فلسطينيو الداخل بعد 20 عاماً من هبة القدس والأقصى

02 أكتوبر 2020
الغضب الفلسطيني امتد لثمانية أيام متتالية (فايز نور الدين/ فرانس برس)
+ الخط -

بمناسبة الذكرى العشرين لهبة القدس والأقصى، التي أحياها أمس الخميس فلسطينيو الداخل في الأراضي المحتلة عام 1948، يرصد "العربي الجديد" ما تغير على مدى عشرين عاماً، في الأحداث التي اندلعت في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول عام 2000 كفعل تضامني أولي مع الشعب الفلسطيني بعد اقتحام زعيم المعارضة الإسرائيلية آنذاك، أريئيل شارون، المسجد الأقصى في الثامن والعشرين من سبتمبر/ أيلول 2000.

ورد الفلسطينيون في الداخل على خطوة شارون بإعلان إضراب عام وتظاهرات شعبية في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول، لتمتد أيام الغضب الفلسطيني في الداخل ثمانية أيام متتالية، قتلت فيها شرطة الاحتلال 13 شهيداً من الداخل. كذلك شنّت حرباً شعواء على العمل السياسي الفلسطيني مع حملة تحريض ممنهجة ضد الأحزاب والفعاليات السياسية في الداخل، لا سيما حزب "التجمع الوطني" بقيادة المفكر العربي عزمي بشارة (قبل خروجه القسري إلى المنفى) والفرع الشمالي للحركة الإسلامية بقيادة الشيخ رائد صلاح، التي قام الاحتلال بحظرها في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، وحركة "أبناء البلد"، مع تصعيد سياسات الخنق الجماعية ومصادرة الأراضي وهدم البيوت.

وقد توجه "العربي الجديد" لثلاثة من الأساتذة البارزين في الداخل الفلسطيني في علوم الفلسفة والتاريخ والسياسة، لإجراء مقاربة حالة الفلسطينيين في الداخل بعد عشرين عاماً: البروفيسور سعيد زيدان، رئيس قسم الفلسفة السابق في جامعة بير زيت وجامعة أبو ديس في القدس وهو من مدينة طمرة في الجليل، والدكتور في التاريخ جوني منصور، ابن مدينة حيفا، وأخيراً أستاذ العلوم السياسية ومدير مركز الأبحاث الاجتماعية التطبيقية "مدى" في حيفا مهند مصطفى، وهو ابن مدينة أم الفحم في المثلث.

ويُجمع الثلاثة على تراجع في المنظور الوطني القومي لصالح المركّب المدني الحقوقي من جهة، وتراجع بناء وخطاب التنظيم القومي للفلسطينيين في الداخل بعد أن كان طاغياً في العقد الأول بعد الهبّة، وعدم الاستفادة من هبّة القدس والأقصى لترشيد تنظيم الأقلية الفلسطينية في الداخل تنظيماً قومياً.

ويرى زيداني، في حديثه مع "العربي الجديد"، أن "هبة القدس والأقصى تشبه في أهميتها ورمزيتها ما حدث في يوم الأرض الأول عام 1967"، مبيناً أن الجيل الذي فجّر الهبّة هو جيل ما بعد يوم الأرض، متأثراً بالبعد القومي والوطني في التضامن مع الشعب الفلسطيني على خلفية ما حدث في الأقصى من اقتحام شارون له وفشل مفاوضات كامب ديفيد سوية مع تراكم مشاعر التمييز من قبل الدولة مع ما يميزها من استياء وغضب.

لا يمكن الفصل بين تراجع أو تقدم الخطاب الوطني والقومي عن الظروف العامة وتحديداً عن الوضع الفلسطيني والوضع العربي

 

ويرصد زيداني ما يصفه اليوم بردة على الأحداث، قائلاً: "ما نلاحظه اليوم بعد عشرين عاماً، وبسبب رداءة الوضع العربي والفلسطيني، ردة وتراجع الخطاب والهم الوطني والاهتمام بالقضية الفلسطينية ليبرز أكثر الشق الآخر، الشق المدني من قبل نواب القائمة المشتركة ومن قبل حركات وأحزاب أخرى وتغليب خطاب المساواة والحقوق في الداخل، علماً بأنه خلال الهبّة كان الهم الوطني والتضامن الوطني والعمل الوطني هو الكفة الراجحة".

وبحسب زيداني، فإنه لا يمكن الفصل بين تراجع أو تقدم الخطاب الوطني والقومي عن الظروف العامة وتحديداً عن الوضع الفلسطيني والوضع العربي، لافتاً إلى أن "هذا الارتداد كما أسميه له علاقة بالوضع الفلسطيني والوضع العربي، الذي يعطي الخلفية العامة، يجب ألا ننسى أن خلفية هبّة القدس والأقصى هي ما حدث في 28 و29 سبتمبر وما تبعها من أحداث في المسجد الأقصى وقتل الطفل الفلسطيني محمد الدرة، وبالتالي فهي جزء من الرد الوطني الفلسطيني العام على هذه الأحداث".

