قطاع غزّة بين المخطط الصهيوني والطموح المصري

25 يونيو 2023
إشعال الإطارات ورفع العلم في غزة احتجاجا على جرائم الاحتلال (على جاد الله/الأناضول)
+ الخط -

ما زال موضوع قطاع غزّة يقض مضاجع إسرائيل، بالرغم من كثرة مشاغلها الداخليّة خاصةً والخارجيّة أيضًا. والسؤال المركزيّ المطروح هنا: ماذا تريد إسرائيل من القطاع؟ وهي تدّعي أنّها غادرته منسحبةً قبل عقدٍ ونصفٍ من الزمن وأكثر.

على ما يبدو أنّ القطاع ذا الـ365 كيلومترًا مربعًا يحمل رسائل عسكريّةٍ واقتصاديّةٍ واجتماعيّةٍ، تتعلّق بأجندة حكومة إسرائيل، ومنظومتها الأمنيّة.
مقابل ذلك، بل بالتوازي معه: ما هي استراتيجيّة مصر بالنّسبة للقطاع آنيًّا ومستقبليًّا؟ وهو سؤالٌّ مهمٌ يشغل بال السّاسة في مصر منذ فترةٍ طويلةٍ.

في واقع الأمر، سنبدأ بالنظر إلى الحادث الأخير، الذي حرّك المّوضوع، ألا وهو إطلاق شرطيٍّ مصريٍّ الرّصاص على عددٍ من المجندين الإسرائيليّين في معبر العوجا بين سيناء والنقب. إذ أصدرت الحكومة المصريّة بيانًا، أوضحت فيه أنّ الشرطيّ واجهَ مجموعةً من المهرِّبين، وتصدى لهم بسلاحه، في حين أنّ إسرائيل تُصرّ على اعتبار الحادث عمليّةً موجهةً ضدّ جنودها. فمهما كان السبب وخلفيته، إلّا أنّ ما جرى هناك فتح ملف الحدود من جديد، وأيضًا أعاد إلى الواجهة قضيّة القطاع، بعد أقل من شهرٍ على العدوان الإسرائيليّ عليه.

أنّ فك الحصار وإتاحة حرية الحركة والتنقل ستوفر الكثير من فرص العمل، وترفع الإنتاجيّة الفلسطينيّة، والمكاسب الإسرائيليّة والمصريّة على حدٍ سواء

وهنا علينا فهم مصالح إسرائيل بكافّة مكوّناتها. فإسرائيل لا تريد العودة إلى القطاع، والتعامل مع القضايّا الإداريّة الحياتيّة فيه، بل تريد الإبقاء على حصارها للقطاع لتتحكّم فيه من خارجه، وعن بُعدٍ وبواسطة وكلاء.
وتقف أمام إسرائيل أربع سيناريوهات، هي:
1.    الحفاظ على ستاتيكو – الوضع الراهن مع حركة حماس، كحكومةٍ للقطاع، وتتعامل معها بوساطةٍ مصريّةٍ.
2.    تسديد ضرباتٍ محدِّدةٍ تمنع حماس وفصائل أخرى من خوض مواجهةٍ مباشرةٍ معها.
3.    القيام بحملةٍ/ عمليّةٍ عسكريّةٍ واسعةٍ في القطاع.
4.    احتلال القطاع وحسم الأمر مع حكومة حماس والفصائل الفلسطينيّة الأخرى.

ما نراه في المخطط الإسرائيليّ هو تنفيذ السّيناريوهين الأوّلين. بمعنى أنّ إسرائيل تستخدم العوائق كأدوات سيطرةٍ ومراقبةٍ وتوجيهٍ، ومنها منع دخول الأموال القطريّة إلّا بشروطٍ تُحقّق من خلالها بعضًا من مصالحها، إغلاق المعابر لفتراتٍ زمنيّةٍ ضاغطةٍ، وتقليص مساحات الصيد في بحر غزّة، لخلق حالةٍ من الضغط الداخليّ في الشارع الفلسطينيّ داخل القطاع.

أما الثّاني فإنّنا نلاحظ أنّ إسرائيل منذ انسحابها أحاديّ الجانب من القطاع لم تقم بعمليّةٍ عسكريّةٍ واسعةٍ جدًّا تطغى على كّل القطاع، إنّما عملياتٍ مُحدّدة الأهداف مستخدمةً سلاح الجو، والصواريخ قصيرة المدى، والقنابل المدمّرة بهدف خلق مشهدٍ تدميريٍّ يردع الفلسطينيّين عن القيام باعتداءاتٍ أو عملياتٍ ضدّ المستوطنات الإسرائيليّة، أو حتى ضدّ البلدات الإسرائيليّة في العمق.

