعسفية جواً من التخويف في المجتمع العربي.
بعد ستة أشهر من حرب غزة، لا تزال السلطات الإسرائيلية تفرض سياسة تكميم الأفواه والملاحقات السياسية ومنع التظاهر والاحتجاج وحتى التعبير عن الرأي بمنصات التواصل الاجتماعي وإسكات صوت الرافضين للحرب على غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وتستخدم السلطات الإسرائيلية الاعتقالات الإدارية والتعسفية، وتلاحق المنشورات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ما أدى إلى اعتقال العشرات بسبب تعاطفهم مع غزة، وهو ما رأت به المؤسسة الإسرائيلية تحريضاً وتماهياً مع "حركة إرهابية"، في إشارة إلى حركة حماس. فترة يشبّهها الكثيرون بفترة الحكم العسكري التي فُرضت على فلسطينيي الداخل منذ عام النكبة (1948) حتى سنة 1966.
وتطاول الملاحقات كافة شرائح المجتمع من عمال وموظفين وأطباء ومحاضرين وطلاب الجامعات العرب في الداخل الفلسطيني، وكل من همس أو علّق أو نشر منشوراً أو تظاهر. ووفق معطيات النيابة العامة الإسرائيلية حتى 4 إبريل/نيسان الحالي تم تقديم 159 لائحة اتهام، 98 من بينها في مدينة القدس المحتلة، تنسب لغالبية المتهمين تهمة التحريض والتماهي مع "حماس"، وما زال الغالبية منهم في الاعتقال الفعلي، وجزء قليل في الإقامة الجبرية.
لكن تظاهرة يوم الأرض، والتي نظمت في الذكرى الـ48 في 30 مارس/آذار الماضي بمشاركة الآلاف ورفع العلم الفلسطيني في مسيرة بقرية دير حنا تحت شعار أوقفوا الحرب على غزة، تأتي لتبيّن أن حاجز الخوف قد كُسر، ما يشير إلى تغيير في السلوك بالداخل الفلسطيني، علماً أن فلسطينيي الداخل كانوا قد اعتمدوا الحذر في أدائهم بعد الاعتقالات التعسفية من قبل المؤسسة الإسرائيلية منذ بداية الحرب.
وتترافع مؤسسة ميزان الحقوقية عن المعتقلين من الناشطين السياسيين إلى العمال والطلاب الجامعيين العرب. ويقول مدير مؤسسة ميزان، عمر خمايسي، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "مقولة ما بعد 7 أكتوبر ليس كما قبله، ليست شعاراً إنما كانت موجودة على أرض الواقع، فوجدنا أن المؤسسات الرسمية والشرطة تعاملت مع المجتمع العربي بقبضة حديدية تجاه كل ما سمي بمخالفات التعبير عن الرأي أو التحريض، وقُدّمت عشرات لوائح الاتهام ضد أبناء شعبنا بسبب المنشورات". ويوضح أن الأمر نفسه كان قائماً في المحاكم، "التي تعاملت بقسوة وبتشديد أكثر مما قبل 7 أكتوبر، فأصبحت العقوبات مشددة بشكل أكبر".
ويلفت خمايسي إلى أن "النيابة العامة الإسرائيلية والمدعي العام عمّما أن سياسات النيابة العامة هي التشدد في الملفات ما بعد 7 أكتوبر، والمحاكم أخذت بهذا الأمر، ولذلك نحن نعيش في أجواء هي بالفعل طوارئ وحرب في هذه الأمور وفيها مساس صارخ بالحقوق الأساسية". ويشير إلى أن "مئات الاعتقالات حصلت، وجزءا كبيرا من المعتقلين أفرج عنهم، لكن الاعتقالات خلقت جواً من التخويف والإرهاب في مجتمعنا لمنعه من التعبير لدعم الإنسانية".
