فضائح "المحافظين" في بريطانيا: رشوة وتهرّب ضريبي وتنمّر وتحرّش

25 مايو 2023
من اعتصام لعمال الإسعاف في لندن، فبراير الماضي (Getty)
+ الخط -

جاء إعلان نائب رئيس الوزراء البريطاني الأسبق دومينيك راب قبل أيام نيّته "التنحي" عن عضويته في البرلمان خلال الانتخابات العامة المقبلة، ليُضاف إلى إعلانات شبيهة أطلقها حتى اللحظة أكثر من 37 برلمانياً عن حزب المحافظين الحاكم، ما يمثّل 10 في المائة من أعضاء البرلمان، وهي نسبة أعلى بكثير مما تسمح به المرحلة التي تسبق الانتخابات العامة.

إلا أن تلك "الاستقالات المفترضة" على أعتاب انتخابات عامة مقررة بعد عام ونصف العام على أبعد تقدير، تكتسب رمزية إضافية بعد الخسارة المدوية التي مُني بها الحزب الحاكم في الانتخابات المحلية بداية شهر مايو/ أيار الحالي، إذ خسر أكثر من ألف مقعد في معاقله التقليدية والتاريخية.

كما أن 12 عضواً ممن أعلنوا عن نيّتهم الاستقالة تقلّ أعمارهم عن الخمسين عاماً، بحسب صحيفة "ذا أوبزرفر"، وهو أمر غير معتاد على الإطلاق أن يغادر عضو البرلمان "المحافظ" مجلس العموم طواعية قبل بلوغ سن التقاعد، ما يحيل إلى ارتفاع نسبة الإحباط في صفوف الحزب وفقدان اليقين بقدرته على الصمود والبقاء في الحكومة المقبلة.

ويكتسب إعلان راب عن نيّته التنحي ثقلاً إضافياً، كونه ليس مجرّد سياسي "محافظ" أو عضو برلمان، بل هو أيضاً أحد "المتورطين" برفع نسبة الإحباط في صفوف الحزب والناخبين معاً، عندما أثبتت التحقيقات مزاعم التنمّر التي أطلقها ضدّه موظفو الخدمة المدنية، ما أدى إلى استقالته من منصبه كوزير للعدل ونائب لرئيس الحكومة قبل شهرين.

الفضائح الداخلية المتراكمة منذ سنوات إلى جانب الإخفاقات السياسية والاقتصادية أدّت إلى تراجع شعبية الحزب

ومع أن ذهنية "المؤامرة" تهيمن على العلاقات العامة والخاصة في معاقل حزب المحافظين، إلا أن نسبة الإحباط تلك لا علاقة لها بأي مؤامرة. كما أن التراجع الكبير في شعبية الحكومات المتعاقبة منذ 13 عاماً لم تثرها مكائد المعارضين أو "الخصوم" الكثيرين.

ولو أمعنّا النظر في السياسات العامة للحزب خلال السنوات الثلاث الماضية، فليس أسهل من القول إن تلك السياسات نفسها هي "المؤامرة" الكبرى التي حيكت ضد المحافظين، ووحدها الفضائح الداخلية المتراكمة منذ سنوات إلى جانب الإخفاقات السياسية والاقتصادية هي التي أدّت في المرتبة الأولى إلى تراجع شعبية الحزب وإلى فقدان الثقة بحكوماته.

خرق القانون تحت شعار "المساءلة"

صحيح أن الفضائح بلغت ذروتها خلال عهد زعيم الحزب الأسبق بوريس جونسون، إلا أنها تبدو اليوم مع الزعيم الحالي ريشي سوناك أكثر "فجاجة"، بعد الدروس "الأخلاقية" التي حاضر بها خلال ترشحه لزعامة الحزب الصيف الماضي، متعهداً بثلاث أولويات هي "النزاهة والكفاءة المهنية والمساءلة"، وحاملاً على عاتقه مهمة إخراج الحزب من "الحضيض" الذي وصل إليه وإعادة توحيد صفوفه واستعادة ثقة الناخب البريطاني.