إزاء ذلك تُمْسِك إسرائيل بيدها قائمة تسهيلاتٍ، تضمن بواسطتها سير عجلة الحياة اليوميّة في القطاع دون بلوغ مرحلة التمرد أو التحرُّك الأوسع. وهي بذلك تتعامل مع المسؤولين في حماس بواسطة تطبيق مبدأ "العصا والجزرة". وهذا ما رأيناه في الاعتداء الإسرائيليّ الأخير على قطاع غزّة، وحركة الجهاد الإسلاميّ تحديدًا.

لكن إسرائيل تبحث دائمًا عن بدائل أخرى لإدارة الصراع مع القطاع، ومن بينها اقتراح تسليم القطاع لإدارةٍ مصريّةٍ، استنادا إلى أن لمصر علاقةً تاريخيّةً حديثةً نسبيًّا مع القطاع، بين 1948 و1967 بإدارتها القطاع وفق نظامٍ عسكريٍّ. تروج إسرائيل لاقتراحها هذا انطلاقاً من تشابهاتٍ كثيرةٍ بين القطاع ومصر، من حيث اللغة والدين والعادات وغيرها.

لكن مصر رفضت مثل هذا المقترح جراء وضعها الاقتصاديّ الحساس في الآونة الأخيرة، فلماذا تتبنّى منطقةً وشعباً أكثر من نصفه تحت خط الفقر، كذلك فإن الحرب في أوكرانيا تُلقي بظلالها على مصر، وهذا يُثقل كاهل الاقتصاد المصريّ، الذي يعاني كما أشرنا إلى ذلك آنفاً.

من جهةٍ أخرى، تسأل إسرائيل نفسها: هل يمكن للسلطة الفلسطينيّة في الضّفّة الغربيّة إدارة الحكم فعليًّا في القطاع؟ طبعًا، هذا مستحيلٌ بفعل الانقسام الجاري. حتى أنّ إسرائيل بطرحها مثل هذا الافتراض ترفضه في نهاية الأمر، لكون السّلطة تُعاني من أزماتٍ عدّةٍ، أضعفتها وقلصت حضورها على أرض الواقع.

تعمل إسرائيل ضمن مخططاتها على الاستفادة من الحصار، ومن خنق القطاع عبر تشجيع هجرة الشباب الفلسطينيّ من غزّة إلى الخارج، وعدم إتاحة عودتهم. وهي، أيّ إسرائيل، بهذه الرؤية تعود إلى ما بعد حرب يونيو/ حزيران 1967 مباشرةً، عندما طرحت مشاريع تهجير عديدة، وخصوصًا لاجئين فلسطينيّين إلى الضّفّة الشّرقيّة، والهدف هو تذويب قضيّة اللاجئين، وعدم حلّها على حساب إسرائيل، كما تدّعي حكومات إسرائيل المتعاقبة، بل على حساب البلاد العربيّة، الّتي عليها تحمل عبء اللاجئين وفقاً لإسرائيل.

من جهةٍ أخرى، يلاحظ في الآونة الأخيرة استعداد إسرائيل لتسهيل عمليات تهجيرٍ بـ"الرضا"، من خلال التعاون مع حكوماتٍ أخرى بالخفاء. لكن من ينظر إلى المحيط الإقليميّ يلحظ أنّ الأردن يعانيّ من مشاكل اللاجئين السّوريّين، إلى جانب استضافته مخيمات اللاجئين الفلسطينيّين. ومصر تعاني من موجات النازحين من السودان، بفعل الحرب الدائرة هناك. وباعتقادنا إنّ إسرائيل تدرك أنّ سيرها في هذا الاتجاه، وفقاً لتجارب الماضي، فإنّها لن تحقّق إنجازًا يذكر، وذلك للتخفيف من الكثافة السكانيّة، الّتي يعاني منها القطاع.

السؤال المركزيّ المطروح هنا: ماذا تريد إسرائيل من القطاع؟ وهي تدّعي أنّها غادرته منسحبةً قبل عقدٍ ونصفٍ من الزمن وأكثر

مقابل هذه التخبُّطات الإسرائيليّة يبّرز الطّموح المصريّ؛ إذ تنظر مصر إلى القطاع كموقعٍ استراتيجيٍّ، يمكن استثماره ضمن سياق مشاريع تطويريّةٍ تقوم بها، أو تلك المخطط تنفيذها في السّنوات الخمس القادمة، ومن أبرزها، بل أهمّها، مشروع مدّ خطّ سكّةٍ حديديّةٍ من شرق بور سعيد، حيث المنطقة الصناعيّة، وصولاً إلى بئر العبد والعريش، ومن الأخيرة حتى رفح، ومنها إلى طابا في الجنوب. سيستغرق تنفيذ هذا المشروع خمس سنواتٍ لإتمامه.

