بدا عدوان درع وسهم الإسرائيليّ الأخير على غزّة مفعمًا بالدلالات والدروس والعبر، غير أن اقتحام إيتمار بن غفير المسجد الأقصى للمرّة الثّانية منذ تعيينه وزيرًا للأمن القوميّ، ومسيرة الأعلام لغلاة المستوطنين بالقدس في اليوم نفسه؛ الخميس 18 مايو/أيّار، في ذكرى احتلال المدينة وفق التقويم العبري، واجتماع الحكومة؛ الأحد 21 مايو/أيّار، بالمناسبة نفسها في أحد الأنفاق، تحت الحائط الغربي للحرم القدسي الشريف، تعطي بالتّأكيد أبعادًا أوسع وأشمل لقراءة العدوان، خاصةً أن منع المسيرة كان أحد البنود الّتي طرحتها حركة الجهاد الإسلاميّ لإنهائه، بعدما طال لمدّة خمسة أيامٍ، قبل العودة إلى الصّيغة التّقليديّة والشّائعة، أيّ تهدئةٌ مقابل تهدئةٍ، ووقف إطلاق نار متزامنٍ ومتبادلٍ بين غزّة وإسرائيل، مع التحفظ على المصطلح المضلّل وغير الدقيق أو الواقعي، كوننا لا نتحدّث عن جيوشٍ متقابلةٍ، إنّما عن مقاومةٍ فلسطينيّةٍ مشروعةٍ بالوسائل المتاحة أمامها، في مواجهة استعمارٍ تحوّل إلى فصلٍ عنصريٍ موصوفٍ ضد الشعب الفلسطينيّ، في أماكن وجوده المختلفة.
بدأت إسرائيل عدوانها الأخير باغتيال ثلاثةً من قيادة سرايا القدس، الجناح العسكريّ لحركة الجهاد الإسلاميّ؛ الشهداء جهاد غنام وخليل البهتيني وطارق عز الدين، تماماً كما اغتالت في عدوان أغسطس/آب الماضي تيسير الجعبري وخالد منصور، باعتبارهما أهمّ عضوين في المجلس العسكري للسرايا، وقائدَي جبهتَي الاحتكاك والتّماس المركزيّتين مع الاحتلال "الشمالية والجنوبية"، وكان خلفهما البهتيني وعلي غالي الذي اغتالته أيضًا خلال العدوان الأخير.
المقاومة الفلسطينيّة لم ولن تتوقف، وخطاب حماس الأخير صحيح وواقعيّ
بعد ترتيبات وحوارات داخل غزّة، ردّت الجهاد؛ ولكن ليست وحدها، إنّما من خلال غرفة العمليات المشتركة للفصائل، وكان هناك نقاشٌ وترقّبٌ لموقف حركة حماس، بصفتها قوة المقاومة الأكبر والمتحكمة بالسلطة في غزّة، خاصةً إثر تنحّيها جانبًا خلال عدوان أغسطس/آب من العام الماضي، وتحفظها عن ظروف اندلاعه جملةً وتفصيلًا، ما ترك الجهاد وحدها في الميدان، وأدّى إلى التوصل إلى اتّفاق وقف إطلاق النار بعد ثلاثة أيامٍ تقريبًا. أما هذه المرة؛ فقد قدّمت حماس تغطيةً سياسيّةً وإعلاميّةً ودعمًا أمنيًّا ولوجستيًّا للردّ، وأطلقت صواريخ مضادّةً للطّيران، كما أقر علنًا رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو.
خلال العدوان نفسه، تمكنت إسرائيل من اغتيال بقية أعضاء المجلس العسكري للسرايا، بمّن فيهم إياد الحسنيّ مسؤول وحدة العمليات والتنسيق مع حماس، إضافةّ إلى قائد المنطقة الجنوبيّة والمسؤول عن الوحدة الصاروخيّة علي غالي ونائبه أحمد أبو دقة، ورغم ذلك، استمرّت الحركة بدعمٍ قويٍ من بقية الفصائل في إطلاق الصواريخ حتى الدقائق الأخيرة قبل وقف إطلاق النار.
بالتّأكيد، لا يمكن إنكار صمود مقاتليّ الجهاد ونجاحهم، من خلال الغرفة المشتركة للفصائل، بشلّ أجزاء واسعةٍ من الدّولة العبريّة، وصولّا إلى تخوم المدن المحتلة في تل أبيب والقدس. مع ذلك؛ وبنظرةٍ إلى الوراء، كان يجب إيقاف العدوان بأسرع وقتٍ، وبمجرد الرّدّ المكثف على اغتيال القادة الثلاثة، أيّ بعد يوم أو يومين على أبعد تقديرٍ، لتجنيب غزّة وأهلها والحركة مزيدًا من الخسائر البشريّة والماديّة.