خمايسي: مئات الاعتقالات حصلت، وخلقت جواً من التخويف والإرهاب في مجتمعنا لمنعه من التعبير لدعم الإنسانية
ويعتبر خمايسي أن "المجتمع العربي عاد إلى فترة الحكم العسكري الذي انتهى في 1966، ولكن هذه المرة بطريقة أشد، عبر منع التظاهرات والاحتجاجات، وملاحقة الطلاب الجامعيين من قِبل لجان الطاعة بسبب منشورات وكتابات على مواقع التواصل الاجتماعي". (لجان الطاعة موجودة داخل الجامعات وهي تطبّق القانون التأديبي لأنظمة كل جامعة، وتتكون من محاضرين وعميد الطلبة عامة، لكن تختلف تركيبتها من جامعة لأخرى). ويتابع: "كذلك الأمر مع المشغلين الذين قاموا بفصل العمال العرب الذين عبّروا بتعبير إنساني، كمطالبتهم بوقف الحرب على غزة ونشر صور أطفال ونساء في غزة، وهذه الظروف جعلت المجتمع العربي مجروحاً بسبب هذه الضربات التي استهدفته".
أما عن التغيير في القضاء الإسرائيلي، فيقول خمايسي إن "كل شيء تغير في المحاكم من إجراءات وقرارات، وكذلك في الجامعات وأماكن التشغيل وحتى في السجون، كما أن الملاحقات طاولت المحامين العرب الذين قُدمت ضدهم شكاوى وتم اعتقالهم، فيما آخرون تم تقديمهم إلى لجان الطاعة في نقابة المحامين وفتحت ملفات للفصل والعقوبة ضدهم"، مضيفاً "الأمور اختلفت ما بعد 7 أكتوبر، والذين اعتُقلوا عاشوا معاناة كبيرة، وكانت أسوأ فترة مرت على الحركة الأسيرة". ويختتم خمايسي بالإشارة إلى أن "الصورة لا تزال سوداوية، وهناك سياسة تكميم للأفواه، فبينما ظن البعض أنهم يستطيعون التعبير عن مواقفهم نجد اليوم بسبب السياسات القمعية أن هناك تكميماً للأفواه، والناس لا تستطيع أن تطلق حملة إغاثة لأهل غزة".
ويشهد الداخل الفلسطيني إقالة عمال وموظفين عرب بسبب التعبير عن تعاطفهم مع غزة. ويقول مدير نقابة العمال العرب في الناصرة وهبة بدارنة، لـ"العربي الجديد"، إن "نقابة العمال العرب في الناصرة عالجت منذ 7 أكتوبر حتى نهاية فبراير/شباط الماضي 328 حالة، وجميع الحالات كانت لعمال وموظفين تمت إقالتهم من أماكن العمل بسبب منشورات على شبكات التواصل الاجتماعي للتعبير عن موقف سياسي أو تضامن وتعاطف مع غزة، أو بسبب تحدث العمال فيما بينهم باللغة العربية في مكان العمل". ويلفت إلى أنه "تم تقديم 76 ملفاً إلى محاكم العمل، وهناك 66 حالة جرى فيها المثول أمام لجان الطاعة".
ويوضح أن "المجموع الكلي للعمال الذين فُصلوا من العمل للأسباب المذكورة 218 عاملاً وموظفاً، أما البقية فقام المشغل بإعادتهم إلى العمل وفق الحالات التي وصلت إلينا"، مضيفاً أن "سياسة الترهيب والقمع أدت إلى دفع الناس لعدم التعبير عن مواقفها السياسية". ويخلص إلى أن "المؤسسة الإسرائيلية فرضت الأنظمة التي ورثتها عن الانتداب البريطاني والتي أتاحت لها فرض الاعتقال الإداري والإقامة الجبرية والاعتقال بسبب الكلمة، وهذا أدى إلى دفع الناس لأخذ حذرها، وهو النهج السياسي نفسه الذي استُعمل في فترة الحكم العسكري في الستينيات".
لكن هل فشلت المؤسسة الإسرائيلية في ترهيب فلسطينيي الداخل؟ يقول رئيس حزب التجمع الوطني الديمقراطي سامي أبو شحادة، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن الجواب عن هذا السؤال مركّب جداً لأن الحالة متداخلة وصعبة جداً في الداخل الفلسطيني، مضيفاً "نحن أبناء الشعب نفسه، والبدو في النقب لهم علاقات قرابة كثيرة بغزة، فالعلاقات بين بئر السبع وغزة تاريخية وجزء كبير تهجر إلى غزة، وكانت هناك علاقات زواج بعد النكبة". ويلفت إلى أن "تمادي حكومة إسرائيل في الجرائم جعل الناس لا تستطيع التحمل، وطول أمد الحرب في غزة أثّر على الناس، وهذا ما كسر من حاجز الخوف والترهيب". ويشير إلى أن "بشاعة الحرب والجرائم اليومية ومتابعة الناس في الداخل الفلسطيني لهذه الأخبار يومياً، والثمن الكبير الذي تدفعه غزة، جعل أي ثمن يُدفع في المقابل لا شيء، حتى بالنسبة للناس البسيطين".