 

ويرى زيداني أنه "كلما صعد تأثير ونجم الهم الوطني الفلسطيني انعكس ذلك أيضاً في الداخل الفلسطيني بصعود الخطاب الوطني، فيوم الأرض الأول في مارس/ آذار 1976 تأثر بصعود النضال الفلسطيني العام والاعتراف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً، وخطاب ياسر عرفات عام 1974 في الأمم المتحدة. وهو تكرر أيضاً في عام 2000 حتى في ظل الانتقادات لأوسلو، فإن جو الاتفاقيات والمفاوضات رفع منسوب الخطاب الوطني في الداخل، وكان واضحاً أنه سيكون للفشل رد وطني أيضاً في الداخل الفلسطيني".

وتابع قائلاً: "التراجع الفلسطيني العام والانقسام والوضع العربي أثرت سلباً على فلسطينيي الداخل وجعلتهم يركزون أكثر على البُعد المدني وقضايا الحقوق في المساواة، وجاء ذلك على حساب الخطاب الوطني والهم الوطني، وهو أمر لا نلمسه فقط في سياق حزب التجمع الوطني وإنما أيضاً لدى أحزاب وحركات أخرى، ونرى ذلك مثلاً عند النائب منصور عباس، فيبرز اليوم مثلاً أن الخطاب الرئيسي والهم الأبرز للنائب عباس (رئيس كتلة الحركة الإسلامية في الكنيست)، يتصدره خطاب المساواة والقضايا المدنية في جدول أعماله". واستطرد بالقول "أدت رداءة الوضع في البعد الفلسطيني واستمرار الانقسام، حماس في غزة وفتح في رام الله، إلى تأثير مباشر على الوضع في الداخل تمثل في تصدع في التجمع الوطني، وفي الحركة الإسلامية".

وبحسب زيداني، فإن هذه الأحزاب ردت بشكل عادي على تشديد السياسة الإسرائيلية الأمنية والسياسية ضد المجتمع الفلسطيني في الداخل ولم تتجه لبناء وبلورة استراتيجية جديدة تعيد حساباتها فيما حدث، لجهة تغيير الأدوات والاستراتيجيات، واكتفت برد عادي غير مبدع لمواجهة التحديات الجديدة.

من جهته، يرى أستاذ العلوم السياسية ومدير مركز الأبحاث الاجتماعية التطبيقية "مدى" في حيفا، مهند مصطفى، أن "هبّة القدس والأقصى مثلت ما نفقده اليوم، تداخل الناس في العمل السياسي، مقابل العزوف عنه اليوم. مشاركة الناس في النضال الشعبي واقتصاره على شريحة صغيرة اليوم. وجود قيادة تقود ولا تنقاد، قيادة لديها مشاريع سياسية وطنية، أمام مشاريع لقيادات تحاول نزع السياسة عنها".

ويضيف قائلاً: "السياسة بمفهوم وجود حالة تسييس نابعة من الانتماء إلى مشروع وطني فلسطيني، يحمل تنوعاً أيديولوجياً داخله، لكن تقويه ثوابت وطنية مشتركة، أهمها أن قضايا الفلسطينيين في مناطق الـ48 هي جزء من القضية الفلسطينية ولا يمكن الفصل بينهم".

ويرى مصطفى أن إسرائيل سارعت لوقف المد الفلسطيني في الداخل لأنها "أدركت أن الانتفاضة هي حدث مفصلي. وإذا استمرت روحها بالحضور سيكون العرب غير العرب الذين عرفتهم قبل ذلك"، مضيفاً "تبنّت إسرائيل استراتيجيتين في التعامل مع هذه الحقيقة، وكلا الاستراتيجيتين تصبّان في تحقيق هدف واحد، تفكيك المشروع السياسي الجامع والجماعي للفلسطينيين في الداخل". 

 

وأضاف موضحاً "الاستراتيجية الأولى هي تجريم العمل السياسي، وملاحقة حركات وقيادات سياسية تشدد في خطابها على تنظيم الجماهير الفلسطينية. وشهدنا خلال العقد الأول بعد الانتفاضة حملة حثيثة وكثيفة في ملاحقة حركات وقيادات سياسية، وحتى نشطاء سياسيين. أما الاستراتيجية الثانية فهي مركبة جداً. تتمثل في دمج الفلسطينيين كأفراد في المجتمع الإسرائيلي. عملت مؤسسات الدولة على إفساح المجال لدمج العرب في الاقتصاد كأفراد، دون تمكين العرب من بناء اقتصاد عربي حتى لو كان على نطاق محلي".