بمجرد انطلاق العدوان الإسرائيليّ، وبدء النظام المصريّ جهودهـ المعتادة للوساطة، طرحت الجهاد ثلاثة مطالب أساسيّةٍ للموافقة على وقف إطلاق النار، وهي تعهدٌ إسرائيليٌّ بوقف الاغتيالات، ومنع مسيرة الأعلام في القدس، وتسليم جثمان الشّهيد خضر عدنان، الّذي استشهدَ في معتقل الرملة أوائل الشّهر الجاري.
كانت المطالب، من دون شكّ، غير واقعيّةٍ، وأطالت العدوان أكثر مما ينبغي، وبالطّبع لم يتحقّق منها شيءٌ، خاصةً مع تناقضها مع مطالب الجهاد لإنهاء عدوان أغسطس/آب، الذي انتهى على النّحو المعتاد، وحتى مع المطالب التّقليديّة للفصائل خلال جولات القتال السابقة، إذ غاب الحديث عن رفع الحصار وفتح المعابر والميناء والمطار؛ ربّما اعتبرت الجهاد أنّ هذه مطالب سلطوية تتعلق بحماس ومسؤوليتها عن حياة الناس في غزّة، ورغم شعور النظام المصريّ بالإهانة نتيجة عنجهيّة وعجرفة وغدر الطرف الإسرائيليّ، الّذي اغتال القادة الثلاثة مع عائلاتهم في بيوتهم الآمنة، إلّا أنّه واصل العمل كونه لا يريد ولا يستطيع أصلًا التخلي عن دور الوسيط، الّذي يحصل مقابله على عوائد أميركيّةٍ وإسرائيليّةٍ سياسيّةٍ وإعلانيّةٍ واقتصاديّةٍ وعسكريّةٍ وحتى استراتيجيّةٍ، مع سعيه الدّائم إلى إخماد النّار ومنع انفجارٍ كبيرٍ في فلسطين والمنطقة، بما في ذلك نسج علاقاتٍ متعددةٍ الأبعاد مع حماس، لابتزازها وتحييدها ومنعها من الانخراط في جولة القتال الأخيرة، وفي أيّ جولاتٍ أخرى مستقبلًا.
ردّت الجهاد؛ ولكن ليست وحدها، إنّما من خلال غرفة العمليات المشتركة للفصائل، وكان هناك نقاشٌ وترقّبٌ لموقف حركة حماس
مع تعثّر الوساطة المصريّة، طال العدوان خمسة أيامٍ، واصلت إسرائيل خلالها التنكيل بغزّة وأهلها وبناها التّحتيّة المتواضعة، قبل الرجوع الاضطراريّ أمام انسداد المشهد إلى الصّيغة التّقليديّة بوقف إطلاق النار المتزامن والمتبادل، حتى مع تجميل أو تحايل لغوي بسيط، لم يغيّر شيئًا من الجوهر والمضمون.
هنا، لا بدّ من التّأكيد، كما دائماً، أن المصطلح نفسه مضلّل أو غير دقيق، كوننا لا نتحدّث عن جيوشٍ متقابلةٍ، وبالعموم، أكدت جولة القتال الأخيرة ما كنا قد ذهبنا إليه هنا الشهر الماضي، إذًا لا قواعد اشتباكٍ لمقاومةٍ بأسلحةٍ بسيطةٍ وإرادةٍ كبيرةٍ، في مواجهة الاحتلال الغاشم المدجّج بترسانةٍ هائلةٍ وتقنيّاتٍ فائقة التّطوّر، ومعتمدةٍ على أحدث تقنيات الذكاء الصناعيّ.
وبالطّبع، لم نر وحدة جبهاتٍ أو ساحاتٍ، وهو أيضاً مصطلحٌ مضلّلٌ وخبيثٌ، يستخدم من قبل إيران وأدواتها ومحورها المزعوم، للتغطية على ممارساتها الإجراميّة وسياستها الاستعماريّة في العالم العربيّ، وكما قال عضو مكتب حماس السياسيّ، موسى أبو مرزوق، حرفيًّا، لشبكة قدس في 22 مايو/أيّار، "كانت هناك ساحات بيدها أن تفعل الكثير، ولكنها بقيت صامتة".
هنا ثمّة تناقض كون حماس نفسها لم تشارك أو تنخرط بكّل قوتها، ولا حتى نصفها، ورغم تغطيّة حماس السياسيّة والإعلاميّة، إلّا أنّ جوهر موقفها تمثل بعدم استطاعة غزّة خوض حروبٍ وجولاتٍ قتاليّةٍ مستمرّةٍ وشبه منتظمةٍ تستغلها إسرائيل لتدمير مقدرات وإمكانات المقاومة؛ المتواضعة على أيّ حالٍ، إذ عليها تجهيز نفسها لمعركة التّحرير الكبرى، حسب تعبير أبو مرزوق الحرفي. وهنا أيضًا؛ ثمّة تناقض مع خطاب الحركة خلال جولات القتال السابقة، عوضًا عن أنّ فكرة تحرير فلسطين من غزّة تتناقض بشدةٍ مع التّاريخ والجغرافيا وموازين القوى على الأرض.
