تتعدّد الفضائح التي تم رصدها في ما سُمّي انتخابات رئاسية في سورية، قبل أيام. لكن أحد أكثر أشكالها وضوحاً ظهر من خلال الأرقام الخيالية التي قدمتها بروباغاندا النظام للناخبين وللنتائج ونسب التصويت. صحيح أن نظام الأسد (منذ عهد الأب حافظ) لم يتخل يوماً عن سياسته في تضخيم أرقام المشاركين في التصويت في كل الاستفتاءات والانتخابات، التي جرت منذ سبعينيات القرن الماضي، لكن ما جرى يوم الأربعاء الماضي، الذي شهد انتخابات رئاسية شكلية، كان عبارة عن فضيحة مكتملة. وأعلن النظام، الخميس الماضي، نسباً للمصوّتين منافية للواقع الديمغرافي في مناطق سيطرة هذا النظام، والتي لا تكاد تصل إلى نصف مساحة البلاد.
نسبة النواحي التي لم تشهد انتخابات وصلت إلى 42 %
وأعلن رئيس "مجلس الشعب" (البرلمان) حمودة صباغ فوز بشار الأسد بأغلبية أصوات الناخبين المطلقة في الانتخابات الرئاسية، التي أجراها النظام في المناطق الخاضعة لسيطرته. وزعم صباغ أن نسبة الإقبال على التصويت، في ثاني انتخابات رئاسية يجريها النظام منذ انطلاق الثورة السورية في 2011، بلغت 78.64 في المائة. كما زعم أن الأسد فاز بنسبة أكثر من 95 في المائة، بحصوله على 13 مليوناً و540 ألف صوت، بينما حصل المرشحان الآخران، وهما عبد الله سلوم عبد الله ومحمود مرعي، على 1.5 في المائة و3.3 في المائة من الأصوات على التوالي.
وفور صدور هذه الأرقام، بيّنت مراكز دراسات وشخصيات سورية معارضة أن النظام صدّر أرقاماً غير حقيقية عن نسبة المصوتين في الانتخابات. ومن الواضح أن النظام أدخل ملايين المهجرين، ومئات آلاف المعتقلين، وأكثر من مليون سوري قُتلوا خلال سنوات الحرب في القصف الجوي من قبل طيرانه والطيران الروسي وفي العمليات العسكرية، ضمن أعداد المصوتين. ودحض تقرير بحثي مشترك بين مركز "جسور للدراسات" السوري، و"منصة إنفورماجين" لجمع وتحليل البيانات، أرقام المشاركين في التصويت بالانتخابات الرئاسية. وذكر أنّ عدد من يحق لهم الاقتراع في مناطق سيطرة النظام، وفق التقسيم الرسمي للوحدات الإدارية على أساس النواحي التي يبلغ عددها 270 في سورية، يبلغ نحو 6 ملايين شخص ممن تجاوزوا 18 سنة في النواحي التي شاركت في هذه الانتخابات، مقابل قرابة 5 ملايين و150 ألفاً في النواحي التي قاطعتها.
وأوضح التقرير أنّ هذه الأرقام تأخذ في الاعتبار الحدود العليا للمشاركة ممن يحق لهم الاقتراع، وذلك استناداً إلى دراسة سكانية أعدتها "منصة إنفورماجين"، والتي أظهرت أنّ عدد من أتمّوا 18 سنة هم بحدود 66 في المائة من مجمل عدد السكان في سورية. وأضاف التقرير أنّ النظام لم يتمكن من فتح مراكز انتخابية في نحو 70 ناحية في سورية من أصل 270، فضلاً عن أنه وضع صناديق للاقتراع في 46 ناحية أخرى بتسع محافظات، لكن هذه النواحي قاطعت الانتخابات، مشيراً إلى أن نسبة النواحي التي لم تشهد انتخابات وصلت إلى 42 في المائة من مجمل النواحي في البلاد.