إن عمليّة الربط هذه، على طول أطراف شبه جزيرة سيناء، ستُسهِّل سيطرة الدّولة المصريّة على حدودها، وخصوصًا أنها تعرّضت في العقد الأخير إلى انتشار حركاتٍ إرهابيّةٍ مدعومةٍ من القاعدة وغيرها. وبالتالي، ستنشط عمليات نقل البضائع من مصر إلى الأردن والخليج العربيّ. وبالتالي، تتحرك عجلة الاقتصاد في القطاع، وأهمّها توفير فرص عملٍ كثيرةٍ، ما يخفف ضائقة البطالة المتفشيّة في القطاع جراء الحصار الإسرائيليّ المستمرّ، وبنسبٍ مرتفعةٍ جداً.

مقابل ذلك، فإنّ هذا الخط المصريّ الطموح سيترك أثره البالغ على مشروع القطار الإسرائيليّ السريع، الساعي إلى ربط البحرين المتوسط والأحمر من خلال ميناء إيلات عند خليج العقبة.

المخطط الإسرائيليّ هو إضعاف أيّ محاولةٍ لتحسين وضع القطاع اقتصاديًّا، وذلك بهدف الإبقاء على عمليّة إخضاع الفلسطينيّين لإملاءات إسرائيل، وبالتوازي لخلق حالةٍ من التهالك الاجتماعيّ، والتقهقر النفسيّ عند الفلسطينيّين. فبواسطة المخطط الإسرائيليّ يمكن تطويق الضّفّة الغربيّة بمدّ خطٍ حديديٍّ من مدينة بيسان في الأغوار الفلسطينيّة حتى إيلات في أقصى الجنوب.

ينافس هذا الخط، وفقًا للتقديرات الإسرائيليّة، المشروع المصريّ المقترح، إذ ستعزز إسرائيل خطوات تطبيعها في العمق الخليجيّ، بواسطة ربط الخط الحديديّ المذكور عبر جسر اللنبي عند نهر الأردن، تحت مُسمّى "خط السّلام"، ومنه إلى دولة الإمارات العربيّة المتّحدة. وبالتالي، فإنّ فرص التعاون بين إسرائيل والمملكة الأردنيّة الهاشميّة ستكون واسعةً وجاذبةً ومفيدةً للاقتصاد الأردنيّ، الذي تعرّض، ولا يزال، إلى هزّاتٍ عميقةٍ وقاسيةٍ في السنوات الأخيرة. وبالتالي، ستتحوّل إسرائيل، وفقًا لهذا المخطِّط، إلى مُصدِّرٍ رئيسيٍّ لبضائعها ومنتجاتها لأسواق قريبةٍ وبكلفةٍ أقل من الأسواق البعيدة.

أيضًا، ستجعل إسرائيل من شبكة مواصلاتها البرية، الحديديّة والبحريّة والجويّة، محطة نقلٍ (ترانزيت) بين دول الخليج، ودولٍ في حوض المتوسط. وهذا التحول سيجعل أمن إسرائيل أقوى وبيدها مباشرةً.

كلّ هذه المشاريع سواء الإسرائيليّة أو المصريّة لا يمكن أنّ تتكلّل بالنجاح والسير بطريقٍ صحيحٍ وفقًا لمخططيها، إلّا بضمان التهدئة في القطاع.
ولتحقيق هذه التهدئة، رأينا كيفيّة معالجة إسرائيل للقطاع، من خلال حصاره أولاً، وثانيًا من خلال السعي إلى إضعاف الفصائل لدرجةٍ لن تقوى بعدها على إعادة بناء قوتها، وشحذ طاقات رجالها. ولتحقيق هذا الجانب رأينا أنّ إسرائيل تسعى إلى اضعاف حماس عسكريًّا، أو في الحد الأدنى تسعى لتحويلها إلى قوّةٍ غير فاعلةٍ ضدّ إسرائيل، وهذا فعلاً ما لمسناه في الجولة الأخيرة من العدوان الإسرائيليّ على القطاع. حين وجّهت إسرائيل ضرباتها إلى حركة الجهاد الإسلاميّ، بغيّة تصفية قياداتها، وتجفيف مواردها أيضًا.