إلا أن الناخب البريطاني عاش محنة قاسية خلال الشتاء الماضي مع أزمة غلاء المعيشة وارتفاع التضخّم وتضاعف أسعار المواد الغذائية وارتفاع أسعار الطاقة والضرائب، وعجز الملايين عن تلبية احتياجات أساسية وسط موجة غير مسبوقة من الإضرابات التي شلّت قطاعات حيوية كخدمة الصحة الوطنية NHS وخدمات النقل العام والبريد الملكي والإطفاء وغيرها.

وفي ظلّ أزمة اقتصادية خانقة، يبدو سوناك تحديداً أكثر إثارة للحنق من جونسون أو خليفته ليز تراس أو أي سياسي آخر. فرئيس الحكومة الحالي مليونير في زمن "البحث عن الرغيف"، وبلغت تكلفة حوض السباحة المدفّأ في قصره في يوركشاير 400 ألف جنيه إسترليني (نحو 500 ألف دولار)، ما دفع نشطاء البيئة للاحتجاج خلف أسوار القصر نهاية العام الماضي، وهم يرتدون ملابس السباحة ويحملون معدّات الغوص، لأن المسبح المدفّأ "يستنزف الطاقة" في الوقت الذي يعجز فيه الملايين عن دفع فواتيرهم لتدفئة بيوتهم وأطفالهم.

وبالتأكيد، ليست مشكلة سوناك أنه ثري، لا بل أثرى سياسي في بريطانيا، بل إن ثراءه منعه على ما يبدو من ملامسة الأزمات التي يعيشها الملايين، إضافة إلى أنه رئيس حكومة غير معنية بتلك الأزمات وزعيم حزب تعمّه الفوضى والخلافات وتلاحقه تهم الفساد والتحرّش والتحايل على القانون والمحسوبيات وغيرها من الصفات الرديئة التي تخدش صورة "بريطانيا العظمى".

هذا ربما ما دفع سوناك للقول في خطابه أمام مجلس العموم بداية الأسبوع إنه يرفض وجهة النظر القائلة إن "بريطانيا ونفوذها تراجعا عن المسرح العالمي"، مما يطرح السؤال حول الفجوة الكبيرة التي تفصله عن هموم الشارع وتطلّعات الناخبين على الرغم من انحداره من عائلة مهاجرة وعاملة.

وإذا كان الغزو الروسي لأوكرانيا والاستجابة السبّاقة للمملكة المتحدة قد أنقذا جونسون بضعة أشهر، إلا أن السياسة الخارجية لم تعد قادرة على إنقاذ حزب المحافظين. كما أن الناخبين غير معنيين وفق الاستطلاعات بـ"مكانة بريطانيا ونفوذها على الساحة الدولية"، بقدر ما تعنيهم السياسة الداخلية، اقتصادياً وأمنياً واجتماعياً.

السياسة الخارجية لم تعد قادرة على إنقاذ حزب المحافظين

فما معنى أن تحافظ "بريطانيا العظمى" على مكانتها العالمية، في الوقت الذي يقود فيه حكومتها رجل يخضع حالياً للتحقيق من قبل مراقبي المعايير في البرلمان لأنه لم يخبر أعضاء مجلس العموم بأن زوجته تمتلك أسهماً في أحد مراكز رعاية الأطفال المستفيدة من الميزانية العامة، لتلاحقه التهمة ذاتها التي لاحقت جونسون وما تزال: "تضليل البرلمان".

وكتب مركز رعاية الأطفال "كورو" على موقعه أن الحوافز الجديدة التي أعلن عنها وزير المال جيرمي هانت الشهر الماضي "رائعة"، ما دفع معارضي سوناك إلى القول إن هناك "أسئلة جدّية" حول الفوائد التي يمكن لعائلته تحصيلها من خلال الإجراءات الحكومية.

هذا عدا عن أن سوناك هو ثاني رئيس وزراء بريطاني في التاريخ بعد جونسون، تصدر الشرطة بحقّه بدل الغرامة غرامتين، الأولى لحضوره في إحدى حفلات "داونينغ ستريت" أثناء الإغلاق عندما كان وزيراً للمال، والثانية لنشره مقطعاً مصوراً يظهر فيه في سيارته من دون وضع حزام أمان وهو في منصبه الحالي.

