أجج خطاب الرئيس التونسي قيس سعيّد أمام مجلس الوزراء، أمس الخميس، وحديثه عن قرب إصدار مرسوم لإصلاح المجلس الأعلى للقضاء، غضب القضاة بسبب ما يعتبرونه استهدافاً لهم ومحاولة تشويه صورتهم المتكررة، وكذا مخاوفهم من توجه سعيّد للسيطرة على القضاء بعد انفراده بباقي السلطات.
وهاجم سعيّد بلهجة قوية القضاة الذين يرفضون الانقلاب، مشددا على أنه لا دخل لهم في الانقلابات وعليهم التزام الصمت في إطار واجب التحفظ.
واعتبر سعيّد أن "لا وجود لدولة قضاة، بل هم قضاة الدولة"، مذكرا بأن "هناك مشرعا واحدا وليس آلاف المشرعين"، في إشارة إلى أنه أصبح ممسكا بالسلطة التشريعية بمفعول الأمر 117 بعد تعليقه عمل البرلمان وسحب سلطته التشريعية.
وشدد سعيّد على أن "المرسوم المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء، الذي تعده وزارة العدل، سيكون جاهزا قريبا وربما قبل الخميس المقبل"، بحسب تصريحاته.
وأثارت تصريحات سعيّد غضبا واسعا في صفوف القضاة من تكرار استهداف السلطة القضائية وتشويهها من قبل رئيس الدولة، محذرين من نواياه الإمساك بالسلطة القضائية وضرب استقلاليتها.
واعتبر الحقوقي والمحامي عبد الرؤوف العيادي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "القضاء هو الحصن الأخير الذي يبحث سعيّد عن اقتحامه وإسقاطه، وبذلك يستكمل الانقلاب أركان منظومة الاستبداد ويضع يده على كامل مفاصل الدولة".
وبيّن أن سعيّد "يعتبر نفسه الدولة ولا يؤمن باستقلالية السلطات والفصل بينها، وخطابه حول دولة القضاة التي يجب أن يكونوا قضاة الدولة يقصد به قضاة خاضعين له ولسلطته ليصفي بهم خصومه ومنافسيه".
ولفت إلى أن "معركة استقلالية القضاء ليست معركة القضاة وحدهم، بل هي معركة جميع التونسيين، للحيلولة دون تحقيق حلمه الشخصي في التربع على كل السلطات".
رفض أي مراجعة للمنظومة القضائية
وجدد المجلس الأعلى للقضاء في بيان، الأربعاء، رفضه مراجعة وإصلاح المنظومة القضائية بمراسيم رئاسية في إطار التدابير الاستثنائية ''المتعلّقة حصرا بمجابهة خطر داهم".
ونبّه المجلس إلى ''خطورة تواصل عمليات التشويه والضغط التي تطاول القضاة''، محذّرا من تبعات زعزعة الثقة في القضاء وفي عموم القضاة، حسب نصّ البيان.
ودعا البيان القضاة إلى "مواصلة التمسّك باستقلاليتهم وتحمّل مسؤولياتهم في محاربة الفساد والإرهاب، والبتّ في النزاعات في آجال معقولة".
واعتبر الرئيس الشرفي للقضاة الإداريين القاضي السابق أحمد صواب، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "استقلالية القضاء مضمنة في الدستور والقانون وهما نصان ساهمت الهياكل القضائية فيهما مساهمة كبيرة، وبنسبة عالية من التشاور مع السلطة التأسيسية ومع البرلمان خلال المدة من 2014 حتى 2019".
وأضاف أن "هذه الضمانات التي اقتلعناها في اعتصامات وجلسات الإنصات كانت هي المنتجة لاستقلالية القضاء التي تفوق في الدستور أكثر مما هو مضمن في الدستور الفرنسي".
وتابع صواب قائلا إن "استقلالية القضاء لم يمنحها أحد للقضاة، لا النهضة ولا قيس سعيّد، وهي تراكمات نضالية منذ عقود ولن يستطيع سعيّد المساس بها، فهو غريب عن الثورة وعن النضالات".