من الدلالات المهمة أيضاً للعدوان الأخير، تأكيد استحالة خوض معركةٍ أو جولةٍ أو جولاتٍ قتاليةٍ من غزّة للردّ على ممارسات وجرائم الاحتلال اليومية، بما فيها التّهويّد والاستيطان في الضفة الغربيّة. وبالتّأكيد؛ لا يمكن خوض حربٍ والتضحية بعشرات الشهداء، ومئات الجرحى، وآلاف المشرّدين، ومئات ملايين الدولارات من الخسائر المادية في اقتصادٍ منهكٍ يعيش على الحافة، لاسترجاع جثمان شهيدٍ، مع كامل الاحترام له، لكن ثمّة جثامين لمئات الشهداء المحتجزة لدى الاحتلال، ولا يتحدّث أو يخوض أحدٌ معركةً من أجلها.
كانت المطالب، من دون شكّ، غير واقعيّةٍ، وأطالت العدوان أكثر مما ينبغي، وبالطّبع لم يتحقّق منها شيءٌ، خاصةً مع تناقضها مع مطالب الجهاد لإنهاء عدوان أغسطس/آب
إسرائيليًّا، ورغم التباهي بارتفاع شعبية رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وحزبه الليكود، لإشباع غريزة الدّم والقّتل لدى الشارع المتطرّف، إلا أنّ ما حقّقه العدوان نجاحاتٌ تكتيكيّةٌ ليس إلّا، حيث لا إمكانيّة لفرض الاستسلام، أو وقف مقاومة الشعب الفلسطينيّ للاحتلال، والأهم دفن الرؤوس عن مشكلات وأزمات غزّة السياسيّة والقضيّة الفلسطينيّة عامةً، ضمن سياسة الهروب إلى الأمام، وإدارة الصراع بدلاً من حلّه. إضافةً إلى ذلك، ارتكبت إسرائيل جرائم حربٍ موصوفةٍ، بما فيها الاستهداف والقتل المتعمَّد للمدنيين العزّل؛ ثلثي الشهداء والجرحى على الأقل، وهي جرائم حربٍ موصوفةٍ ستصل عاجلًا أم آجلًا إلى طاولة المحكمة الجنائيّة الدّوليّة.
بناء على المعطيات السابقة، لم يكن مفاجئاً أنّ تمر مسيرة الأعلام العنصريّة في مسارها المقرّر، وكان سبقها صباحًا اقتحام إيتمار بن غفير المسجد الأقصى للمرّة الثّانية بعد تعيينه وزيراً، ورفعه العلم الإسرائيليّ وإقامة صلوات تلموديّة داخل الحرم، مع تصريحات متغطرسة عن الاقتحام نفسه والمسيرة عامةً. ثمّ بعد يومين من المسيرة، عقدت الحكومة الإسرائيليّة اجتماعها الأسبوعيّ في أحد أنفاق التهويد والاستيطان؛ أسفل المسجد الأقصى والحرم الشريف والبلدة القديمة، ولم يصدر ردّ فعلٍ جدّيٍّ عن غزّة. وهذا منطقي ومتوقع وفق الاستنتاجات السابقة. رغم ذلك؛ أكدت المسيرة كما الاقتحام أنّ مدينة "القدس" محتلة مع نشر آلاف من عناصر الشّرطة والاستنفار الأمني، وإغلاق المنطقة، أيّ لم تكن يوماً عاصمة لإسرائيل، ولن تكون.
اجتماع الحكومة كان استعراضيًّا أيضًا، وأكد مشهد الاحتلال لا السيادة، وجاء تأكيدًا للمقولة الشهيرة لوزير الخارجيّة الأميركيّ السابق هنري كيسنجر" الدّولة العبريّة لا تملك سياسة خارجيّة بل داخليّة فقط". ومشاريع التهويّد والاستيطان الّتي أقرّتها قد تحقّق إنجازًا جزئيًّا وتكتيكيًّا، لكنها لن تنجح استراتيجيًّا في تغيير معالم المّدينة وهويتها العربيّة الإسلاميّة المسيحيّة، بما في ذلك حلم؛ أو للدقة، وهم مليون مستوطن في الضّفّة الغربيّة.
في الأخير وباختصار، المقاومة الفلسطينيّة لم ولن تتوقف، وخطاب حماس الأخير صحيح وواقعيّ، ولكن بالإمكان تطبيقه بأثرٍ رجعيٍّ على كّل جولات القتال السابقة (15 جولةً)، حيّن عجزت العسكرة والتضحيّة بغزّة وأهلها عن تحقيق إنجازاتٍ جديّةٍ واستراتيجيّةٍ، خاصةً مع الافتقار لخطةٍ وطنيّةٍ جامعةٍ للمقاومة في ساحتها الرئيسيّة في الضفة الغربيّة. وفي هذا السياق، لا بد من قول شيء ما عن السلطة الفلسطينيّة وقيادتها الّتي بدت غير ذات صلة، وكانت صامتةً تقريباً طوال العدوان، ولم يهتمّ أو يبالي منها أحد، كونها باتت فعلًا عبئاً على الشّعب والقضيّة، لا ذخيرةً لهما.