وبالعودة إلى قضية "تضليل البرلمان"، احتجّت وكالة الإحصاء البريطاني عبر رسالة أرسلتها أخيراً للحكومة تزعم فيها أن سوناك "قدّم أرقاماً غير صحيحة أمام مجلس العموم حول تراكم طلبات اللجوء".

استقالات

قد تكون الاستقالات واحداً من أبرز ملامح حكومات المحافظين المتعاقبة، إلا أن دوافع معظمها لم تكن "احتجاجية" ولا "ثورية"، بل "قسرية" على خلفية فضيحة مدوية.

وتجدر الإشارة إلى أن السمة التي تجمع كل تلك الاستقالات هي "التغاضي" عن التهم الخطيرة والمزاعم الأخطر وإبقاء أصحابها في مناصبهم القيادية، ريثما تنتهي التحقيقات ويتم إثبات تورّطهم في مجموعة متنوّعة وغنية من التهم، بين خرق القوانين الوزارية والتنمّر والتحرّش والرشوة والفساد ومشاهدة الأفلام الإباحية في البرلمان والاعتداء الجنسي على الأطفال وغيرها.

هذا ما يجعل التجاوزات الحالية أكثر "فجاجة" من تلك التي حدثت في عهد جونسون أو تراس، إذ استقال من حكومة سوناك الذي رفع شعارات "المساءلة والنزاهة والكفاءة المهنية" ثلاثة وزراء حتى هذه اللحظة، هم: غافين ويليامسون وناظم الزهاوي ودومينيك راب.

استقال من حكومة سوناك الذي رفع شعارات "المساءلة والنزاهة والكفاءة المهنية" ثلاثة وزراء حتى هذه اللحظة

بالإضافة إلى أن وزيرة الداخلية في حكومته سويلا برافرمان سبق أن استقالت من منصبها في حكومة تراس بسبب خرقها القانون وتسريبها وثيقة سرية عبر البريد الإلكتروني. وهي اليوم متّهمة مجدداً بخرق القانون بعد أن تجاوزت السرعة الصيف الماضي، مطالبة موظّفي الخدمة المدنية بإعفائها من دورة التوعية الجماعية. وهي نفسها متّهمة أيضاً بـ"العنصرية" بسبب سياساتها ضد المهاجرين.

وذكرت صحيفة "ذا تلغراف" أمس الأربعاء أن سوناك قرر عدم إقالة برافرمان بسبب تعاملها مع مخالفة تجاوز السرعة العام الماضي، مشيرة إلى أنه من غير المتوقع أن تواجه تحقيقاً بشأن القضية. ووجّهت الوزير رسالة إلى رئيس الحكومة اعتذرت فيه عن تصرفها، ورد الأخير معتبراً أنها قدمت اعتذاراً صريحاً.

إخفاقات

إلى جانب الاستقالات والفضائح، كانت الإخفاقات من أبرز سمات الحكومة الحالية والحكومتين السابقتين، خصوصاً في ملف إدارة الاقتصاد، وسط أزمة عالمية غير مسبوقة تسبّبت بها جائحة كورونا، ثم الغزو الروسي لأوكرانيا، علماً أن قطاعات حيوية تناجي الحكومة منذ سنوات من دون جدوى، ما أدى إلى أكبر انهيار يشهده القطاع الصحي منذ تاريخ تأسيسه قبل أكثر من 100 عام.

وتسبب ذلك بأوسع موجة إضرابات تشهدها البلاد منذ السبعينيات، وأدّى أخيراً إلى خسارة الحزب الحاكم الانتخابات المحلية، كما تشير معظم التوقّعات إلى أن خسارته الانتخابات العامة المقبلة باتت بديهية ومتوقّعة بل مرجّحة.

