استمع إلى الملخص
- استمرار النهج الفلسطيني في الاعتراف بإسرائيل دون تحديد حدود نهائية والرفض العربي لقرار التقسيم يعكس تحولات في الموقف العربي دون تحقيق تقدم نحو حل عادل.
- الحل العادل يتمثل في إقامة دولة ديموقراطية واحدة تضم جميع مواطنيها، مع نظام عدالة انتقالية يعالج المظالم ويضمن الحقوق للجميع، مع الدعم الدولي المتزايد للقضية الفلسطينية.
ثمة ركائز وأسسٌ استراتيجيةٌ لا بدّ من ذكرها والانتباه إليها عند التعاطي مع قرار التقسيم رقم "181"، الصادر عن مجلس الأمن الدولي عام 1947، مع مقارباتٍ وقراءاتٍ مختلفةٍ وضروريةٍ، إثر "طوفان الأقصى"، والحرب على قطاع غزّة، التي أوقعت نكبة 2024 بغزة، لكن من دون أن تحلّ معضلة الاحتلال الأساسية في مواجهة الشعب الفلسطيني، أو تزيح قضيته العادلة عن جدول الأعمال الإقليمي والدولي.
بدايةً، لا بدّ من الإشارة إلّا أن قرار مجلس الأمن الدولي رقم 181 نص على تقسيم فلسطين، وإقامة دولةٍ يهوديةٍ على 55% تقريباً منها، وأخرى عربية على 45%، مع تدويل مدينتي القدس وبيت لحم، ووضعهما تحت إشرافٍ ووصايةٍ أمميةٍ.
بدت فكرة التقسيم بحد ذاتها حلًا للمسألة الصهيونية الاستعمارية في فلسطين، لكنها معيبةٌ أخلاقيًا وفاشلةٌ، وقاصرةٌ بالطبع عن حلّ الصراع وإنهائه فيها. ومن جهة أخرى كانت تعبيرًا عن التعاطي الدولي المنحاز ومزدوج المعايير، كون إسرائيل لا تملك حقًّا تاريخيًا في فلسطين كي يجري منحها دولة وعد بلفور البريطاني، فدعم القوى العظمى لها لا يعطيها بالتأكيد هذا الحق.
استمر نهج السذاجة والخفة فلسطينيًا في وثيقة الاعتراف المتبادل بعد اتّفاق أوسلو 1993، حين اعترفت القيادة الفلسطينية بإسرائيل
بناءً عليه، كان طبيعيًا وغير مفاجئٍ أن تقبل إسرائيل بالقرار، وتستغله لتكريس شرعيتها في المنطقة والعالم، ومن ثمّ الانطلاق لاحتلال كلّ فلسطين بعد ذلك.
اللافت أيضًا، أنّه على الرغم من قبولها قرار التقسيم، فإنّ الدولة العبرية لم ترسم حدودها النهائية بناءً عليه، كونها دولةٌ قائمةٌ على حدّ السيف، حسب تعبير الجنرال موشيه دايان، مع أطماعها الإقليمية، والاستلاب لقاعدة أنّ حدودها حيث يصل جيش الاحتلال مع خرائط وأوهام النيل والفرات، التي كانت شعارًا لعصابة شتيرن، بقيادة زعيم حزب حيروت (الليكود فيما بعد) مناحيم بيغن، ومرشده الروحي زئيف جابوتنسكي، معلم بنيامين نتنياهو وعائلته، والتي عادت الآن إلى الظهور مع الحكومة الحالية، والأحزاب الأكثر تطرفًا فيها، عبر تحالف بتسلئيل سموتريتش، وإيتمار بن غفير وتماهي نتنياهو معهم.
كذلك يبدو لافتًا جدًا أنّ مؤسس دولة الاحتلال الإسرائيلي، ورئيس وزرائها الأول، ديفيد بن غوريون، الذي يوصف بالبراغماتي، لم يبادر إلى ترسيم حدودها، ولا حتّى بلورة دستورٍ جامعٍ لها، في تأكيدٍ على الطابع الاستثنائي والفريد للدولة العبرية، بالمعنى السلبي طبعًا.
بناءً عليه، ومن زاويةٍ أخرى، لم يكن مفاجئًا أيضًا الرفض الفلسطيني والعربي لقرار التقسيم "181" غير المنصف، مع الشعور بالحقّ كلّ الحق في فلسطين، والثقة التامة بالقدرة على هزيمة إسرائيل، وتفكيك المشروع الصهيوني، ولو بعد حين، كما حصل مع التجارب التاريخية المماثلة في الدول العربية والإسلامية تحديدًا.
في السياق العربي الرسمي تحديدًا، جرى التراجع بعد نكبة/ نكسة يونيو/حزيران 1967 عن الحقّ بكلّ فلسطين، حتى مع لاءات الخرطوم الثلاث، لا صلحٌ لا اعترافٌ لا تفاوضٌ، عبر القبول بقراري مجلس الأمن "242" و"338"، على الرغم من الانتصار الجزئي في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، نتيجة غيبوبةٍ وسذاجةٍ وتخلٍّ وعدم إصرارٍ عربيٍ على تنفيذ قرار التقسيم نفسه، الذي أعطى الشرعية للدولة العبرية.
التراجع الرسمي العربي هذا تضمن قبولًا بخمس مساحة فلسطين التاريخية، أي نصف ما أعطاه قرار التقسيم، وبعد الفشل في هزيمة إسرائيل وتحرير كل البلاد من النهر إلى البحر لم يتغير الفاشلون، ولكن غيروا القضية إلى الضفّة الغربية وقطاع غزّة، أي 22% من فلسطين فقط، وحتّى بشكلٍ فاشلٍ ومهينٍ ومخزٍ كان أقرب إلى الهرولة والتقرب لنيل رضا الدولة العبرية وداعمتها وراعيتها الولايات المتّحدة.