أبو شحادة: من ناحية الدولة هناك مصلحة لعدم التصعيد وإتاحة مساحة للتعبير، خوفاً من أن تنفجر الأمور بشكل كبير
ويرى أبو شحادة أن "إسرائيل فهمت أن كثرة الضغط تؤدي إلى الانفجار، ولذلك في التظاهرات الأخيرة، في مجد الكروم ودير حنا ومسير سخنين، لم يكن هناك تواجد لقوات الأمن أمام المتظاهرين، وبالتالي من الواضح أنه من ناحية الدولة هناك مصلحة لعدم التصعيد وإتاحة مساحة للتعبير، خوفاً من أن تنفجر الأمور بشكل كبير، ولا تستطيع الدولة أن تسيطر عليها".
وعما إذا كان هناك اختلاف في سياسة السلطات الإسرائيلية في بداية الحرب وفي الشهرين الماضي، يؤكد أبو شحادة أن "هناك اختلافاً وتغييراً في الفترة الأخيرة، لكن الأمور مركّبة، إذ تستمر ملاحقة القيادة حتى اليوم، وشهدنا ذلك في زيارة وفد لجنة المتابعة للمسجد الأقصى قبل أيام وما تعرضوا له من اعتداء وتضييقيات". ويلفت إلى أن "لجنة المتابعة وخوفاً من أن تتحول المرحلة الأولى للملاحقة والضغط إلى حالة ثابتة، قررت رفع النضال بشكل تدريجي، مثلاً في تظاهرة كفر كنا كان تحديد لعدد المتظاهرين لكن المشاركين كانوا أكثر، وكذلك الأمر في تظاهرة مجد الكروم، وفي مسيرة يوم الأرض الأخيرة بدير حنا كذلك وتم رفع العلم الفلسطيني".
سياسة الملاحقة لم توفر أيضاً الطلاب الجامعيين من الداخل الفلسطيني الذين يدرسون في الجامعات الإسرائيلية، وكانت لهم حصة الأسد من الملاحقات السياسية من قبل إدارة الجامعات والطلاب الإسرائيليين أيضاً. ويقول المحامي في قسم الحقوق السياسية والمدنية في مركز عدالة عدي منصور، لـ"العربي الجديد" إنه "كان هناك قرابة 160 ملفاً للجان الطاعة وفق معطيات هيئة الطلاب القطرية"، مضيفاً "نحن في مركز عدالة مثّلنا 95 طالباً عربياً يدرسون في الجامعات والمؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية، وذلك على خلفية تفاعل الطلاب ونشر منشورات على منصات التواصل الاجتماعي تعاطفا مع غزة". ويتابع: "حتى الآن تمت تبرئة 50 في المائة من الملاحقين، والجلسات ما زالت مستمرة في لجان الطاعة، ووصلنا ملفان إضافيان في الأسبوع الأخير".
ويشرح أن "35 مؤسسة أكاديمية أطلقت إجراءات لجان طاعة على خلفية منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، فيما لم يُقدّم أي طالب للجان على خلفية مخالفة بالتعليم أو تظاهرة داخل الجامعة، بل فقط بسبب المنشورات". ويعتبر أن "الإجراءات التعسفية التي تتخذها مؤسسات أكاديمية إسرائيلية بحق الطلاب على خلفية آرائهم الشخصية تندرج في إطار سياسة الملاحقة السياسية والمس بالحق الدستوري في التعبير عن الرأي"، مشيراً إلى أن "الجامعات وسّعت صلاحياتها بشكل مناقض للقانون عن طريق مخالفات لجان الطاعة، وتم تحويل الحيز الخاص للطلاب، أي منصات التواصل الاجتماعي، إلى جزء من الحيز الجامعي".