نضالات طويلة
وذكّر المتحدث ذاته بنضالات القضاة الشبان منذ إضراب 1985، زمن الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة، حيث تم عزلهم واشتكوا للمحكمة الإدارية في 1991 وتم إلغاء القرار، وبعده سلفه زين العابدين بن علي الذي عزل رئيس الدائرة الطاهر بوصفارة ورئيس المحكمة رشيد الصباغ، وفي 2002 عزل مختار اليحياوي من القضاء بسبب المطالبة باستقلاليته.
وأضاف أنه "في 2005، وقع إبعاد قيادات جمعية القضاة حتى قيام الثورة، حيث تمت استعادة الجمعية في قصر العدالة"، مشددا على أن "التذكير بهذه النضالات الطويلة والمضنية للقضاة ليعلم قيس سعيّد أنه يحلم فقط بقدرته على أن يمس القضاء".
وكتب رئيس "المرصد التونسي لاستقلال القضاء" القاضي أحمد الرحموني، تدوينة على صفحته بموقع "فيسبوك" تحت عنوان "هل علينا أن نلازم الصمت!؟"، جاء فيها "من غريب المفارقات أن "يلتهم" قيس سعيّد تقريبا جميع السلطات وأن "يقزم" القضاة إلى أدنى درجات الوظيفة".
وذكّر الرحموني بقرارات سعيّد التي استحوذ بها على السلطتين التشريعية والتنفيذية قائلا "عمليا لم يبق له إلا الجلوس على منصات المحاكم، لذلك قد يبدو مشروعا له، طبق منهجه واعتقاده، أن يضم القضاء إلى ديوانه واختصاصاته".
وأشار المتحدث ذاته إلى أن هذا الاستهداف للقضاء عبر "هذا الأسلوب "الدعائي" كثيرا ما يسبق خطة الإجهاز على الجريح، التي استوفت في حالتنا شروط تنفيذها من خلال سلسلة طويلة من استنزاف الجسم القضائي، من ذلك: التعليمات، الوضع تحت الإقامة الجبرية، التشويه، الضغط، التشهير، التهديد بكشف الملفات، التعرض للقضايا المنشورة وانتقاد قرارات المحاكم، الهجوم على المجلس الأعلى للقضاء واتهامه بالتسيس، تكليف وزارة العدل بتنقيح القانون الأساسي للمجلس..".
ورد الرحموني على حديث سعيّد عن القضاء قائلا "حقيقة لم نكن نتوقع خطابا أقل فظاظة أو أكثر انفتاحا من احتقار (أو ازدراء) وجهات النظر المخالفة، حتى إن القاضي الذي أصبح في عرف الرئيس مسلوبا من حق المواطنة لا يمكن له الحديث حتى في المسائل غير الانقلابية."
وضع اليد على السلطة القضائية
بدورها، حذرت مبادرة "مواطنون ضد الانقلاب" من "سعي سلطة الانقلاب إلى استغلال الظروف الاستثنائية وانفرادها بالسلطة واستعمال آلية المراسيم والأوامر للتدخل في السلطة القضائية بِتِعِلّة إصلاحها وإعادة هيكلتها"، مشيرة إلى "تتالي المحاولات السّافرة لوضع اليد على السلطة القضائية وضرب استقلاليتها، من أجل استعمالها في استهداف الخصوم واستكمال السيطرة على جميع مفاصل الدولة".
ودعت المبادرة في بيان إلى "الوقوف بقوّة إلى جانب السلطة القضائية بكافة تشكيلاتها، والاستماتة في الدفاع عن استقلالية القضاء".
واعتبرت أن "وضع اليد على السلطة القضائية من طرف سلطة تنفيذية بلا ضوابط وبلا حدود سوف يفتح لها باب الهيمنة على كافة الأجسام الوسيطة في الدولة والمجتمع، لتصبح مُشرِّعا وحاكمًا وقاضيًا في آن واحد. وتكون بذلك قد أرست سلطة الحكم الفردي المطلق وطوت تجربة الانتقال الديمقراطي ومسار تأسيس الحرية".