الحلّ الواقعي والعادل والمستدام للاحتلال يتمثّل أساساً في الدولة الديموقراطية الواحدة لكل مواطنيها من النهر إلى البحر
أما ذروة التناقض، فكانت في قرار إعلان الدولة الفلسطينية في الجزائر نوفمبر/تشرين الثاني 1988، مع الاستناد إلى قرار التقسيم نفسه أساسًا للإعلان، وقبولٍ بقراري مجلس الأمن "242" و"338"، ودولةٍ/ سلطةٍ وطنيةٍ فلسطينيةٍ ضمن حدود يونيو/حزيران 1967، أي على خمس فلسطين التاريخية فقط.
استمر نهج السذاجة والخفة فلسطينيًا في وثيقة الاعتراف المتبادل بعد اتّفاق أوسلو 1993، حين اعترفت القيادة الفلسطينية بإسرائيل من دون حدودٍ نهائيةٍ لها، ومن دون العودة إلى قرار التقسيم، أما إسرائيل فقد اعترفت بمنظّمة التحرير الفلسطينية قيادةً شرعيةً للفلسطينيين، من دون الدولة، ومن دون التمسك بقرار التقسيم على علاته.
زرعت بذور "حلّ الدولتين" بشكله الحديث بعد قراري "242" و"338" هناك في أوسلو، لكن مع فرض إسرائيل القبول بفكرة تبادل الأراضي، أي إنّ حتّى "حلّ الدولتين" جاء غير كاملٍ، بل جاء منقوصًا أيضًا، مع دولة يونيو/حزيران، على ما دون 22% من فلسطين التاريخية.
بعد "طوفان الأقصى" والحرب على قطاع غزّة عاد "حلّ الدولتين" إلى جدول الأعمال الدولية بزخمٍ كبيرٍ، على اعتباره بالمتناول، ولضمان عدم تكرار الطوفان والحرب. تجسد هذا الزخم في اعتراف إسبانيا ودولٍ أوروبيةٍ مهمةٍ، وكذلك لاتينيةٍ وكاريبيةٍ بالدولة الفلسطينية، ليصل عدد الدول المعترفة بالدولة الفلسطينية إلى 148 دولةٍ، أي ثلثا العالم تقريبًا، مع القبول الضمني بفكرة تبادل الأراضي، أو ما توصف بالتعديلات الجغرافية ضمن حدود يونيو/حزيران 1967.
لكن ثمة متغيراتٌ أساسيةٌ بعد الحرب والطوفان، يجب قراءتها أو مقاربة قرار التقسيم في ضوئها، لجهة المظلومية الفلسطينية، وتبني مفاهيم العدالة والحقيقة تجاه الاستعمار الصهيوني، مع تقبلٍ شعبيٍ وجماهيريٍ دوليٍ واسعٍ لفكرة أن الصراع لم يبدأ بالسابع من أكتوبر/تشرين الأول الفائت 2023، إنما في عام 1948، بمعنى الرجوع إلى البدايات، حتّى قبل قرار التقسيم.
هنا ثمة عودةٌ محمودةٌ إلى الأصول، كون قرار وحلّ التقسيم 1947، ليس مثاليًا ولا أخلاقيًا، ولا حتّى واقعيًا للصراع، ولا للتجارب الاستعمارية المماثلة، خصوصًا مع تحول الكيان الصهيوني الاستعماري في فلسطين إلى نظام فصلٍ عنصريٍ، ما يعني أن التفكيك هو الحلّ لا التقسيم. ومن هنا كانت العودة لشعار، وللدقة عنوان ومصطلح، من النهر إلى البحر، أي فلسطين الواحدة من نهر الأردن إلى البحر المتوسط.
على الرغم من قبولها قرار التقسيم، فإنّ الدولة العبرية لم ترسم حدودها النهائية بناءً عليه، كونها دولةٌ قائمةٌ على حدّ السيف
مع ذلك، وربّما بطريقةٍ فلسفيةٍ وجدليةٍ، قد يبدو "حل الدولتين"، والدولة الفلسطينية حتّى ضمن حدود يونيو/حزيران 1967 خطوةً باتجاه تجاوز قرار التقسيم، فإقامتها ستعني حتمًا زوال وتفكك إسرائيل، التي ستواجه أزماتها البنيوية والوجودية، وبالتالي تفككها كما في التجارب الاستعمارية المماثلة.
هذا مع الانتباه إلى أنّ رفض إسرائيل لحلّ الدولتين، ومواصلتها فرض الحقائق والوقائع الاستيطانية التهويدية على الأرض، يعني أن الحلّ الواقعي والعادل والمستدام للاحتلال يتمثّل أساساً في الدولة الديموقراطية الواحدة لكل مواطنيها من النهر إلى البحر، ونظام عدالةٍ انتقاليةٍ، تمامًا كما حصل في جنوب أفريقيا، إثر تفكيك نظام الفصل العنصري فيها.
في الأخير؛ لا بد من الإشارة الى أن الحاضنة الدولية للدولة العبرية رسميًا وشعبيًا، "من قرار التقسيم إلى حرب غزة"، تتآكل وتضعف مع الوقت، خاصّةً جماهيريًا، وفي ساحاتٍ أساسيةٍ عدّة في أوروبا، وحتّى في أميركا نفسها. ما يشجع ويضاعف أهمّية، بل حتمية، العودة إلى نقاش أصول وجذور الصراع، الذي لم يبدأ في 2023 إنّما في 1948، كما أنّ قرار التقسيم ساهم في تكريسه وإطالته، لا حلّه حلًا أخلاقيًا ومنطقيًا وعادلًا وشاملًا ومستدامًا.