ويلفت منصور إلى أن "هذه الشكاوى قُدّمت بدعم وتشجيع من قبل اتحاد الطلاب الإسرائيلية ومختلف التنظيمات اليمينية، وذلك بعد إعلان إدارات العديد من المؤسسات أنّها لن تتسامح مع أي منشورات "تحريضية" تتماثل مع منظمات إرهابية"، مضيفاً "هناك طلاب تمت معاقبتهم على نشر آيات قرآنية وتم اتهامهم وإدانتهم لأنها نفس الآيات التي استعملتها ونشرتها حماس". ويوضح أن "غالبية العقوبات تمثلت بإبعاد الطلاب عن مقاعد الدراسة، ووفق المعطيات أكثر من 98 في المائة من لجان الطاعة كانت لطلاب عرب، وفقط كان هناك ملفان ضد طلاب يهود جامعيين، فيما لم تقدّم أي لائحة طاعة ضد أي طالب يهودي بتهمة التحريض على إبادة الشعب الفلسطيني".
وعن السلوك السياسي لفلسطينيي الداخل منذ الحرب على غزة وهل فشلت المؤسسة الإسرائيلية في ترهيبهم، يقول رئيس لجنة المتابعة لفلسطينيي الداخل محمد بركة، لـ"العربي الجديد"، إن "إسرائيل تمارس إرهاباً واحداً على كل أبناء الشعب الفلسطيني لكن بوسائل متعددة، فهناك الإرهاب الأكبر وهو جريمة الإبادة التي يتعرض لها شعبنا في غزة، وهناك المجزرة اليومية التي يتعرض لها شعبنا في الضفة الغربية من قبل الجيش والمستوطنين، وهناك ما تتعرض له القدس يومياً من تهويد واقتحامات للمسجد الأقصى وتحديد الوصول إلى كنيسة القيامة في عيد الفصح".
بركة: لن نسمح بأي شكل أن يجري التطاول على انتمائنا الوطني، وأن يجري قمع حقنا في التعبير
ويلفت إلى أنه "بالنسبة لنا في الداخل الفلسطيني، فإن الإرهاب يتخذ أشكالاً ووسائل مختلفة، فهناك قمع منذ بداية الحرب لأي تحرك سياسي شعبي، ونحن واجهنا هذا القمع وهذا المنع خلال التظاهرات التي رأينا أن علينا القيام بها وفاءً لانتمائنا وشعبنا ونصرة للقيم الإنسانية والوطنية التي نحملها". ويتابع: "إلى جانب ذلك نحن واجهنا القمع في أماكن العمل وفي الجامعات وضد الطلاب وضد المحاضرين، وواجهنا قمعاً واضحاً على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي، وكانت هناك اعتقالات وتهديدات"، معتبراً "هذه الانتهاكات اليومية لنا ولحقوقنا بمثابة إعلان حرب إضافية على شعبنا لكن بوسائل مختلفة هنا في الداخل".
ويلفت بركة إلى "أننا منذ أسابيع نصرّ على تنظيم تظاهرات، مرة في كفر كنا ثم في مجد الكروم، وكانت التظاهرة الكبرى في يوم الأرض التي أعادت الأمور إلى نصابها"، مضيفاً "إسرائيل حاولت على مدار أشهر خفض السقف الكفاحي وسقف حقوقنا في التعبير، ولكن يوم الأرض جاء ليضع السقف في مكانه من ناحية المشاركة الجماهيرية ومن ناحية الشعارات التي تدين الحرب والإبادة، ومن ناحية علم فلسطين الذي رُفع في هذه المسيرة".
ويشدد على "أننا لن نسمح بأي شكل أن يجري التطاول على انتمائنا الوطني، ولن نسمح بأي شكل أن يجري قمع حقنا في التعبير، وبخفض السقف الذي نناضل من خلاله، ولن نقبل أن نكون مجرد كائنات أليفة في حظيرة الصهيونية"، مضيفاً "هذا الأمر لم يحدث في أوقات أصعب في الماضي ولن يحدث الآن على الرغم من القمع والتهديد والانتهاكات والاعتقالات".