وفي سياق مراجعة تفاعل وتعامل الأحزاب والهيئات العربية في الداخل مع تبعات وتداعيات هبة القدس والأقصى، قال مصطفى "لم نستغل هذا الحدث المفصلي ونعيد قراءته وفهمه سياسياً، من خلال السعيّ إلى تنظيم المجتمع العربي عبر بناء مؤسسات وطنية جامعة وتفعيلها. لم يكن قصورنا فورياً، بل تراكم حتى وصلنا إلى المرحلة الحالية التي فيها تعظيم لسياسات التمثيل على حساب سياسات التنظيم، تمثيل المجتمع في مؤسسات الدولة مقابل تنظيم المجتمع".

ويعتقد مصطفى أن "هذه التوجهات اتضحت منذ عام 2015، مع تأسيس القائمة المشتركة والتي أثرت كثيراً على التجمع الوطني الذي فقد الكثير من تأثير خطابه السياسي جراء القائمة المشتركة، وحُظرت الحركة الإسلامية قبل ذلك، فتراجع وضعف صوت وتوجه سياسات التنظيم أمام خطاب التمثيل، مع التأكيد أن رسالة انتفاضة القدس والأقصى كانت تطالبنا بتعظيم سياسات التنظيم".

أما المؤرخ جوني منصور، فيرى أنه إلى جانب إثبات الهبة لتعامل الدولة معهم كأعداء فإنه يمكن أيضاً "اعتبار هذه الهبة تمرداً على سياسة الدولة التي تنظر إلى مواطنية العرب فيها بدرجة أقل، وتعمل على فرض الهيمنة والسيطرة عليهم وتسييرهم بموجب أجندة خارج إطار المواطنة الواحدة. ومما لا شك فيه أن هبّة أكتوبر أبرزت الشرخ بين العرب والدولة. فالدولة تعتبرهم رعايا وليسوا مواطنين، وإن سمّتهم مواطنين فهم ليسوا مواطنين إلا على قاعدة الانتماء الطائفي وليس القومي". 

ومع أنه يشير إلى لجنة المتابعة العليا للفلسطينيين في الداخل كإطار تمثيلي مهم إلا أنه يرى أنها "لم تعبر مراحل إعادة هيكلة وتجديد منظورها وأهدافها ومؤسساتها"، قائلاً إن "الحاجة ماسة إلى إصلاح جذري في هذه اللجنة وتحويلها إلى هيئة وألا تبقى لجنة. أما بالنسبة للمشتركة فهي تركيبة أو توليفة للبقاء في البرلمان الإسرائيلي واللعب في ملاعبه".

وتابع قائلاً إن "اللعب بملعب هذا البرلمان هو القبول بتوجهاته الصهيونية المعادية للشعب الفلسطيني، سواء في الداخل أو الخارج. في حين أن نسبة المقاطعين تزداد يوماً بعد يوم من منطلقات تتعلق بفهم العلاقة مع الدولة وكموقف تعبيري عن رفض سياسات الدولة ورفض المشاركة ضمن مؤسسات الدولة التي لا تعتبر الفلسطيني مواطناً ولا تعتبر وجود حق فلسطيني في هذا الوطن".

وأوضح منصور أن هناك "أيضاً سوء أداء المشتركة خلال جولات الانتخابات الأخيرة. تجربة المشتركة كفكرة جيدة لتتيح المجال لعمل مشترك بعيداً عن المناكفات السياسية، ولكنها، أي التجربة، حدت من النقاش السياسي الفكري بين التيارات الحزبية والسياسية التي تركب المشتركة. وبالتالي تراجع النقاش الفكري-الأيديولوجي ليتيح المجال لفكر له علاقة بتسيير أمور مركبات المشتركة فقط". 

 

وبرأي منصور فإن هناك من يرى أهمية لوجود تمثيل برلماني في الحد الأدنى للمواطنة وأن "نقول كلمتنا" وأن "نكون حاضرين"، وأن "نضع حداً للفاشية واليمين"، مؤكداً أنها "كلها شعارات عفا عليها الزمن وخرجت من هذا العصر". وشدّد على أنه "إن كانت هناك ضرورة لاستمرار هذه التجربة فيجب بناؤها على أسس أخرى ومفاتيح تمثيلية مختلفة، وفوق كل ذلك وضع خطة استراتيجية للعمل وليس لبث ونشر ونثر الشعارات وترهيب الجماهير بخطورة الوضع". 

وختم بالقول إن "الوضع خطر من عام 1948 وحتى من قبله. يجب إعطاء الجماهير بارقة أمل قوية ترفع من معنوياتهم السياسية".

المساهمون