استمع إلى الملخص
- لويس إمبان، ابن البارون، تميز بأعماله الخيرية ودعم حقوق العمال، وبنى فيلا إمبان في بروكسل التي أصبحت متحفًا ومركزًا ثقافيًا، حيث نظمت مؤسسة بوغوصيان معارض وفعاليات لتعزيز الحوار الثقافي.
- الأرمن في حلب أثروا في ثقافة واقتصاد المدينة بمهاراتهم الحرفية، ورغم التحديات خلال الثورة السورية، ظلوا جزءًا من نسيج حلب الاجتماعي والثقافي.
من يزر القاهرة يعرف التأثير العمراني الذي تركه البارون البلجيكي إدوارد لويس إمبان (1852-1929) عليها، فقد بنى ضاحية مصر الجديدة (هليوبوليس) والتي تعني مدينة الشمس. في هذه الضاحية بنى قصره المعروف بقصر البارون، الذي استلهمه من معبد أنكور وات في كمبوديا ومعابد أوريسا الهندوسية، وبنى فندق هليوبوليس بالاس الذي أصبح قصراً يقيم فيه رئيس جمهورية مصر (قصر الاتحادية).
اشترى البارون من الإدارة الاستعمارية البريطانية مساحة كبيرة، تقدّر بحوالي 25 كيلومتراً مربعاً من الصحراء، وصمم أن تكون قاهرة جديدة راقية، فيها مرافق البنية التحتية اللازمة من شبكة ترام وكهرباء ومياه وصرف صحي وملاعب غولف ومضامير سباق الخيول ومنتجعات راقية.
رغم تصوير عدة أفلام مصرية فيه، تعرّض قصر البارون للإهمال، وشابته سمعة أنه مسكون بالأشباح، حتى بيع في عام 1954 في مزاد علني للسوري محمد بهجت الكسم والسعودي محمد علي رضا. وفي عام 2005 اشترته الحكومة المصرية ليفتتح أخيراً معلماً أثرياً.
أصول البارون إمبان متواضعة، لكنه استطاع أن يترك ثروة هائلة من مشاريعه في مد سكك الحديد والترام والكهرباء في الكونغو البلجيكية، وفرنسا التي نفذ فيها مترو باريس، ومصر والصين وروسيا والبرازيل وغيرها، فضلاً عن بنوك خاصة به، حتى نال لقب بارون الذي ورثه أبناؤه بعده.
حصل إمبان على لقب بارون في عام 1907 من ملك بلجيكا ليوبولد الثاني (1835- 1909)، مقابل تمويله المستعمرات البلجيكية، وقصة هذا الملك مع الكونغو تستحق الراوية وحدها. يكفي أن نذكر هنا أن هذا الملك، والذي حكم بلجيكا بصفته ثاني ملك لها بين عامي 1865-1909، ارتكب واحدة من أكبر مجازر التاريخ الحديث، حيث قتل حوالي عشرة ملايين إنسان في دولة الكونغو الحرة، والتي كان يعتبرها، بما فيها من حجر ونبات وحيوان وإنسان، ملكاً شخصياً له.
توفي البارون في بلجيكا، ولكنه أوصى أن يدفن في مصر أسفل كنيسة البازيليك التي بناها في مصر الجديدة. وترك ثروة هائلة تتألف من أربعة بنوك، وقلعتين قرب باريس، وثلاثة مناجم للفحم، ومئات من شركات الترام والسكك والكهرباء والغاز والفنادق، ورثها ابناه جان ولويس من عشيقته جين بيكر، والتي كان قد تزوجها لاحقاً.
لويس المختلف
بنى لويس فيلا إمبان في بروكسل بين عامي 1930-1934، بتصميم المهندس السويسري الشهير ميشيل بولاك، الذي يعتبر من أهم فناني الآرت ديكو الذي اشتهر في بلجيكا وأوروبا، خلال النصف الأول من القرن العشرين بتأثير ظهور الخرسانة.
لم يطِل لويس الإقامة في الفيلا، فمع احتلال ألمانيا بروكسل اتخذتها القوات الهتلرية مقراً لها، وعند انتهاء الحرب العالمية الثانية (1939-1945) منح لويس الفيلا للدولة البلجيكية لتكون متحفاً للفنون التطبيقية، ولكن السلطات حينها قررت إعطاءها للاتحاد السوفييتي لتكون سفارته في بلجيكا.
استعادت عائلة إمبان عام 1963 ملكيتها للفيلا احتجاجاً على ذلك، وأصبحت مقراً لراديو لوكسمبورغ خلال التسعينيات، ولكنها أهملت بعد ذلك، إلى أن اشترتها مؤسسة بوغوصيان عام 2007، لتعيد ترميمها وفتحها للجمهور متحفاً ومركزاً ثقافياً عام 2010.
تُعرض في الفيلا صور لها قبل الترميم، ويوضّح القائمون عليها أن ترميمها كان معقداً ومكلفاً، ولا سيما بإعادة تذهيب النوافذ الكثيرة بورق الذهب عيار 23.75 قيراطاً، وترميم الرخام والخشب، فضلاً عن الحدائق وأشجارها المعمرة لقرون وحمام السباحة.
الفن هو الحل
كان هذا المعرض يقام إلى جانب معرض آخر يجمع أعمال الفنانين المقيمين في الفيلا، والتي تتركز حول الخط والرسم، وتعكس الثقافات التي يأتون منها. وقد أطلق القائمون عليه اسم معرض (ما وراء الخطوط، الرسم في الفضاء).
