التطورات السياسية التي أدّت إليها الاضطرابات والتوترات الأمنية الأخيرة في العراق فاجأت واشنطن وأربكتها. الخشية هي من أن يؤدي انهيار المعادلة في هذه الساحة إلى تزايد التحدي الإيراني من خلالها، في لحظة تقترب مفاوضات فيينا من نقطة الحسم، والتي تبقى الأولوية في حسابات إدارة الرئيس جو بايدن.
منذ انتخابات أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وإدارة بايدن تتعاطى مع الأزمة السياسية العراقية بفتور وضبابية. تتذرع بأنها مشكلة "عراقية وليست أميركية"، من دون الدخول في التفاصيل والأسباب، وكأنها بذلك حرصت ضمناً – ولا تزال حسب بعض الأوساط – على مراعاة حسابات وحساسيات إقليمية قد يؤدي تجاوزها إلى احتكاكات ومواجهات غير مرغوبة.
وتبلورت هذه السياسة أكثر في الآونة الأخيرة، إلى حدّ أنها أثارت علامات استفهام، بل وانتقادات علنية. "إنّ كبار المسؤولين في الإدارة لا يبدو أنهم مهتمون كفاية بالعراق، الأمر الذي أدّى إلى شبه إطلاق يد إيران وجماعاتها فيه"، كما قال أخيراً ديفيد شينكر، مساعد وزير الخارجية السابق لشؤون الشرق الأدنى. ومثل هذا الغمز الصريح عن "مداراة" الإدارة لطهران، تكررت تعبيراته في الأيام الأخيرة بصورة وضعت واشنطن في موقف محرج. فقد تبيّن أنّ السردية الرسمية للضربة الجوية الأميركية في جنوب شرقي سورية في 24 الجاري ضد مواقع لجماعات محسوبة على إيران، كانت ملتوية.
واشنطن زعمت أنّ العملية جاءت كردّ على هجوم 15 أغسطس/آب الذي قامت به هذه المجموعات بالمسيّرات ضد موقع للقوات الأميركية في تلك المنطقة. ما تكشّف أنّ هذا الهجوم قامت به "مليشيات إيرانية متمركزة في وسط العراق"، وفق تغريدة مسؤول عسكري أميركي في المنطقة. وما عزّز روايته أنّ البنتاغون سارع إلى مطالبة هذا المسؤول بحذف التغريدة عن الموقع، من باب أنها "قد تساهم في تعقيد الأمور مع الجهات الإيرانية". بذلك، اتضح أنّ إدارة بايدن اختارت الردّ خارج العراق، اجتناباً للتداعيات المحتملة على المساومات الجارية في الحلقة الحاسمة من مفاوضات فيينا.
أخذ الحساسية الإيرانية في الاعتبار إلى هذه الدرجة، يؤكد مرة أخرى مدى حرص الإدارة الأميركية على تمرير تجديد اتفاق 2015 النووي من دون تأخير أو عراقيل. وقد تبدّى مدى هذا الحرص من خلال إفشالها محاولات العرقلة التي قامت بها إسرائيل في الأيام الأخيرة عبر الزيارات المتتالية لثلاثة من كبار مسؤوليها (مستشار الأمن القومي، ووزير الأمن، وثم رئيس الموساد) ولقاءاتهم مع نظرائهم الأميركيين، والتي لم يتسرب عنها الكثير؛ لكن مجيء الواحد منهم بعد الآخر، وفي غضون أيام، يدلّ على أنّ مهمتهم كانت مستعصية. كذلك، يدل على أنّ إسرائيل استشعرت أنّ الصفقة اقتربت من خواتيمها، بما اقتضى حضورها في واشنطن بمثل هذا الزخم الرسمي المتوالي.
لكن خطاب الإدارة ما زال حتى اللحظة على حاله؛ في أساسه مقولة إنّ "العودة إلى تطبيق الاتفاق هي مصلحة قومية أميركية"، التي طالما رددها المسؤولون ولغاية اليومين الأخيرين. الردود اليومية للخارجية، خصوصاً خلال دورة الردود المتبادلة الأخيرة على المقترح الأوروبي، بقيت أقرب إلى التفاؤل ولو بصورة مبطنة. وحتى هناك من ينظر من خلال نفس العدسة إلى التلميحات الإيرانية الأخيرة، وإن بدت ضبابية، مثل حديث الرئيس إبراهيم رئيسي الذي طرح فيه شروط إيران الأربعة للعودة إلى الاتفاق، وخصوصاً شرط وقف عملية التفتيش والتحقيق التي تقوم بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية لتتبع آثار تخصيب النووي قبل اتفاق 2015 باعتباره مخالفاً لمعاهدة عدم انتشار السلاح النووي الموقعة عليها إيران.
وسأل "العربي الجديد" الثلاثاء، نائب الناطق باسم الخارجية الأميركية فيدانت باتيل عن شرط طهران هذا، فقال: "لقد كنا واضحين في اعتقادنا أنه لا ينبغي أن يكون هناك أي شرط بين العودة إلى تطبيق الاتفاق والتحقيقات المتعلقة بموجبات إيران القانونية وفق اتفاقية حظر انتشار السلاح النووي ونظامها لتوفير الحماية الشاملة" في هذا المجال. تعبيره عن دعم واشنطن لهذا النظام بقي دون التمسك به كشرط قاطع لا تراجع عنه للتوصل إلى تجديد اتفاق 2015، وفي ذلك إشارة إلى مرونة لفك العقدة.
وثمة من قرأ في كلام الرئيس رئيسي عن "تحقيق موضوعي وواقعي"، إشارة مماثلة أو من ذات الصنف. منتصف الطريق يكون كما تردّد بتجاوز هذا الشرط، من خلال صيغة مواصلة عملية التفتيش هذه لكن بعد التوقيع على الاتفاق.
وسط عملية الشد والجذب هذه، يبقى العراق أو ربما يتحوّل على أثرها، إلى ساحة حصتها من واشنطن لا تتعدّى حرص هذه الأخيرة على "عراق مستقر"، واستعدادها "للتعاون مع أي حكومة يتوافق عليها العراقيون"، أي التسليم بالأمر الواقع، وإحالة نصّ "الشراكة الاستراتيجية" مع بغداد إلى الأرشيف.