تصريح الرئيس الأميركي جو بايدن بأنّ واشنطن لن تزوّد أوكرانيا بأنظمة صاروخية بعيدة المدى تطاول الأراضي الروسية، فاجأ صقور التسليح بقدر ما أثار اعتراضهم. فهو غير متسق مع خطاب إدارته الذي طالما شدّد على وجوب تكثيف الدعم العسكري لأوكرانيا، والذي تجسّد بصدور قانون الأربعين مليار دولار قبل أيام.
وزاد من الاستغراب أنه جاء في لحظة احتدام المعركة في دونباس، إذ كان من المفترض أن ينصب تأكيد الرئيس خلالها على أهمية الإسراع في الامدادات العسكرية الأميركية الجديدة لأوكرانيا وليس على عدم تزويدها بهذه الصواريخ. وبذلك بدا وكأن هناك بوادر تحوّل في ضوء التسليم الضمني بأنّ الأمور محسومة لصالح موسكو، وسط مخاوف أميركية من انقلاب وجهة الحرب من التعثر الروسي إلى التعثر الأوكراني.
وفاقم القلق بداية ظهور علامات "تشقق" كما يتردد في وحدة الموقف الأوروبي، ظهرت بداياته في خروج المجر وسلوفاكيا عن الإجماع الأوروبي لمقاطعة 90% من النفط الروسي مع نهاية العام الجاري، فيما جرى ربط ذلك بخلافات "حول تزويد أوكرانيا بأسلحة نوعية فعالة قد تطيل أمد النزاع"، إضافة إلى تعاظم كلفة الحرب لجهة ارتفاع أسعار الطاقة ومعدلات التضخم.
ما استوقف في تصريح الرئيس بايدن أنّ هذه الأنظمة الصاروخية "على الأقل التي يصل مداها إلى ما بين 20 إلى 30 ميلاً، ضرورية لصد الهجوم الروسي المعتمِد في تقدمه على كثافة نيران المدفعية"، كما يقول الجنرال المتقاعد ستيفن تويتي.
حجب هذا السلاح عن القوات الأوكرانية أثار التساؤل عن السبب. هل للضغط على كييف لحملها على الاستعداد للدخول في تسوية مؤلمة، لأن الحرب وصلت إلى نقطة باتت تستدعي اجتناب مخاطرها الأوروبية، أو لتصحيح حسابات تهديدها للنظام الدولي؟ الاثنان على الأرجح، حسب التداولات الجارية في الموضوع.
برغم موجة التفاؤل بما حققته القوات الأوكرانية في البداية إثر فرضها التراجع على القوات الروسية وردها إلى الشرق، بقي التخوف قائماً في واشنطن من موجات هجومية لاحقة تزج فيها موسكو بالمزيد من قدراتها العسكرية الوفيرة.
هذه المخاوف بدأت تتحقق الآن في تطورات دونباس التي لا يَستبعد خبراء عسكريون، أن تواصل بعدها القوات الروسية قضمها للمناطق الأخرى بحرب استنزاف طويلة المدى. كما لا يستبعد هؤلاء أن تخرج الأمور من تحت السيطرة في الآتي غير البعيد لتهدد ليس فقط أوكرانيا كلها؛ بل أيضاً "الاستقرار الأوروبي" بكامله، حسب هنري كيسنجر.
دعوة كيسنجر الأسبوع الماضي في منتدى دافوس العالمي، إلى مفاوضات قريبة خلال شهرين "على أساس الأمر الواقع" (التسليم بالقرم ومقاطعتي دونيتسك ولوغانسك لروسيا)، لاقت من توقف عندها بالرغم من استفظاعها عموماً بدعوى أنها مكافأة للمعتدي.
ففي العمق ليس في واشنطن اطمئنان للخيار العسكري الأوكراني خارج إطار الدفاع. وهذا في أحسن أحواله محكوم في النهاية بالتفاوض على تسوية، فيما سلمت الإدارة بذلك مبكراً عندما سبق لها وباركت المفاوضات وتركت أمرها وتنازلاتها لأوكرانيا وقيادتها.
والآن بعد بداية التحول الميداني ولو البطيء والمحدود، يبدو أنه آن أوان هذا الخيار، وربما كانت ممانعة بايدن بشأن هذه الأنظمة الصاروخية إشارة أولية في هذا الاتجاه أكثر مما هي "استجابة للتغيير الذي أجرته موسكو في تكتيكها الميداني"، كما قال الناطق باسم الخارجية الأميركية نيد برايس والذي كان مرتبكاً في تفسيره لذلك.
بعد تجربة الأشهر الثلاثة وما حملته من مخاطر أمنية غير اعتيادية، تجددت صحوة بعض النخب الأميركية والأوروبية على أهمية عدم قطع الشعرة مع روسيا برغم عمق الخصومة الراهنة معها. فهي بالانتماء "أوروبية أصلاً" ولعبت "دوراً متوازناً" لا يجدر بالقارة أن تنساه كما قال كيسنجر، وبالتالي لا بد من عدم نسف الجسور معها لأنه "بإمكانها العودة إلى مكانها الأوروبي" كما قالت أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية في خطابها، الأسبوع الماضي، بمنتدى دافوس.
يُذكر أنّ زبغنيو بريجينسكي مستشار الأمن القومي للرئيس السابق جيمي كارتر، كان يقول إنّ "موسكو راجعة إلى أوروبا وإن بعد فترة اضطراب حادة وطويلة معها". هذه المقاربة تحضر اليوم بمواجهة النقمة العارمة على موسكو بوتين وحربه في أوكرانيا، في جوهرها دعوة إلى اليقظة والاستدارة إلى "الخطر الحقيقي الذي تمثله الصين وليس روسيا على النظام الدولي الذي صممته أميركا والسائد منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية".
وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أقرّ بذلك، عندما قال إنّ الصين تمثل "التهديد الأقوى لأنها الوحيدة التي تملك النية والقدرة لإعادة تشكيل النظام الدولي". ما يعني الإطاحة بالنظام القائم. ترجمة ذلك، أنّ الآخرين ومنهم موسكو، يفتقرون للشروط اللازمة للعب مثل هذا الدور.
وبالتالي، فإنّ اتهام روسيا بالعمل على تخريب النظام الدولي، صار بلا حيثية تمكنه من الوقوف على رجليه. وعليه صار التصحيح ضرورياً وممره التسوية في أوكرانيا "على أرضية الأمر الواقع". اختيار صعب في ضوء الارتكابات الروسية (التي لا يعفى توسيع الناتو من بعض مسؤوليتها) واحتمالاته أصعب. لكنه مطروح.