يذكر أن المقيمين في الفيلا لعام 2024 كانوا حوالي 25 فناناً من مختلف أنحاء العالم، مع تركيز خاص على منطقتنا، ولا سيما أرمينيا ولبنان وسورية.
أخبرتني كارولين شورمانز (مسؤولة الاتصال في المتحف) أن المعارض الفنية والأمسيات الموسيقية تقام على مدار العام في الفيلا، وأن أكثر من مائتي فنان من مختلف أنحاء العالم أقاموا في الفيلا منذ عام 2010 بدعوة من مؤسسة بوغوصيان لمدة شهرين أو ثلاثة، وباطلاعي على أسماء الفنانين وجدت العديد منهم من لبنان وأرمينيا وسورية وتركيا، وحتى من السعودية.
تم إنشاء مؤسسة بوغوصيان في عام 1992 من قبل روبرت بوغوصيان وولديه، جان وألبرت، صانعي المجوهرات من أصل أرمني، بهدف أساسي هو المساهمة في التنمية والتعليم.
اتخذت المؤسسة شعاراً من مقولة المسرحي الأرمني الأميركي الشهير وليم سارويان (1908-1979) "دور الفن هو خلق عالم يمكن التسامح معه".
أطلقت المؤسسة عدة جوائز فنية دولية لتشجيع الحوار بين الثقافات، فكانت تمنح جوائز، فتقدم جائزة سنوية في أرمينيا وأخرى في بلجيكا لطلاب الفنون الجميلة وثالثة في لبنان تمنح لثلاث فئات: الفنون الجميلة، الإخراج، أدب الشباب باللغة العربية.
هذا العام أطلقت المؤسسة جائزة دولية بهدف "ربط الشرق والغرب من خلال الفنون". وستمنح المؤسسة برئاسة الأخوين جان وألبير بوغوصيان جوائز للفنانين في مجالات الفنون البصرية، والتصميم والحرف اليدوية، والمجوهرات.
وستُمنح جائزة الفنون البصرية لعمل فني مستوحى من الحوار الثقافي. وتعكس جائزة التصميم والحرف اليدوية أهمية إعادة النظر في الأشياء اليومية، من خلال عدسة الحرف اليدوية الشرقية الأصيلة. وتسعى جائزة المجوهرات إلى استكشاف المجوهرات الحديثة المستلهمة من ثقافات العالم.
لا تكتفي المؤسسة بدعم المشاريع الثقافية، بل يمتد عملها إلى المجال الخيري، ولا سيما في أثناء الأزمات، فيتحدث الأخوان جان وألبير عن مشاريع المؤسسة الخيرية في لبنان، بعد انفجار المرفأ عام 2020، بتقديم منح دراسية وحصص غذائية وأيضاً ترميم المدارس، وكذلك في حلب عام 2011، والاهتمام بمدارس اللاجئين السوريين في لبنان وأيضاً الكثير من المشاريع الثقافية والخيرية في أرمينيا.
جان بوغوصيان: الاكتواء بالنار
شارك جان بفعالية في أعمال أسرته في تجارة وصياغة المجوهرات، ولكنه هجر عالم رجال الأعمال ليتفرغ نهائياً للفن، وللعمل العام من خلال مؤسسة بوغوصيان. "أردت أن أحرر نفسي من تجارة المجوهرات، وأن أتبع نهجاً فنياً حراً تماماً. إنه أمر رائع، فهو يمنحني طاقة غير عادية. عندما أواجه لوحة قماشية بمساحة مترين في مترين، فهي في المقام الأول مساحة للإبداع، وملجأ وشغف"، بحسب ما يقول.
قابلت جان في معرضه في الدوحة، وحفّزني معرضه لمتابعة أعماله، ولا سيما أسلوبه في الرسم من خلال الحرق بالنار، واستخدام الدخان (ترويض الحركة الفوضوية للنيران والدخان).
أقام جان آخر معارضه في مدينة سيول الكورية، ومعرضا ثانيا في مدينة مونت كارلو في إمارة موناكو. ولا توجد شخصية تجسد خليطاً شرقياً غربياً كما هو الفنان جان بوغوصيان.
أرمن حلب
يحضر الأرمن في حلب بلكنتهم العربية المكسرة، ولا سيما في التذكير والتأنيث، وستجد أبناء المدينة يكيلون لهم المديح لكونهم معلمي مهنة محترفين وصادقين، خصوصاً في إصلاح السيارات والتصوير ومشغولات الذهب والأحذية والملابس، وفوقها هريسة اللوز التي ذاع صيت صانعيها من آل الأزرق الأرمن.
يعتبر الأرمن أنفسهم حلبيين بامتياز، وكذلك ينظر إليهم أبناء المدينة، وقد حدثني الكثير من أصدقائي الأرمن أنهم هاجروا إلى أرمينيا بعد قيام الثورة السورية عام 2011، وبعد الأحداث الدامية التي شاهدتها مدينة حلب ولا سيما بعد 2012، ولكنهم لم يستطيعوا العيش هناك فعادوا أدراجهم إلى حلب أو بيروت.
أثّر الأرمن في ثقافة المدينة وتأثروا بها، ولا سيما في مطبخها العريق وفنونها الموسيقية وتطورها الصناعي والاقتصادي. ويعود وجود الأرمن في حلب إلى القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين، ولكنه تعزز مع موجة النزوح خلال الحرب العالمية الأولى. قدر عددهم في سورية في السنوات التي سبقت الثورة بـ150 ألفاً يقطن معظمهم في حلب، والباقون في مدن الجزيرة السورية ودير الزور وحمص ودمشق وكسب في ريف اللاذقية الشمالي.