لكن يبقى السؤال المحير لإسرائيل ولغيرها، بأنّ مثل هذه العمليات المحدّدة زمنيًّا ومكانيًّا ضدّ القطاع لن تؤدي إلى اجتثاث "الإرهاب الفلسطينيّ" كما تُسميّه إسرائيل، بل على العكس وفقًا لعددٍ من المحللين الاستراتيجيّين في إسرائيل نفسها، إنّ هذا العدد الكبير من العمليّات العسكريّة ضدّ قطاع غزّة لم تؤدِّ إلى أهدافها إلّا مؤقتًا، إذ نجحت الفصائل في تطوير ترسانتيها العسكريّة، من صواريخ ومقذوفاتٍ وذخائر، بل وطائراتٍ مسيرةٍ، تشكل في مجموعها خطرًا داهمًا على مستوطنات غلاف غزّة، وحتى في العمق الإسرائيليّ، كما حدث في العدوان الأخير وما قبله.

وبالتالي، فإنّ كلّ عمليّةٍ عسكريّةٍ، أيّا كان حجمها ومداها الزمنيّ والمكانيّ، لن تؤدي إلى حلٍّ جذريٍّ يضمن الأمن والأمان والهدوء لإسرائيل لفترةٍ طويلةٍ. وهذا ما لا تدركه القيادات السياسيّة والعسكريّة في إسرائيل، أو تتغاضى عنه كلّيّةً. وهناك من يتمسّك بفكرة أنّ استمرّار تمسُّك إسرائيل بسياسة الحصار والتضييق على الفلسطينيّين، مرده جعل القطاع حقلاً لتجاربٍ عسكريّةٍ، تقوم بها إسرائيل لفحص صناعاتها الحربيّة. وإلى اليوم لم يفحص هذا الجانب فحصًا موجّهًا ومُعَمّقًا، إلّا ما تدور حوله الشبهات والشّكّوك بما ورد عن هذا الموضوع من تلميحاتٍ في تقرير غولدستون.

وباعتقادنا إنّ موضوع تحويل القطاع برمّته أو جزءًا منه إلى حقل تجارب عسكريّةٍ، ليس ببعيدٍ عن التطلعات الإسرائيليّة الساعية إلى تحقيق صفقات بيعٍ لأسلحةٍ متطوّرةٍ مؤكِّدةً نجاعتها ودورها الفعليّ ميدانيًّا.

وهذا ما يؤكد لنا أنّ قطاع غزّة سيبقى شوكةً عالقةً في حلوق حكام إسرائيل ومصر وغيرهم من الدّول والحكومات، ما دامت القضيّة الرئيسيّة لم تجد طريقها إلى الحل. فالطرفان الإسرائيليّ والمصريّ لا يسعيان في ظلّ المتغيرات الحاصلة إقليميًّا ودوليًّا وميدانيًّا ومحليًّا في القطاع والضّفّة إلى التخلص من فكرة الحصار، والتعامل مع القطاع وفقًا لسياسات التهدئة والوساطة المصريّة والمال القطريّ لإعادة الإعمار، وتوفير الدعم والمساعدات للأسر الفلسطينيّة المحتاجة.

يلاحظ في الآونة الأخيرة استعداد إسرائيل لتسهيل عمليات تهجيرٍ بـ"الرضا"، من خلال التعاون مع حكوماتٍ أخرى بالخفاء

ومما لا شك فيه أنّ الاستفادة من هذا الحصار، رغم عدم تحقيقه الغاية العسكريّة والأمنيّة، إلّا أنّه يُحقّق الغايّة الاقتصاديّة. ففي القطاع قرابة مليوني فلسطينيّ هم بحاجةٍ إلى كّل سبل الحياة ومقوماتها، وهذه تمثّل عنصرًا رئيسيًّا في مداخيل خزينة القطاع وإسرائيل ومصر.

لكننا نعتقد، وفقًا لمعطياتٍ مؤكدةٍ، أنّ فك الحصار وإتاحة حرية الحركة والتنقل ستوفر الكثير من فرص العمل، وترفع الإنتاجيّة الفلسطينيّة، والمكاسب الإسرائيليّة والمصريّة على حدٍ سواء. لكن ستلحق بعض الأضرار في قطاعاتٍ أخرى، أبرزها، كما أشرنا، تراجع مزاعم إسرائيل أنها تعيش في خطرٍ، كما أنّها بحاجةٍ إلى ما يضمن أمنها وأمن شعبها. هذا يبقى لغز غزّة المُحيّر سياسيًّا وعسكريًّا وأمنيا.

المساهمون