قوانين جديدة ضد القانون

أمر آخر لا يقلّ خطورة عن الفضائح والإخفاقات، اتّسمت به حكومات المحافظين خلال السنتين الماضيتين، وتجلّى بتمرير القوانين التي تتماشى مع السلوك العام في مجلس الوزراء والتي من شأنها أن "تعفي" السياسيين من مسؤولياتهم والتزاماتهم الأخلاقية.

وكان جونسون أول من افتتح سلسلة القوانين الجديدة تلك عبر قانون يعفي المسؤولين من الاستقالة إن أخطأوا، ولا يلزمهم في حال ارتكاب الخطأ سوى بالاعتذار. بينما مرّرت وزيرة الداخلية في حكومته بريتي باتيل مجموعة جديدة من البنود تعفي الشرطة من "القيود" التي فرضتها عليهم الزعيمة السابقة تيريزا ماي عندما كانت وزيرة للداخلية عام 2014 بما يتيح لهم استخدام "العنف" بالقانون، أثناء قيامهم بمهام التوقيف العشوائي والتفتيش القسري والاعتقال في حال اشتبهوا مجرّد اشتباه بـ"وقوع أعمال عنف خطيرة".

مررت حكومات المحافظين قوانين من شأنها أن "تعفي" السياسيين من مسؤولياتهم والتزاماتهم الأخلاقية

جاءت البنود تلك بعد أن "هندست" باتيل خطة رواندا المثيرة للجدل. يضاف إلى ذلك محاولات حثيثة لخرق قوانين ومعاهدات دولية كما حدث مع بروتوكول أيرلندا الشمالية المتنازع عليه ذلك الوقت أو كالتلويح بالانسحاب من المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان لتبرير خطة الترحيل التي وصفها مسؤولون أمميون بـ"غير الأخلاقية" و"غير القانونية" في حين وصفها الملك تشارلز بـ"المروّعة".

من جهتها، مرّرت حكومة ريشي سوناك مشروع قانون "أوقفوا القوارب" الرامية إلى منع كل المهاجرين من القدوم إلى المملكة المتحدة بطريقة "غير قانونية"، في الوقت الذي لا توجد فيه أي طرق قانونية، متوعدة بإيقافهم وترحيلهم على الفور إلى رواندا أو تسليمهم إلى بلدانهم في حال كانت "آمنة".

ولم يكتف سوناك بتمرير مشروع القانون محلياً، بل حمله معه إلى أيسلندا قبل أيام وطرحه على رئيسة المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان سيوفرا أوليري لتستفيد من خبرة حكومة المحافظين في "خرق القوانين الدولية".

كما أنه طرح خلال لقائه بها "ضرورة إجراء عملية إصلاح شاملة للمحكمة الأوروبية" انطلاقاً من إعادة النظر بالمادة 39 من اتفاقية حقوق الإنسان "لضمان الشفافية المناسبة والمزيد من المساءلة وإمكانية إعادة النظر بالقرارات"، بحسب "داونينغ ستريت".

تجدر الإشارة إلى أن المادة 39 تحديداً هي التي أتاحت لقضاة ستراسبورغ منع إقلاع طائرة الترحيل إلى رواندا العام الماضي، إذ تقضي بالسماح للمحكمة "بمنع ووقف طرد أو ترحيل أو تسليم الأشخاص". ولن يكون قانون النظام العام الذي أقرّته وزيرة الداخلية سويلا برافرمان قبل يومين من مراسم تتويج الملك تشارلز هو آخر القوانين "الإشكالية"، لكنه أثار موجة احتجاجات واسعة لما يشكله من "تهديد" للحريات العامة ولعمل المنظمات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني ونشطاء البيئة.

وبالفعل، أقدمت الشرطة صباح السادس من الشهر الحالي، أي قبل ساعتين فقط من بدء مراسم التتويج، باعتقال عشرات النشطاء الجمهوريين ممن كانوا في طريقهم إلى وسط العاصمة لتنظيم وقفة احتجاجية. وعمليات الاعتقال جرت "تحت غطاء" القانون الجديد الذي نفت برافرمان أن يكون تمريره مرتبطاً بالتتويج، قائلة إنها مجرد "صدفة".