وسبق أن أصدر مركز "جسور للدراسات" بالتعاون مع "منصة إنفورماجين"، في مارس/ آذار الماضي، دراسة توضّح توزيع السكّان داخل وخارج سورية، وفي مناطق سيطرة كل من النظام والمعارضة و"قوات سورية الديمقراطية" (قسد). وبيّنت الدراسة أنه يوجد حالياً داخل سورية نحو 16.5 مليون نسمة، منهم نحو 9.4 ملايين في مناطق النظام، و7.075 ملايين في المناطق الخارجة عن سيطرته.
وكان النظام قد حاول إظهار ما سمّاه بـ "الإقبال الجماهيري" على المشاركة في الانتخابات، بدءاً من العشرين من الشهر الحالي، حيث جرت انتخابات للسوريين في الخارج. ونشطت الآلة الإعلامية التابعة للنظام في إبراز صورة مغايرة للواقع للمشاركين في الانتخابات في لبنان، الذي يوجد فيه نحو 1.5 مليون سوري، ما بين لاجئ ومهجر ومقيم. ففي حين تحدثت هذه الوسائل عن مشاركة عشرات الآلاف من السوريين في التصويت، إلا أن المعطيات تشير إلى أن نسبة المصوتين كانت متدنية جداً في لبنان.
رضوان زيادة: بشار الأسد يحدد الرقم الذي يود الفوز به
وضمن هذا السياق جاءت الأرقام المعلنة مساء الخميس الماضي عن الانتخابات الرئاسية، التي جرت وفق دستور 2012، منسجمة تماماً مع نهج النظام السوري مع كل استحقاق انتخابي منذ استيلاء الأسد الآب على السلطة بانقلاب عسكري في 1970. وفي منتصف عام 2000 ورث بشار الأسد السلطة عن أبيه. وأجرى بشار الأسد، قبل الثورة، استفتاءين على رئاسته عوضاً عن إجراء انتخابات، الأول في عام 2000، وفاز به بنسبة وصلت إلى أكثر من 99 في المائة، والثاني في 2007 حصل فيه على نسبة تعدّت 97 في المائة. ولطالما تندر السوريون على هذه الاستفتاءات، إذ لا يستثني النظام في أرقامه المعلنة عقب كل استفتاء المتوفين أو اللاجئين، أو الذين غادروا البلاد للعمل في دول عربية، ويقدر عددهم بالملايين. وأجرى بشار أول انتخابات في عهده في عام 2014 وُصفت بـ "الهزلية" والشكلية، إذ جاءت في ذروة الحرب ضد السوريين المعارضين لحكمه. وأعلن النظام في حينه أن بشار الأسد فاز بنسبة وصلت إلى أكثر من 88 في المائة، أمام منافس مغمور اختاره النظام بعناية وهو حسان النوري. ويبدو أن الأسد وجد أن هذه النسبة لم تعد تكفيه، فرفعها في الانتخابات التي جرت قبل أيام إلى أكثر من 95 %. وامتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بمقاطع مصورة تظهر غياب أي آلية قانونية للانتخاب، حيث يستطيع الشخص التصويت أكثر من مرة، بل إن مواطنين عرباً أدلوا بأصواتهم في الصناديق في عدة دول. كما تم التداول بمقاطع مصورة تظهر أحد الموظفين يقوم بتحديد اسم الأسد على بطاقة الاقتراع قبل إعطائها للمواطنين لوضعها في الصندوق.
وفي هذا الصدد، أشار المحلل السياسي رضوان زيادة، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن إصرار النظام السوري على الأرقام العالية في نتائج الاستفتاءات، وتالياً في الانتخابات، "دليل على العجرفة وعدم الاكتراث برأي مواطنيه". وقال: "غالباً يكون الرقم رداً على الخارج أكثر منه تأكيداً لشرعية داخلية". وأشار إلى أن بشار الأسد "يحدّد الرقم الذي يود الفوز به، وبعدها يتم ترتيب الأمور الأخرى"، مضيفاً: "هو (الأسد) يعتبر أن الرقم كلما ارتفع يكون رداً على مؤامرة خارجية، كما يتوهم".